«بازار»… وأرقام

*عبده وازن

خلال «البازار» الانتخابي المفتوح منذ أشهر في لبنان، لم يعمد السياسيون المعنيّون به إلى استشارة مثقفين أو مؤرخين وأكاديميين في الشؤون المعقدة التي يواجهونها، والتي تكاد تحوّل سجالهم حول القانون الانتخابي المنتظر غوغائياً وغير مجد. أهل الثقافة والفكر في لبنان، والعلمانيون أو المستقلون منهم خصوصاً، تمّ إقصاؤهم عن مثل هذا السجال الوطني الإشكالي كما عن سواه وعن حقول السياسة «المفخخة» طائفياً أو مذهبياً، ما خلا طبعاً المفكرين أو المثقفين المنضوين طائفياً أو حزبياً. لا يستمع السياسيون الذين فوّضوا أنفسهم ممثلين لـ «الطبقات» الشعبية إلى آراء المثقفين المهمشين أصلاً، في ما يحصل من خلافات وطنية حول المسائل الجوهرية التي تطاول الكيان اللبناني. حتى أهل اليسار والأقليات تم إبعادهم عن السجال وكأن لا وجود لهم في وطن يتبنى الديموقراطية جهاراً، وهي أصلاً ديموقراطية مريضة ومزيفة. حتى علماء القانون، أصحاب النظرة الصائبة في سن الدساتير، لا دور لهم في هذا الشأن. كل هؤلاء يطلّون فقط على الشاشات الصغيرة في تصريحات أو استشارات إعلامية فيطرحون أفكارهم ويصححون الأخطاء الفادحة التي يرتكبها «محتكرو» الوطنية ويوجهون النصائح السليمة، معترضين ومحتجين. ولكن ما من سياسي رسمي يسمع أو يتنبه ويتعظ.

حتى الآن لم يتمكن أسياد «البازار» الانتخابي من الاتفاق على قانون أو شبه قانون يمكن اعتماده. تارة ينادون بالقانون النسبي وطوراً بالأكثري وحيناً بالمختلط نسبياً وأكثرياً، وعندما تشتد العقدة يرجعون إلى الكلام عن قانون الستين، السابق والقديم. هؤلاء السياسيون الذين يمثلون طوائفهم ومذاهبهم خير تمثيل أنظارهم دوماً مثبتة على الخرائط التي أمامهم، خرائط جغرافية وديموغرافية ترتسم عليها بوضوح أحجام الطوائف والملل وحصصها. وجميعهم يفصّلون ويخيطون وفق مقاسات مرجعياتهم المذهبية، ولا حسرة إن خسرت هنا أقلية مقداراً من حصتها أو حذفت حقوق جماعة صغيرة، شبه محذوفة تقريباً. المهم أن تتوزع الأكثرية المتعددة طائفياً النسبة الأعلى من الحصص، والأهم أن تتوافق المصالح أياً يكن القانون الانتخابي، في بلد «التعايش» و «العيش المشترك» والوحدة…

كم يبدو الكلام مشيناً في هذا «البازار» عندما يدور على الأقليات وعلى الأقليات الأقلية. هناك القليل على الخريطة وهناك الأقل أيضاً. وفي أحيان عندما يتم الاعتراف بحصة «الأقل» تبرز لهجة التمنن وكأن في الأمر تسوّلاً وصدقة. ليحمد الأقلويون خالقهم لأن الطوائف الأكثرية فكّرت بهم. وبخاصة الأقلويون الذين لا سند لهم ولا صوت ولا جماعة خارجية وراءهم… ومنهم طبعاً العلمانيون المستقلون الذين يطمحون إلى أن يحققوا مواطنتهم كما تنص شرعة حقوق الإنسان.

لم تنجح يوما فكرة لبنان التعدد ولبنان الحوار ولبنان التآخي… هذا ضرب من الكذب الجميل الذي مهما صدقناه أو أوهمنا أنفسنا بتصديقه سنكتشف عاجلاً أم آجلاً أنه كذب وكذب جميل. «الحقيقة» اللبنانية أو «الفكرة» اللبنانية و «الخصوصية» التي قال بها مفكرون سابقون مثل ميشال شيحا وشارل مالك ورينيه حبشي وميشال أسمر وكمال يوسف الحاج وسواهم، لم تبق سوى كلمات هائمة، متوهمة، فارغة أو مفرغة من معانيها. كان لبنان مشروع حقيقة تاريخية، مشروع صلة وصل بين شرق وغرب، بين بحر وصحراء كما يحلو لبعضهم أن يقول، مشروع حوار حضاري بين ضفتين بل ضفاف: الغرب والمتوسط والعالم العربي. وطن كان مهيّأ ليكون من دون منازع بقعة فسيفسائية تتعانق على ترابها أديان وطوائف وأقليات، أكثريات وأقليات لا تصنعها الأعداد أو الأرقام. كان لبنان قادراً أن يكون فعلاً نموذجاً فريداً في هذا الشرق وأن تكون له رسالة وأن يكون وطناً بذاته بحسب عبارة شارل مالك… لكنه لم يكن أياً من كل هذه الاحتمالات. كان وهم حقيقة ووهم حوار ووهم صلة وصل ووهم فسيفساء روحية. ما أحوج لبنان الآن إلى صلة وصل تجمع بين أبنائه أنفسهم، هؤلاء المنقسمين على أنفسهم، المتنافسين على حصص طوائفهم، الأنانيين الذين يحكمهم الذين ولّوهم على أنفسهم. هؤلاء الذين استحالوا فعلاً أرقاماً في أحزاب أو طوائف ومذاهب.

«البازار» الانتخابي مفتوح، وغالب الظن أنه سيظل مفتوحاً ولو توصل أهل السلطة إلى قانون. أضحى لبنان وطن «البازار» وما أجمله وطناً.

___
*الحياة

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *