هل مات الفيلسوف الفرنسي ديكارت مسموما؟

*عبدالدائم السلامي

تمرّ هذه الأيام الذكرى 367 لوفاة الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (31 مارس/آذار 1596 ـ 11 فبراير/شباط 1650) في بيت السفير الفرنسي بستوكهولم آنذاك بيير شانوت، بعد أربعة أشهر من إقامته فيه، بدعوة من ملكة السويد ألكسندرا كريستينا المولَعة بالقراءة والجدالِ، ليُقدّم لها دروسا في الفلسفة والديانات.
وقد أَعلَن السفيرُ بيير شانوت أنّ وفاة ديكارت كانت جرّاء التهاب رئوي حادّ سببته له برودة الطقس، وهو التهاب لم يُمهله أكثر من أحد عشر يوما قضاها هذا الفيلسوف الشهير يتألّم. يُذكرُ أنّ جثّة ديكارت تعرّضت إلى معاملة سيّئة في السويد، حيث أُخرجت من القبر عدّة مرات وهو ما تسبّب في سرقة جمجمته من قبل جهات علمية مّا.
وقد رُحِّلَ ما تبقّــــى من عظامه سِرًّا إلى فرنـــسا ســــنة 1666، وعُومل جثمانُه في باريس معاملة القدّيسين على حدّ ما جاء في كتاب «عِظامُ ديكارت» للكاتب روسل شورتو.
ومنذ ذلك الوقت ظهرت عدّة شائعات حول سبب زيارات ديكارت المتكرِّرة لهولندا والسويد، التي انتهت بوفاته هناك، ومنها ما جاء في كتاب «ديكارت والقنب الهندي» للكاتب فريديريك باجيس من أنّ «ديكارت، مِثْل كلّ الفرنسيّين، كان يزور هولندا ليتعاطى الممنوعات»، ويُضيف قوله بأنّ هذا الفيلسوف قد اهتدى إلى «مقالة في الطريقة» بفضل القنب الهندي الذي كان «يجعله دائما في حالة ما بين النوم والحلم، حالة تأتيه فيها أفضلُ الأفكار»، ودليله على ذلك رسالة ديكارت إلى صديقه جان لوي غويز دي بلزاك التي جاء فيها قوله: «إن في هولندا توجد كل المباهج التي نرغب فيها وكلّ ما يبعث على الفضول»، وإنّ «في الأوعية الدموية يجري كلّ ما يُنتجه الهنود الحمر» ويعني عشبة الباتوم المُخدِّرة التي تُستوردُ من أمريكا اللاتينية وتُسمى في فرنسا عشبة الشيطان، وهي شائعات لطالما جرحت تباهي الفرنسيين بكونهم «ديكارتيّين».
وحول موت رينيه ديكارت صدر منذ مدّة كِتَابان أولّهما بعنوان «قضيّة ديكارت» للباحث أيْكَه بايِيز، وثانيهما بعنوان «موت ديكارت الغامض» للجامعي الألماني تيودور إيبير، وقد أثار هذان الكتابان كثيرا من الشكوك حول سبب وفاة ديكارت، حيث ذهب مؤلّفاهما إلى تأكيد فرضية أن هذا الفيلسوف تمّ تسميمه انطلاقا من وثائق أرشيفية ظهرت لأول مرّة، وتمكّنا من الاطلاع عليها. حيث ينفي تيودور إيبير في حوار لمجلة «بُوكِسْ» الثقافية أن يكون ديكارت قد مات بسبب الالتهاب الرئويّ كما أشيع في ذلك الوقت، وإنمّا يرجِّحُ أن يكون قِسُّ السفارة الفرنسية في ستوكهولم فرانسوا فيوغي وهو كاهن فرنسي مكلّف بنشر الكاثوليكية في شمال أوروبا، ويعيش في بيت السفير الفرنسي، قدّ قَتل ديكارت لأسباب دينية عبر دَسِّ سمّ الزرنيخ في طعامه. وتفصيل ذلك أنّ هذا الكاهن يَعْرف أن الملكة السويدية الشابة لوثريّة (بروتستانتية) المذهب، وهو حريصٌ على حفزها لأنْ تعتنق الكاثوليكية، وهذا ما كان يدعو إليه الكرسيّ البابويّ في روما، وقد خمَّن هذا القِسُّ أن تحويل مذهب الملكة إلى الكاثوليكية سيُسعد، إذا ما تحقّق، الكنيسةَ ويُنْسيها كدماتِ حرب الثلاثين سنة مع اللوثريّين في أوروبا، التي مات فيها ملكُ السويد غوستافوس أدولفوس والد كريستينا المقرّب من البابا. والظاهر أنّ حضور ديكارت إلى قصر الملكة واتخاذها له صديقا مبجَّلا تلتقيه يوميا على انفراد وتناقش معه مسائل فكرية عديدة هو ما أثار خوف القس فرانسوا فيوغي الذي كان على يقين من مدى تحرُّرِ أفكار هذا الفيلسوف وحجم تأثيرها على عقل هذه الملكة الشابة، إضافة إلى أنّ ديكارت ذاته ولئن كان كاثوليكيا فإنه صرّح بتصديقه مبدأَ دوران الأرض حول الشمس، الذي أعلن عنه غاليليو في تلك السنوات وأدانته الكنيسة، وهو ميّال أيضا إلى كثير من أفكار اللوثريين، خاصة منها القول بأنّ الإنسان لا يستطيع بلوغ البِرِّ ونَيْلِ الخلاص بأعماله مهما بلغ سُموُّها، إذْ لا مكان للاستحقاق الشخصي في عملية الخلاص، لأنه يعتمد فقط على استحقاقات دم المسيح الشفيع الوحيد لأتباعه، إضافة إلى الإيمان بالكهنوت العام المشترك لجميع المؤمنين بالمسيح، ورفض الكهنوت الخاص أو كهنوت الخدمة، لأن جميع أعضاء الكنيسة متساوون في ما بينهم ولا يتميّزون عن بعضهم بعضا إلا من حيث الوظيفةُ فقط. وقد تعاضدت هذه الأسباب الدّينية مع العثور على مجموعة من الوثائق الأرشيفية المُغيَّبة لتُقوّي من صِدْقيةِ فرضية مقتل ديكارت.
وهي فرضية تكفّل الباحث تيودور إيبير، المختصّ في تاريخ الفلسفة من الإغريق إلى القرن السابع عشر، بتأكيد صِدْقِيَتها مُتّكئًا في ذلك على رسائل ومرويّات موثَّقة منها الملاحظة التي دوّنها أدريان بايايْ مُعَلّم الملكة كريستينا للغة الإغريقية وجاء فيها قوله: «كانت وفاة ديكارت غامضة». كما أن طبيب الملكة فان فولان سجّل ملاحظاته بخصوص حالة ديكارت الصحية، فذكر أنّه كان يعاني من مَغْصٍ وقشعريرة وهو دائم التقيؤ ومرتفع الحرارة، كما كان يعاني من نزيف معويّ، وأنّ دمَه أصفر اللون، وهذا ما يُخالِف أعراضَ الالتهاب الرئويّ. وقد تساءل الباحث تيودور إيبير لِمَ طلبت الملكةُ كريستينا من طبيبها عدمَ نشر تقريره عن وضع ديكارت الصحّي ومنعته من تعميمه خارج القصر؟ يُضاف إلى هذه الحُجَجِ أن ديكارت طلب في اليوم الثامن من مرضه أن يَخلطوا له النبيذ بالتبغ ويسقوه به حتى يقدر على التقيُّؤِ، وهذا يدلّ، وفق رأيِ هذا الباحث، على تفطّن ديكارت إلى كونه مسموما وعليه أن يتقيّأ حتى يُخرج السمومَ من أمعائه. وقد ختم الباحث فرضيته بملاحظة وردت في أحد تقارير السفارة الفرنسية وفيها أنّ القس فرانسوا فيوغي رفض تأبين ديكارت عند دفنه قائلاً لأحد معاونيه: «ليذهب ديكارت إلى الجحيم».

____
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *