شوبنهاور.. النثر الفرنسي الأجمل في العالم

حظي الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور (17881860) بترجمة عدد من الكتب إلى اللغة العربية، لكن الاهتمام به كما يقول د. ماهر شفيق فريد بلغ ذروته بصدور القسم الأول من كتابه الرئيسي «العالم إرادة وتمثلاً» بترجمة وتقديم د. سعيد توفيق ومراجعة د. فاطمة مسعود على النص الألماني، وهذه الترجمة كما يوضح شفيق فريد في تقديمه لترجمة «فن الأدب مختارات من شوبنهاور» الذي أعده بيلي سوندرز، وترجمه شفيق مقار عابها شيء من الإسراف في الزهو من جانب المترجم؛ إذ يكتب في ختام مقدمته: «إن هذه الترجمة العربية ستضارع أفضل نظائرها في اللغات الأخرى، وستفوق على الأقل الترجمتين الإنجليزيتين المعروفتين».
تركزت هذه الأعمال المترجمة على الجانب الفلسفي، ولم تكد تتناول إلا في القليل النادر، جانب الناقد الأدبي، ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الذي يقدم لنا شوبنهاور ناقداً أدبياً، ويضم ثمانية فصول في موضوعات مختلفة، فضلاً عن مقدمة طويلة للمترجم شفيق مقار: التأليف، الأسلوب، أشكال الأدب، النقد، تفكير المرء لنفسه، أهل العلم، الشهرة، العبقرية، تلك هي المحاور التي تدور حولها فصول الكتاب، وترتبط برباط وثيق من فلسفة شوبنهاور في علم الجمال، كما ترتبط بفكره الفلسفي عامة.
وإذا نظرنا إلى هذه المقالات من منظور فلسفة الجمال عند شوبنهاور، فلن يصعب علينا أن نرى أنها امتداد لنظرته الأفلاطونية الكانطية إلى الفن، بوصفه إعادة إنتاج للصور الخالدة، وتوسلاً إلى الكلي بالجزئي، والمثل الأعلى للفن عند شوبنهاور هو فن الموسيقى، بوصفها المجموع الكامل لكل تعبير فني، وصوت الإرادة الكاملة للإنسان والطبيعة، فبالموسيقى تكشف الطبيعة لنا عن أسرارها الباطنة ودوافعها وأمانيها بطريقة تجلّ على العقل ولكن يدركها الشعور.

وفي سلم القيم الجمالي نجد أن أعلى مراتب الفن عند شوبنهاور التراجيديا، وأدنى مراتبه العمارة، وقد حظي الشعراء هوميروس وشكسبير وجوته بتقدير كبير من شوبنهاور، ومكنته ثقافته الواسعة من أن ينظر إلى الأمور نظرة شاملة، لا يحد من آفاقها تعصب قومي أو شوفيني، فهو مثلاً يفضل النثر الفرنسي على نثر أبناء جلدته من الألمان، وفي ذلك يقول: «لا يوجد في أي لغة من لغات العالم نثر أجمل ولا أكثر إمتاعاً من النثر الفرنسي؛ لأنه أساساً يخلو من ذلك العيب، فالكاتب الفرنسي يجعل من أفكاره شبه قلادة تنتظم الأفكار، قدر ما استطاع، في ترتيب منطقي وتسلسل طبيعي أخاذ، وبذلك فإنه يقدمها لقارئه، واحدة إثر أخرى، ليتناولها ذلك القارئ تناولاً وئيداً ويتدبرها، ثم يعقدها ويلويها؛ لأنه يريد أن يقول ستة أشياء في وقت واحد، بدلاً من أن يقدمها إلى القارئ واحدة بعد الأخرى».
أثر شوبنهاور في عدد كبير من الأدباء، ومنهم بودلير وبيكيت وجيد وهاردي ومالارميه وتوماس مان وموباسان وبروست وإدجار آلان بو، على أن ذلك الحضور الطاغي على ساحة الفكر والفن على حد تعبير شفيق فريد لا يجوز أن يعمينا عن حقيقة مؤداها أن فلسفة شوبنهاور، مثل أي فلسفة أخرى، ليست في نهاية المطاف إلا انعكاساً لذات صاحبها وخبراته وخلفيته، وأنها قابلة، ككل شيء في الدنيا، للنقد والمراجعة، فهي لا تخلو من تحيزات لا عقلية وأحكام مسرفة، وتعميمات جارفة، يحسن بالقارئ أن يقف منها موقف الحذر، وألا يتقبلها بدون احتياط.

_________

*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *