* ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
زيغمونت باومان Zygmunt Bauman ( الذي توفّى قبل بضعة أسابيع ) هو من غير شكّ واحد من أكثر علماء الإجتماع تأثيراً على مستوى القارة الأوربية وعلى مستوى العالم كذلك ، وتشتمل قائمة كتبه – التي تُقرَأ في كل القارات – نحواً من ستين كتاباً واظب على نشرها بمثابرة واضحة منذ أن تقاعد عام 1990 من عمله أستاذاً لعلم الإجتماع في جامعة ليدز البريطانية – ذلك الموقع الذي شغله على نحو مستمر لما يقارب الثلاثة عقود .
الحوار التالي هو القسم السادس والأخير من حوار مع زيغمونت باومان منشور أصلاً بالألمانية في مجلة Das Magazin وكذلك بالإنكليزية في مطبوعة 032c ( العدد 29 المنشور في مطلع 2016 ) ، ويُلاحظ في هذا الحوار توزّعه على معظم المحاور التي عمل عليها باومان في كتاباته الكثيرة ؛ الأمر الذي يجعل من هذا الحوار ذا أهمية إستثنائية في معرفة الخطوط العامة لفكر باومان لمن لم يقرأ أعماله الأصلية .
أودّ في خاتمة سلسلة حوارات باومان أن أشير إلى كتابه الأخير المعنون ( اليوتوبيا المُستعادة Retrotopia ) المزمع طرحه للأسواق في 13 مارس ( آذار ) من هذا العام ( 2017 ) عن دار POLITY ، وأرى من المناسب ترجمة الوصف الذي وضعته دار النشر للكتاب على موقعها الألكتروني :
( لطالما إفتقدنا ومنذ عهد بعيد إيماننا بالفكرة القائمة على أساس أن الكائنات البشرية يمكن أن تبلغ السعادة المرتجاة في دولة مثالية مستقبلية من نوعٍ ما – دولة سبق لِـ ( توماس مور ) منذ خمسة قرونٍ خلت أن ربطها بمكان مثالي ( أرض أو جزيرة أو دولة ذات سيادة ) تحت سلطة حاكمٍ ممتلئ حكمةً وعدلاً وخيراً ؛ ولكن في الوقت الذي فقدنا فيه إيماننا بكلّ اليوتوبيات – على إختلاف أشكالها – فإن الطموح البشريّ الذي جعل الرؤية اليوتوبية جذابة ومغوية لم يتلاشَ أو ينتهِ إلى العدم بل يطلُّ في عصرنا هذا بهيئة رؤية تركّز على الماضي لاعلى المستقبل : تتطلّع هذه الرؤية لا إلى مستقبل ينبغي تخليقه بل إلى ماضٍ أهمِل طويلاً لكنه لم يزل حياً يقاوم الموت ، وهذا الماضي المتسربل بإمارات الحياة هو مايمكن أن نسمّيه ( اليوتوبيا المستعادة ( .
إن إنبثاق هذا اليوتوبيا المستعادة يتشابك على نحوٍ وثيق مع الهوّة المتباعدة باضطراد بين السلطة والسياسة ، وتلك خصيصة ملازِمةٌ لعالمنا السائل الحديث الذي يحتوي حياتنا المعاصرة – تلك الحياة التي باعدت كثيراً بين القدرة على فعل الأشياء والإمكانية على تقرير أي الأشياء نحن حقاً بحاجة لفعلها قبل سواها ؛ وهي إمكانية لطالما نظرنا إليها على أنها صلاحية حصرية مُناطة بالدولة ذات السيادة . إن هذه الهوة المتباعدة جعلت ( الأمة – الدولة ) غير قادرة على الإيفاء بما كانت وعدت به ؛ الأمر الذي نجم عنه إستياء واسع النطاق تجاه فكرة أن المستقبل سيرتقي بالحالة البشرية على نحوٍ محتّم وكذلك شيوع عدم الثقة بقدرة كلّ تشكّلات ( الأمة – الدولة ) السائدة على تحقيق هذا الإرتقاء البشري . إن الأوجه المتخيّلة لهذه اليوتوبيات المتخيّلة ( سواء كانت أصيلة أو مُفترضة ) تخدم في عالمنا المعاصر كمثابات رئيسية في رسم خارطة طريق نحو عالم أفضل ، وهذا هو مايفعله ( زيغمونت باومان ) في واحدة من اليوتوبيات المستعادة التي يسائل مرتسماتها من خلال تشريحه الدقيق لهذه الملاعبة الرومانسية المعاصرة مع الماضي
المترجمة
المحور العاشر : المستقبل
* أنت ناقد لا ينفك عن نقد مجتمعنا المعاصر ، وثمة بين الوقت والآخر لمحات من الماركسيّ الذي كنتَه يوماً ما تظهر في ثنايا كتاباتك الناقدة ؟
– في برهة من حياتي السابقة إكتشفت أنطونيو غرامشي الذي وفّرت لي فلسفته إنصرافاً نبيلاً خارج حدود الماركسية ؛ غير أنني لم أصبح في يوم لاحق معادياً للماركسية مثلما فعل الكثيرون . تعلّمتُ الكثير من ماركس ، ولازلت حتى يومنا هذا مشدوداً للفكرة الإشتراكية التي ترى بأن مقياس أي مجتمع يجب أن يكون على أساس نوعية الحياة التي يوفّرها لأفراده الأكثر ضعفاً وقدرة ( على جميع الأصعدة ) .
* ولكن من جهة أخرى أنت متشائمٌ إلى حد بعيد . باتت قدرة الرأسمالية الجديدة متعاظمة وبلغت حدوداً لم يبقَ معها سوى حيّز ضئيل للغاية أمام أي بديل محتمل عنها . أليست هذه الحقيقة مدعاة لليأس ؟
– إعتدتُ بعد نهاية محاضراتي أن أرى الكثير من الأيادي المرفوعة بين الحضور والتي تبتغي سؤالي عن السبب وراء تشاؤمي الخطير ، وعلى العكس من هذا عندما أتحدّث عن الإتحاد الأوربي ؛ إذ غالباً مايسألني الحضور عن سبب تفاؤلي المفرط . يظنّ المتفائلون أن هذا العالم هو الأفضل بين كلّ العوالم الممكنة ، ويخشى المتشائمون أن يكون المتفائلون على حقّ في رؤيتهم . بالنسبة لي فأنا لاأنتمي إلى أي من الفريقين وأرى طريقاً ثالثاً يمكن أن أعدّ نفسي من روّاده – ذلك هو طريق الأمل .
* كيف تتّفق رؤيتكَ هذه مع إعجابك بِـ ( ميشيل ويلبك* ) : الكاتب الأكثر إثارة للكآبة في يومنا هذا ؟
– أحبّ ويلبك بسبب بصيرته الحادة وموهبته في حدس الشأن العام في سياق التفاصيل الخاصة ، وفي كشف الغطاء عن القدرات الداخلية المخبوءة للمرء ، وقد فعل كل هذا في عمله المسمّى ( إمكانيّة وجود جزيرة ) الذي أراه العمل الديستوبيّ الأكثر إستبصاراً حتى اليوم بشأن المجتمع المتشظي والفاقد لكل الضوابط الحاكمة والفردانيّ حتى النخاع في عصر الحداثة السائلة التي نحياها . يعبّر ويلبك عن شكوكه العميقة في كل اعماله ولايُبشّر بأية آمال عريضة وهو لايفتأ يوفّر أسانيد لتقييمه الكئيب للمجتمع البشري . أنا لستُ متفقاً بالكامل مع طروحاته ؛ غير أني مررتُ بأوقات عصيبة وأنا أحاول تفنيد تلك الطروحات ، ويمكن مقارنة ديستوبيا ويلبك مع عمل أورويل ( 1984 ) ؛ غير أن أورويل كتب بشأن مخاوف جيله ، أما ويلبك فوصف الكيفية التي سنغدو عليها إذا ماواصلنا العيش على ذات الطريقة التي إعتدناها : الشكل الأعلى من الوحدة ، التباعد والإنفصال الكامل عن الآخرين ، والشعور بلاجدوى الحياة وانعدام المعنى فيها .
* وأين يكمن الأمل إن كان ثمة مابقي من أمل ؟
– ثمة أمر في غاية الأهمية تفتقده أعمال ويلبك : فقدان سلطة السياسة ( كما فقدان سلطة الفرد ) ليسا المثلبتين الوحيدتين اللتين ينبغي توجيه اللوم لهما بشأن قتامة مشهد عالمنا الحاضر ، ولكن يمكن أن يكونا سبباً لايمنع من إمكانية عكس المشهد القاتم . التشاؤم ينطوي على فعل سلبيّ لأنه يعني عدم فعل شيء مؤثر بسبب القناعة الراسخة بأن لاشيء يمكن تغييره ، لكنني لستً شخصاً غير فعّال : أنا أكتب الكتب وأطيل التفكير كل آن كما أنني شغوف بأمر العالم ، وأرى أن دوري هو أن أنبّه الناس بشأن المخاطر المحيقة بهم وأن يفعلوا شيئاً لتفاديها .
* ميشيل ويلبك Michel Houellebecq : مؤلف ومخرج سينمائي وشاعر فرنسي ولد عام 1956 ، يعتبره معجبوه خليفة للماركيز دي ساد وشارل بودلير . أشتهر برواية ( 1994 ) وفاز بجائزة غونكور سنة 2010 عن روايته ( الخريطة والأرض ) . ( المترجمة )
_____
*المصدر: المدى