العالم كما يراه فيلسوف الحداثة السائلة زيغمونت باومان (3 )

  *ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

 

   زيغمونت باومان Zygmunt Bauman ( الذي توفّى قبل بضعة أسابيع ) هو من غير شكّ واحد من أكثر علماء الإجتماع تأثيراً على مستوى القارة الأوربية وعلى مستوى العالم كذلك ، وتشتمل قائمة كتبه – التي تُقرَأ في كل القارات – نحواً من ستين كتاباً واظب على نشرها بمثابرة واضحة منذ أن تقاعد عام 1990 من عمله أستاذاً لعلم الإجتماع في جامعة ليدز البريطانية – ذلك الموقع الذي شغله على نحو مستمر لما يقارب الثلاثة عقود .

   الحوار التالي هو القسم الثالث من حوار مع زيغمونت باومان منشور أصلاً بالألمانية في مجلة Das Magazin  وكذلك بالإنكليزية في مطبوعة 032c  ( العدد 29 المنشور في مطلع 2016 ) ، ويُلاحظ في هذا الحوار توزّعه على معظم المحاور التي عمل عليها باومان في كتاباته الكثيرة ؛ الأمر الذي يجعل من هذا الحوار ذا أهمية إستثنائية في معرفة الخطوط العامة لفكر باومان لمن لم يقرأ أعماله الأصلية .

                                                            المترجمة

 

                         المحور الرابع : اليوتوبيا

 

*  عقب التغيرات التأريخية عام 1989 ( وبخاصة تهاوي الإمبراطورية السوفييتية ) كان ثمة حديث لاينقطع عن ” نهاية الآيديولوجيات ” ، وبعيداً عن النزعة الليبرالية الجديدة والنزعة المحافِظة الجديدة فإن ” نهاية الآيديولوجيات ” كانت الموضة السائدة التي طغت على ماسواها من الأفكار . ألاترى أن أفكار اليوتوبيات الإجتماعية قد حان أوانها مع هذه الحقبة من التأريخ  ؟

– هذا صحيح ، ولكن نهاية الآيديولوجيات لازالت بعيدة كثيراً ؛ بل وأبعد من ذي قبل . تأسست الحداثة على فكرة القناعة بأنّ الكمال يمكن إنجازه في كلّ الأمور من خلال توظيف المزيد من القدرة الإنسانية ، وعلى العكس من ذلك فإن تعويذة السياسة المعاصرة تؤكد فكرة ” أن لابديل عن السياسة المتّبعة ” بشأن دفع عامة الأفراد للإقتناع بأن أي تنظيم إجتماعيّ رصين ليس سوى هدر في الوقت لأن آيديولوجيا الخصخصة الجديدة تؤكّد أن كل ترتيب إجتماعي لايضيف شيئاً لحياة تبتغي السعادة . المزيد من العمل ، الحصول على المزيد من النقود ، إبطال التفكير بمفردات مثل المجتمع وكلّ مايمتّ بصلة  للجماعة البشرية – هذا هو كل المطلوب لبلوغ السعادة المرتقبة . صرّحت مارغريت تاتشر ( السيدة الحديدية ) مرّة بأن لاوجود لشيء إسمه مجتمع ، وأن كلّ مايوجد هو رجال بمفردهم ، ونساء بمفردهنّ ، وعائلات بمفردها .

*  سبق لك أن وصفتَ التطوّر التأريخي للتفكير اليوتوبي بأمثلة إستعارية توظف نماذج حارس الطرائد ، المُزارع ، الصيّاد . كانت الحالة ماقبل الحداثية للعالم شبيهة بحالة حارس الطرائد ، في حين أن التوجّه الحداثي بات شبيهاً بالمزارع ، أما اليوم ، في الحقبة مابعد الحداثية ، فإن الصيادين هم الذين يهيمنون على المشهد العالمي . كيف تختلف هذه اليوتوبيا عن التصوّرات السابقة للحداثة ؟

–  ماعادت الحداثة هذه الأيام مهتمة بالحفاظ على البيئة البشرية أو صيانتها ولابخلق الحدائق الجميلة مثلما فعلت الحداثة من قبلُ ، وإن كل مابات الناس يهتمّون له في أيامنا هذه هو ملء حقائبهم حتى حوافها الخارجية من غير أي إعتبار لما يتبقّى للآخرين !! . يناقش المؤرخون الإجتماعيون هذا التحول الدرامي تحت عنوان ( الفرْدنة individualization ) بينما يضعه السياسيون في خانة ( رفع القيود التنظيمية deregulation ) ، وعلى خلاف اليوتوبيات السابقة فإن يوتوبيا الصيادين الحالية لاتسبغ على الحياة أي معنىً سواءٌ كان حقيقياً أو موهوماً ، وكل ماتفعله هو إلغاء التساؤلات بشأن معنى الحياة من عقول الشعوب .

16900022_1554542674574560_1800548902_n

*  وماهي القواعد الحاكمة لهذه اليوتوبيا ؟

–  نتعامل في وقتنا الحاضر مع نمطين من اليوتوبيا يكمّل واحد الآخر : الأول هو القدرة العجائبية للأسواق الحرة على علاج كل المثالب الحاصلة في نظام الأسواق ، أما الثاني فهو القدرة غير المحدودة للتقنية على إصلاح كل العيوب الناجمة عن الإرتقاء التقني ؛ غير أن هذين النمطين من اليوتوبيا تخطّاهما الزمن لأنهما يجنحان لتصوير العالم كفردوس من الحقوق الواجبة ولكن من غير مهمات ينبغي النهوض بها ، وفوق ذلك من غير ضوابط حاكمة . تُحشّدُ هذه اليوتوبيات الجهود بالضد من أي تخطيط ، وبالضد من أي تأخير يطال الإشباع الفوري للمتع السائدة ، وبالضدّ من أي تضحيات واجبة في مقابل الفوائد المستقبلية ، وجعل التمتع الفوري بالعالم كما نراه في آنيته الحاضرة من كل الإهتمامات المستقبلية أمراً غير ذي معنى ، وصار الهمّ الطاغي على الجميع هو عيش حياة تخلو من أيّ همّ يختصّ بالمستقبل ومآلاته .

                     المحور الخامس : النفايات البشرية

 

*  أنت ترى في الموضة مثالاً للحال الذي إنتهينا إليه في المجتمع الإستهلاكيّ ؟

–  تتمحور ظاهرة الموضة حول فكرة أن كل شيء نبتاعه ينبغي تجاوزه وركنه سريعاً في زاوية المخلّفات ، وقد يكون لدينا الكثير من الملابس الجيدة – مثلاً – والتي لاتزال مناسبة للإرتداء ؛ ولكن لأنها صارت عتيقة وخارج نطاق الموضة السائدة فقد بتنا نشعر بالخجل من إرتدائها ثانية كما صار الخوف يتلبّسنا خشية رؤيتنا ونحن مرتدون لتلك الملابس !! : قد ينظر المدير في العمل إلينا في مكتبه ويرمقنا بنظرة ساخرة من فوق إلى أسفل ثم يتساءل متعجّباً ” كيف تجرؤون على الظهور بملابس مثل هذه ؟ ” ، وكذا الأمر مع الأطفال إذا ماذهبوا إلى المدرسة وهم مرتدون ملابس السنة الماضية ؛ إذ سيكونون عرضة للتشنيع السخيف الذي  لايطاق . ثمة ضغط هائل علينا لكي نتماثل في سلوكنا مع السلوك الجمعي للآخرين .

*  تكشف الموضة لنا الكيفية التي بات فيها المجتمع الإستهلاكي متخصّصاً بارعاً في إنتاج القمامة وبخاصة في جانب مهمّ من تلك القمامة التي تدعوها أنت ( إنتاج الفضلات البشرية ) . لماذا تصنّفُ غير العاملين في المجتمع المعاصر في خانة النفاية ؟

–  لأن المجتمع المعاصر لايرى أية فائدة مجتناة منهم ، وأن حيواتهم باتت غير ذي قيمة تماماً مثا حيوات اللاجئين ، وهذه بالطبع واحدة من النتائج الصارخة للعولمة والإرتقاء الإقتصادي . إن أعداد الذين خسروا وظائفهم منذ بواكير المسيرة الصاعدة للرأسمالية في العالم كله لاتزال في تصاعد مستمرّ ينمو بمعدل غير مسبوق وسيبلغ عما قريب حدوداً لايستطيع العالم تحمّل تبعاته القاتلة ، ومع كل إنتصار تحققه غزوات الأسواق الرأسمالية يتعاظم بالتوازي سيل البحر المتلاطم من الرجال والنساء الذين فقدوا أعمالهم وملكياتهم وانتُزِعت أراضيهم منهم وباتوا مكشوفي الظهور وخارج نطاق  الأمان الذي توفره شبكات الرعاية الإجتماعية ، وتتزايد أعداد هؤلاء تعساء الحظّ بالألوف وربما بالملايين أحياناً خلال سنوات قليلة ، وهذا الأمر خليق بإنتاج طبقة دنيا جديدة من المهمّشين – طبقة من المستهلكين الفاشلين غير القادرين على الوفاء بمتطلبات المجتمع الإستهلاكي ؛ ولهذا السبب لايعود لهم ثمّة مكانٌ ما في هذا المجتمع ، وماعاد المجتمع ذاته يعرف أين يضع هؤلاء المهمّشين بعد أن ضاقت أماكن النبذ الإجتماعي كما ضاق الطلب على العمالة الرخيصة الجاهزة للتصدير ، ولاينبغي أن يخفى عن الأفهام أن نجاح دولنا الموصوفة بسيادة ( الديمقراطية الإجتماعية ) إعتمد  على تلك الإمكانية لوقت طويل ؛ لكن كل زاوية في العالم باتت مشغولة وماعادت لديها القدرة على تحمّل المزيد من الأعباء البشرية . هذا هو جانب الجدّة غير المسبوقة بشأن الأزمة البشرية الحالية التي تطال عالم المهمّشين .

16830540_1554541931241301_1275092017_n

*  ولكن ماذا عن اللاجئين الذين يسعون وراء الملاذ الآمن ؟

–  تُرينا الإحصائيات الرسمية التي تعود لبدايات خمسينات القرن الماضي أن أعداد اللاجئين بلغت مايقارب مليوناً من البشر معظمهم من هؤلاء الموصوفين بالأفراد المُزاحين نتيجة المفاعيل القاسية للحرب العالمية الثانية ، أما في أيامنا هذه فتميل أكثر التخمينات تحفظاً لحصر أعداد اللاجئين في حدود إثني عشر مليوناً ، ويمكن أن نتوقّع مع عام 2050 ملياراً من اللاجئين المنفيين الذين ستضيق بهم الأرض ولن يجدوا حتى معسكر إقامة مؤقت ( كامب camp ) للمكوث كفترة إنتقالية . سيكون ثمة المزيد والمزيد دوماً من اللاجئين والمهاجرين والمُهمّشين .

*  وكيف لنا أن نعرف بأن هذه الظاهرة ليست ببساطة ظاهرة وقتية طارئة ( يمكن أن تشهد تغيّراً في المستقبل ) ؟

–  أن تكون مقيداً في حدود معسكر للاجئين يعني تماماً أن تكون مطروداً من العالم الذي تتشاركه البشرية ، واللاجئون لايُعدّون فائضاً عن الحاجة وحسب بل يُحسَبون كائناتٍ لافائدة منها . ماعاد اللاجئون بقادرين على النظر إلى الوراء وتلمّس طريق عودة لأوطانهم الأصلية ، وفي الوقت ذاته فهم في أماكن الإقامة المؤقتة مسلوبون من كل الصفات التي تختصّ بهويتهم الإنسانية باستثناء صفة وحيدة فحسب : أنهم لاجئون ولكن من غير دولة ، ومن غير مأوى ، ومن غير وظيفة تليق بالكائن البشري ، ومن غير أية وثائق تشي بهويتهم الرسمية ، ولما كان هؤلاء اللاجئون مهمّشين على نحو دائم فقد أصبحوا خارج نطاق مظلّة القانون ، وكما يرى الأنثروبولوجي الفرنسي ( ميشيل لاغييه ) الدارس لظاهرة اللاجئين في عصر العولمة فإن هؤلاء اللاجئين ليسوا خارج نطاق هذا القانون أو ذاك في هذا البلد أو ذاك ؛ بل هم خارج نطاق حماية كل القوانين وفي كل البلدان .

16839340_1554542031241291_1245508021_n

*  تقول ان أماكن إقامة اللاجئين هي أقرب إلى المختبرات التي يمكن فيها فحص ومساءلة نمط الحياة الجديدة والدائمة التغير على نحو يجعلها وقتية بشكل دائم – ذلك النمط الذي يترافق مع الحداثة السائلة ؟

–  في عالمنا المعولم هذا يشكّل اللاجئون الساعون للملاذ الآمن وكذلك أولئك الموصوفون باللاجئين الإقتصاديين هدفاً جمعياً محبّباً للنخبة الجديدة ذات السطوة العظمى ، والحقيقة ان أفراد هذه النخبة هم الغيلان الشريرة والأوغاد الأنذال في كامل دراما اللجوء البشري . لاينبغي أن ننسى دوماً أن أعداد اللاجئين عصية على الإحصاء الدقيق لصعوبة حصرهم في أماكن محددة ؛ لذا تكون أعدادهم دوماً عرضة لأخطاء تخمينية فادحة ، ومن جانب آخر فإن الحكومات تدعم الإنحيازات الشعبية ولاتريد أن تدخل في مجابهة مع المصادر الحقيقية التي تشكل العنصر الداعم لإنتخابها ، ومن ثمّ سيكون أي إنحراف عن تلك الإنحيازات مصدراً لعدم اليقين الوجودي الذي سيدفع الناخبين حتماً لمعاقبة الحكومات في الانتخابات . إن المقيمين في أماكن إحتجاز اللاجئين باتوا اليوم يتقمّصون الدور الذي تُرِك في عصور سابقة للساحرات والعفاريت والأشباح ونظائرها التي نقرأ عنها في الفلكلور الشعبي وحكايات الأساطير .

*  في سياق هذا التطور البشري ، لاتفتأ تكرّر القول في غير موضع أن دولة الرعاية الإجتماعية إستحالت دولة أمنية .  ماالذي يميّز بين الدولتين ؟

–  دولة الرعاية الإجتماعية تجعل الجماعة البشرية القائمة على الضمّ والإحتواء نموذجاً معيارياً لها ، أما الدولة الأمنية فتفعل العكس تماماً لأنها تعتمد مبدأ النبذ والطرد خارج الجماعة البشرية عن طريق السجن والعقاب ، وحينها تغدو الصناعة الأمنية في هذه الدولة واحدة من أهمّ الصناعات المرتبطة بتخليق النفايات البشرية والتي يُعهَد لها بمسؤولية التخلّص من تلك النفايات .

______
*المدى

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *