*عبد الحفيظ بن جلولي/ كاتب وناقد من الجزائر
تقدم كلّ الأسئلة متاهة الحياة، وتتعثّر الإجابات، الاقتراب من الحياة وحده كفيل بترميم فجوة الفهم لها، وحينما نقترب منها فإنّنا نكفل لذواتنا الاقتراب من مراياها التي لا تشتغل دونها في ميادين الأسئلة الحرجة بالنّسبة للذّات والوجود، ولهذا حينما نقرأ قصيدة ترسم كلماتها حدائقا من المعنى، ونلتحم بين أفنية حواريها وشوارعها نصطدم بجدران الحياة التي تواجهنا بتداعيات المعنى وهو يساءل الذّات والنص والواقع في حراكهم المضني من أجل توقيع بياض الكينونة، فسؤال الأمكنة التي لا يعوّل عليها يقذف بوعي التلقي في الخضم المترع بالأنثى انطلاقا مما ترسّب في الذّاكرة من بقايا مقولة ابن عربي: “المكان الذي لا يؤنّث لا يعوّل عليه”، ومن موضوعة التّعويل تفتح الشّاعرة الجزائرية نوّارة لحـرش فضاء ديوانها “كمكان لا يعوّل عليه” كمحاولة للعود إلى تخوم المؤانسة في الذّات الأنثوية وهي تشكل خبايا عالمها المندس بين كلمة ومعنى وغصّة دفينة في قصيدة تحاور الوجود وتبث هواجسها في أسئلة الإحراج الإنساني الذي يقترب من شعرية وجودية تمتح من اختلاجات نسوية.
تبحث الشاعرة عن محل لقول العالم من خلال زاويتها التي تحسه من خلالها، فتزن الوجود لحظتها من خلال افتراضها الذّاتي لسقوطها، فتقول في قصيدة “شجر المعنى”:
لو مَرّة سقطتُ سهوا
من شجر المعنى
كيف للعصافير
أن تفتح قميص الرفرفة
في أمزجة السماء؟
كيف لها أن تربّت على
غيمة تؤثّث خدوش الأمكنة!./ص6
وهو ما يحيل على أن الوجود الذّاتي للشّاعرة يمنح شيئا من القيمة للعالم الذي تحيطه ويحيطها، وتشير إلى ثلاثة عناصر تساهم بها في تأكيد حالة الوجود في العالم لكن من خلال البصمة الأكيدة للعبور، فتسمّي المعنى بالإضافة إلى “شجر”، وهو ما يرسم توالد الحالة المنتجة للظل والكينونة الأصيلة، ثم تتساءل عن كيفية التّحليق في حال فقدان هوية الوجود، وتوظف “العصافير”، وهو ما يحمل الدلالة على أن النص الشّعري يمثل هوية التّحليق أو الحركة في مراتع الأمكنة، ولكنّها تأخذ “الغيمة” التي تأوي في كيانها ماء المطر لتجعلها فعلا تأثيثيًا لزوايا الوجود المتاح في أمكنة الشّاعرة، وهذا ما جعلها تكرّس حدس اللغة من خلال ما يضفي علامة على الجسد، أي الـ”قميص”، ففي قصيدة تحمل عنوان “قميص”، ترى الشاعرة أن اللغة فعلا مسكن الوجود كما يقول هايدغر:
قميصُ اللُّغة وحدَهُ الكفيلُ بما لا تَسَعُهُ الحياةُ./ص7
واللغة بهذا المعنى تسم العالم برنين الهوية الماثلة بين الانبثاق وممارسة تجلياته، لأنّها تنهل من الذات التي تشتعل فكرا داخل أنوار النص، حيث تسجّل الشاعرة علاقتها بالقميص:
أفتحُ قميصَ اللّغَةِ
أجِدُني على ياقَتِهِ
بُقعَةَ نهارٍ على قيدِ زوالٍ /ص 8
فالعلاقة باللغة تتحدّد في النص بالزّمن انطلاقا مما هو مرافق للجسد (القميص والياقة)، ولعل إحالة اللغة باعتبارها مفهوما ومعنى إلى القميص باعتباره ساترا للجسد ودالا قويا عليه يكشف عن البنية الجمالية للغة، فكلّ جسد لا يبحث سوى عن لباس يؤثث فجواته ليفجّر تناسقه وبهاءه، وهو ما حاولت الشّاعرة أن تجد له تموضعا قويا لتثبيت استمراريته، وتمثلت ذاتها الشّاعرة الموثقة بميسم اللغة “بقعة نهار على قيد زوال”/ص8، تشظي المعنى في كلمة “زوال” بصيغة النّكرة بين مفهومي الإزالة أو الوقت هو ما يكرّس الصّراع في اقتناص لحظة توائم بين ما يرومه القارئ من جمالية انبثاق اللحظة الشّعرية واستمراريتها، وبين “زوال” لا يؤدّي سوى مفهوم الانمحاء، ولعل الدلالة تقوم قوية في سياق الجملة الشّعرية السّابقة بين “نهار” و”زوال” بما يؤكد مفهوم الزّمن الذي يجعل القصيدة عند الشّاعرة كما وقت الظهيرة الذي لا يعكس سوى التجلي والحضور.
يؤرّق الإنسان البعد الوجودي فيجتاح ذاته كي يجعل من حركته في الواقع مستوى من مستويات الكون المستمرة في الحضور، مستلهما من عناصر الحياة شكل إطلالاتها الجمالية، ولعل الشّاعر هو الميدان القابل في شجنياته الوجودية أن يجعل النص معبرا إلى عناصر الكون ليقول ذاته الكائنة بين الجمال وبين فجوات الانكسار الإنساني، تقول الشّاعرة
في قصيدة “حالة غياب”:
مَـدَّ يَدَهُ
شَكَّلَني سَماءً بِلَمْسَةِ حنانٍ
مَـدَّ بـُعدَهُ
أحالَني غُروباً بِلَمْسَةِ غِيابْ./ص9
تعمد الشاعرة إلى تأكيد وجوديتها عن طريق الثنائيات الضدية التي توظفها في حركة الآخر (الحبيب)، فـ “يده” تمثل مستوى الحضور، بينما “بعده” يمثل حالة الغياب، وفي الحضور والغياب تتأسّس الشّاعرة إما “سماء” أو “غروبا”، وإذا كانت السّماء تحيل إلى الحضور فالغروب لا يحيل إلى الغياب، لأنّه من اللواحق الدلالية لحقل السّماء، والتشكيل النصي لا يزيد الشّاعرة سوى تأكيدا وجوديا نَسَويا بما يحقّق الجمالية العميقة في الحقل الأنثوي.
لا تمتحن الشّاعرة وجوديتها الجمالية تائهة في أصقاع الكون، لكن تعيد رسمها الإنساني إلى وضعه العارف المفكر داخل دلالات اللغة، لأنّها لا تشتهي الحضور في الوعي المخيالي بقدر ما تريد ممارسة المخيال داخل حضورها الوجودي، فتفجّر بنية الافتراق في العلاقة العاطفية تشريدا (شرّدني) لترتجع إلى اللغة في تشكلاتها الشّعرية:
لكِنّهُ كَما في الحَياةِ
شَرّدَني في القَصيدَةِ!./ص9
والعودة إلى القصيدة من أمكنة الفضاء يملأ في الشّاعرة فراغ العاطفة المنكسرة التي تهدّد بالخطر الماحق للوجودية، فلهذا وظّفت فعل التّشريد لأنّه حالة من حالات البحث عن الاستقرار، وبالتّالي تصبح القصيدة حالة جمالية ترفرف بين الفضاء والواقع الذي ينتجها، وتمثل في الوقت ذاته إحالة إلى الشّاعرة في بحثها عن الهوية الوجودية المستمرّة في الحضور، ولقد سمّت الشّاعرة اللغة “قميص الرّفرفة”:
كيف للعصافير
أن تفتح قميص الرفرفة/ص6.
يتمرّن الشّعر على الاقتراب من اللحظة التي يتأمّل فيها الشاعر مفردات وجوده، ذاك تمرين من الشّاعر على أن يكون أرضيا أكثر، باعتبار أن التراب هو وردة الشّقاء التي يضعها الإنسان على ياقة معطفه، ولهذا لا يمكن للمفردة المناضلة أن تخرج عن نطاق شعورها الجاد بالوقت وبالشّمس والظل والعرق المتصبّب على جبين الحياة، ولهذا يكون سؤال البشر جادا بالنّسبة للشاعرة في علاقته بمحور الحركة المتمثل في الشّارع:
البَشرُ الذينَ يَسْنُدونَ الجُدرانَ
يَمْنحونَها حَناناً بارِداً
يُربـِتونَ على كَتِفِ الشّوارِعِ
بأَرجُلٍ مُتَوَعِّكَةِ الأَمانِ/ص11
إنّ العلاقة بين البشر والجدار تتأسّس تساندية، فهل يسند الجدار بؤس البشر أم يحرس البشر تحوّلات الجدار كدلالة على تحوّل الحياة؟
إنّ البشر الذين يسندون الجدار يعكسون وعي العطالة التي تعبّر عن عجز الإرادة، لهذا كان ما ينتقل إلى الجدار “حنانا باردا”، أي غياب أفق اللحظة الوجودية، إنّ لحظة الاتّكاء على الجدار هي لحظة فراغ خالٍ من البصمة الوجودية، وما يميّزه هو الاهتزاز الغالب على الموقف الوجودي، فـ “الشّوارع” تعكس شعريا حركة الواقع التي تغرف من غياب الأفق لدى البشر، والمشهد الشّعري يفكّك الزّمن الماثل بين حركة الشّاعرة وتدفّق اللحظة الحياتية بكلّ تحوّلاتها، سواء السّلبية أو الإيجابية، وهو ما يكثف من الدلالة على أنّ الوجودية نسوية في نصوص “كمكان لا يعوّل عليه”، ولقد آثرت تسمية “النّسوية” لأنّها تعبّر عن اتجاه لا يحيل إلى الجنسوية التي تضع الأنثوي مقابل الذكوري، بل تضع الإنتاج الإبداعي في إطار محور رؤية للكون تنجز اختلافها وتفرّدها، ولقد أفردت الشّاعرة هامشا وجوديا للشّعر يضيف إلى الحياة مفردة من مفردات حركتها، بل لعله يكون أساسا جادا في تفجير حركتها، فهي تؤكد على المعنى وتسمّي الوجدان العارف في أكثر من نص، فاللغة “قميص الرفرفة” وتسمي أيضا “قميص اللغة” وتكشف عن لحظتها الوجودية: “أتمدّد في المعنى” وتسمّي أيضا “شجرة المعنى”.
تستمر حركة المعنى في “كمكان لا يعوّل عليه” لتبادر إلى بعض التحديدات الوجودية التي تنبثق من وعي الشّاعرة في مواجهتها للعالم، فـ “الحضور عكاز أعرج” و”الغياب حشرجة العمر”/ص15، فالحضور والغياب يحيلان إلى الحياة، لهذا تتساءل الشّاعرة:
ما بها الحياةُ أعلى مِنْ ياقةِ أيّامي
وأقصرُ من قامتي؟!./ص16
إنّ التعريف الشّعري للحضور والغياب يحدّد موقف الشّاعرة الوجودي من الحياة كمأساة نمارسها لكي نقتلع منها بصمة للهوية والكينونة، فهي في وعي الشّاعرة تَناوُبٌ بين عرج وحشرجة، ولكي تبرز الشّاعرة نضالها الوجودي في خضم المأساة الحيوية تجعلها (الحياة) أعلى من ياقة أيامها والياقة تحديد موضوعي، لكنّها أقصر من قامتها، والقامة تحديد ذاتي جسدي، وهو ما يجعل التوعّك في نطاق الذّات لا اعتبار له بدلالة قصر الحياة في مجال قامة الشاعرة، وهو يجعل موضوعة الوجودية النّسوية ممكنا في المعنى الذي يتخلل شعرية ديوان “كمكان لا يعوّل عليه”.
_______
*المصدر/ مجلة الهلال المصرية