شاعر خارج السرب عن صلاح عبد الصبور

*خيري منصور

بعد أكثر من ثلاثة عقود مرت على رحيل صلاح عبد الصبور، يقول عنه واحد من أبرز النقاد والأكاديميين العرب هو جابر عصفور إنه كان مثقفا وناقدا حتى لأنواع أدبية أخرى غير الشعر، ويضيف انه لم يقرأ أفضل وأدق مما كتبه عبد الصبور عن قصة «زعبلاوي» لنجيب محفوظ، وما اقتطفته من كلام جابرعصفور عن الشاعر الذي عاش وحلّق ومات خارج السرب، هو من باب التذكير بما امتاز به الشاعر من ثقافة عميقة ونزعة تأملية، ليست على تخوم الميتافيزيقا بل في العمق منها.
ولم يفارق الحزن عبد الصبور حتى وهو في ذروة عناقه للحياة، وكأنه في حالة وداع دائم لها، كما أن حداثته لم تكن شكلية أو إيقاعية فقط، لهذا تعرض لنقد لاذع من المحافظين والنقاد الاتباعيين، ومنهم من سخر من استخدامه لمفردات مألوفة ومتداولة في الحياة اليومية، ومنها على سبيل المثال: رتقت نعلي وشربت شايا في الطريق.
وهو من جيل تمرد على المعجم الشعري الموروث والمحروس وكأنه متسربل بالقداسة، لكن مجايليه من الشعراء الرواد بعد الحرب العالمية الثانية لم يكونوا جميعهم على الدرجة ذاتها من الحساسية، ومنهم من اكتفى ببعثرة العمود الشعري وتلاعب بالتفعيلات لكنه لم يغادر الرؤى التقليدية.
بالطبع تأثر عبد الصبور بما قرأه من شعر إنكليزي بالتحديد، وكان له شغف خاص بالشاعر ت. س. أليوت لهذا سارع بعض النقاد إلى اتهامه بالتأثر حد المحاكاة بالشاعر أليوت، سواء من حيث استخدام المفردات المألوفة واليومية، أو في مسرحية «مأساة الحلاج»، ورأى بعض النقاد أنه اقتفى خطوات أليوت في مسرحية «جريمة قتل في الكاتدرائية».
لكن هذا الكلام العام بقي في نطاق النميمة أكثر مما هو في نطاق النقد، لهذا لم نقرأ كتابا مكرسا لتأثير أليوت على عبد الصبور، على غرار كتاب الناقد عبد الواحد لؤلؤة الذي تقصى فيه تأثير الشاعرة أديث سيتويل على بدر شاكر السياب.
وما يقوله الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي يتزامن مع ما قاله جابر عصفور، وهو أن عبد الصبور كان نموذجا للشاعر المثقف، به قدر كبير من الإنصاف، لأن عبد الصبور أصدر عدة كتب في النقد بمختلف مجالاته الأدبية، وامتاز في كتابة تجربته الشعرية بصدق يستشعره المتلقي، وبعدم التعالي الذي يصاب به الشعراء عندما تتورم الذات، أو تتسرطن لفرط النرجسية. إن عبد الصبور شاعر الشجن والخذلان بامتياز، فهو شاهد على الفارس القديم الذي سقط مضرجا بدمه وحبر قصائده، ويذكرنا أحيانا بما قاله عنترة العبسي في مطلع معلقته وهو «هل غادر الشعراء من متردم». لكن عبد الصبور عبر عن حنينه للبكارة بأسلوب آخر ووعد من يدله على طريق الدمعة البريئة أن يعطيه ما أعطته الدنيا من المهارة، وعلى الرغم من هواجسه الوجودية استقى عبد الصبور من النهار وما يعج به من كائنات وحراك، كما في ديوانه الناس في بلادي، وقد يؤخذ على عبد الصبور أن لغته وظيفية، فهو يمشي ويسعى نحو هدف ولا يرقص حول نفسه كالنافورة، لكن هذا المأخذ يبقى مجانيا إذا أطلق على نحو مجرد وبمعزل عن السياقات الشعرية التي استخدمت فيها تلك اللغة.
وإذا كان لا بد من مثال نقدي على الأداء اللغوي لعبد الصبور فهو ما كتبه الناقد محمد النويهي حين استشهد بعبارة من قصيدة «أغنية من فيينا» هي تبارك الذي قد أبدعك، وقال النويهي إن قد التي اضافها الشاعر لا ضرورة لها غير استكمال التفعيلة في الوزن، هذا على الرغم من أن وظيفة قد عندما تتعلق بالماضي هي التأكيد والتكريس. ويبدو أن الشاعر أصر على موقفه فكتب بعد أعوام من نقد النويهي قصيدة تنويعات وجاء فيها:
لكني كنت بسالف أيامي
قد صادفني هذا البيت
وحين كتب عبد الصبور عن الشعر العربي القديم في كتاب بعنوان «قراءة جديدة لشعرنا القديم» قال إن شعر ميتافيزيقا الموت أصيل لنفس حساسة بمقياسها الخاص، لكن تصنيف عبد الصبور بصفته شاعرا ميتافيزيقيا من طراز جون دن أو رينر ريلكة لا يخلو من مجازفة واختزال، لأنه كان شاعر حياة أيضا، وكتب عن الحب والوطن وفلاحي قريته المصرية، لكن من دون أن يتخلى عن هاجسه الوجودي الأصيل، وللمثال فقط أذكر قصيدته عن شنق زهران في حادثة دونشواي 1906 اثناء مقاومة الاحتلال البريطاني لمصر، فهي وثيقة وجدانية تماما كما هي قصيدة الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي عن جزيرة شدوان. وهناك قصيدة بعنوان «تنويعات» من ديوان عبد الصبور «شجر الليل»، استلهم فيها الشاعر الايرلندي ييتس حيث الإنسان هو الموت، ومنها:
أجلس في ركني الجامد كالكوب الفارغ يتقطّر فيّ الزمن الميت.
هذا على الرغم من أن ييتس الذي استلهمه عبد الصبور كان نموذجا لتجسيد جدلية الحياة والموت، وتقول عنه الشاعرة اليزابيت درو، إن الموت بالنسبة إليه لم يكن يعني أكثر من الانتقال من غرفة إلى أخرى داخل البيت نفسه.
وقد أحس عبد الصبور منذ بواكيره بأن النقد يأخذ عليه الإفراط في في الحزن والنبرة الرثائية فكتب يومئذ يقول: يصفني نقادي بأني حزين ويدينني بعضهم لحزني طالبا إبعادي عن مدينة المستقبل بدعوى إني أفسد أحلامها وأمانيها، وأذكر أنني قلت في كتابي «أبواب ومرايا» تعليقا على هذا الاعتراف وبشيء من السخرية إن إفساد مدينة المستقبل ومدينة الحاضر أيضا قامت به وتقوم به عوامل كثيرة اقتصادية وسياسية وأيديولوجية وتربوية غير قصائد عبد الصبور.
وهناك ملاحظة ينبغي ألا نتخطاها في هذه المناسبة هي أن عبد الصبور لم يتجه إلى المسرح الشعري لمجرد الرغبة في التجريب، وكان قد قال في كتابه «حياتي في الشعر» إنه شغوف بقصيدة «البرابرة» للشاعر اليوناني الإسكندري كفافي، لأنها نموذج لمعمار فني يتنامى نحو الذروة، ولعله ضاق بالقصيدة ذات الصوت الواحد فوجد في المسرح الشعري متسعا لما ضاق به، وكان له دور ريادي في تلك النقلة التي أعقبت محاولات أحمد شوقي وعزيز أباظة وآخرين. إن الاحتفاء بعبد الصبور بعد غيابه عقودا هو امتنان وعرفان واعتذار.
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *