*محسن المحمدي
ولد الفيلسوف آرثر شوبنهاور، سنة 1788. وكان محظوظا بوالده التاجر الذي سيقضي معه طفولته وشبابه، في سفر دائم. ويتمكن من زيارة هولندا، وفرنسا، وإنجلترا، وألمانيا، وسويسرا، وغيرها. ما ساهم في تكوينه العميق، ليس انطلاقا من الورق وحسب، بل من خلال المعاينة الواقعية للأشياء، إذ سيحضر للعروض المسرحية وحفلات الموسيقي والرقص، ويلعب الورق، ويزور المتاحف، والمقابر الملكية، وأماكن الأبطال والشعراء. والأهم أنه سيتمكن من ضبط كثير من اللغات. كان يتكلم الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية ويكتب بها بإتقان، بل سيتعلم إلى جانبها اللغات القديمة كاللاتينية والإغريقية، ما سيجعله يستغني، طيلة حياته، عن الترجمة، إذ سيخترق المتون في لغاتها الأصلية من دون وساطة.
والجميل في رحلات شوبنهاور أنه كان يدونها في يوميات، جمعها في كتاب بعنوان «يوميات السفر»، جمع فيها كل ما رأته عيناه وما انطبع في ذهنه من أحداث. لكن ما كان يثير آرثر أكثر، ليس فقط ملامح الفرح والمتعة في السفر، بل أيضا مشاهد التعاسة والمعاناة. ومما يظهر أهمية سؤال الشقاء في فلسفة شوبنهاور، ما دونه حول زيارته لأحد السجون، الذي كان يقبع فيه 6 آلاف سجين لا أمل لهم في الخروج منه. وقد قال عنهم: «أعتبر مصير هؤلاء السجناء أشد سوءا من الموت. لقد كانت قاعات النوم قذرة للغاية، تمرح فيها الجرذان والصراصير. ينام السجين على المصطبة التي يربط بها بالسلاسل، ولا يحصل إلا على الخبز والماء. هل يمكن تصور شعور المسكين، المثبت بالسلاسل على مصطبة لا يمكن أن يتخلص منها إلا بالموت؟ أو ما سيكون عليه المستقبل الذي سيواجهه عندما يكمل مدة عقوبته، أي بعد عشر سنوات أو عشرين؟ لا أحد يريد أن يعمل لديه سجين سابق. لذا يعود السجين إلى إجرامه وإلى السجن مجددا». من خلال هذا الوصف يظهر أن ما كان يدهش شوبنهاور في رحلاته، آنذاك، سيحدد خط تفكيره الفلسفي، إذ كتب يقول «غمرني وعمري لم يتجاوز السابعة عشرة، ولم أكن قد تلقيت سوى تعليم متوسط، الشعور بتعاسة الحياة، كما شعر بذلك بوذا في صباه، عندما اكتشف وجود المرض والشيخوخة والموت. بدت لي الحياة مشكلة عويصة، فقررت أن أكرس كل حياتي في التفكير بحلول لها». وذلك ما سيكون مستقبلا، بحيث سيجند شوبنهاور نفسه ليجيب عن سؤال: كيف نخفف من معاناة الحياة؟ أو بعبارة أخرى، ما الوصفة التي من خلالها نجابه ضجر عالمنا وملله وبؤسه؟
وقد يزيد من تعميق سؤال المعاناة لدى شوبنهاور موت أبيه سقوطا من على سطح المنزل. وقد وظل شوبنهاور معتقدا، على الدوام، بأن والده لم يسقط خطأ، بل منتحرا. فقد كان يدرك أن والده مر بلحظات اكتئاب شديدة، تمثلت في كثرة مخاوفه وقلقه وأفكاره السوداوية وإرادة انتحاره. لكن ما سيزعج شوبنهاور أكثر، هو سلوكيات أمه «جوهانا» اللامبالية.
وسيحكي ذلك وبحرقة ويقول: «كان والدي مسمرا على سرير المرض، حزينا وعاجزا، يسهر على راحته خادم عجوز بدلا من أن تخدمه والدتي. كانت والدتي مشغولة بإقامة السهرات، حين كان والدي ينطفئ في عزلته. وكانت تتسلى مع مجموعة معارفها حين كان والدي يعاني آلاما مبرحة. هذا هو حب النساء». كان شوبنهاور يحب والده كثيرا، وينعته بأفضل الآباء. وظل يحافظ على ذكرياته الجميلة مع أبيه الحنون.
وقد كتبت جوهانا، وهي المثقفة والأديبة، مذكراتها، وأظهرت فيها أنها لم تكن تحب زوجها، وأنها قبلت الزواج به لثرائه ولرغبتها في الرفاهية. وما سيزيد الأمور تعقيدا، بين شوبنهاور ووالدته، هو تصرفاتها بعد ممات والده، ومغامراتها العاطفية التي كان يرى فيها شوبنهور خيانة عظمى لوالده، الذي وهب حياته لجمع الثروة. وقد خلق هذا الأمر عنده كراهية للنساء، توجها بكتاب بعنوان «بحث حول النساء»، كمحاولة ثأرية لعذاب والده وخذلان أمه. وأظهر في الكتاب تصوره للمرأة ككائن تافه وسطحي، ولا يهتم إلا بظواهر الأشياء وإنفاق المال حيثما اتفق. إن كرهه للمرأة مجسدة في أمه انعكس على حياته الشخصية، فهو لم يقم علاقة مع المرأة إلا لدواعٍ جنسية. وذات يوم عندما تعرف على خادمة فندق وحملت منه، هرب، وطلب من شقيقته أن تحل له المشكلة بتقديم تعويض مادي، وقد رزق بفتاة توفيت بعد أشهر فقط.
عموما، كانت حياة شوبنهاور متوترة ومليئة بالمخاوف. فقد كان شبقيا جدا، إلى درجة أن تحول الجنس لديه إلى مشكلة خاصة. كان ينام وإلى جانبه مسدسه خشية من اعتداء. وكان لا يشرب إلا من كأس خاصة يحملها معه على الدوام، خشية العدوى، بل كان لا يقطن إلا بالغرف السفلى خوفا من اندلاع حريق. كما كان يخفي أوراقه الشخصية وحساباته البنكية بعناية فائقة، وفي أماكن سرية. فهو لا يثق في أحد أبدا.
هذه السلوكيات التي طبعت حياة شوبنهاور هي التي دفعت إلى القول بأنه رجل متشائم، بل إن فلسفته راحت تقدم على أنها هي كذلك، لكن كثيرا من الباحثين يرفضون ذلك، وهذا ما سنتعرف عليه.
شوبنهاور بين التشاؤم والتفاؤل
يقدم شوبنهاور كفيلسوف متشائم من الدرجة الأولى. والحقيقة ليست كذلك. وهذا مثلا ما حاول الفيلسوف الفرنسي المعاصر، لوك فيري، إظهاره. فهو يرى أن تشاؤم شوبنهاور ليس صادرا عن إحساس نفسي، ولكن عن موقف فلسفي. فهو لم يكن مصابا بالاكتئاب أو الوهن العصبي. فكل ما كان يود إبرازه هو أن العالم عبثي ولا معنى له وبحجج عقلية. إضافة إلى ذلك، كيف يمكن لفيلسوف أن يكون متشائما وقد وضع كتابا اسمه «فن السعادة»؟ إن تشاؤم شوبنهاور شبيه بعمل ديكارت. فإذا كان هذا الأخير قد قام بعملية الشك عنوة، وكقرار منهجي يريد من خلاله البحث عن أرض صلبة، وعن يقين يستند إليه، فإن تشاؤم شوبنهاور نفسه لم يكن تشاؤما نفسيا، بل بدأ بالتشاؤم كخطوة منهجية ليجد شروطا جديدة للتفاؤل. وقد كان يبحث عن حكمة صلدة وخالية من الوهم لتحقيق السعادة. وهذا ما حاول أيضا أن يبرزه لنا مترجم كتاب شوبنهاور الأساس، «العالم إرادة وتمثلا» إلى العربية، وهو سعيد توفيق، الذي أطال مع هذا الفيلسوف العشرة، إذ يقول: «إننا مطالبون ونحن نقرأ شوبنهاور بالابتعاد عن كثير من الشائعات حوله، وأهمها أن تشاؤم شوبنهاور سيكولوجي». فسعيد توفيق يؤكد أن تشاؤم شوبنهاور ميتافيزيقي، ولفهم ذلك علينا بداية تحديد ما المقصود بالإرادة عنده.
يقسم شوبنهاور العالم إلى قسمين: عالم التمثل وعالم الإرادة. ويقصد بالتمثل ذلك العالم السطحي والواضح، المليء بالمعنى والمعقولية. لكن الحفر تحت السطح المنظم لعالم التمثل، سيشق لنا عن حقل من القوى والغرائز العمياء، وهي دوافع بمثابة سراديب لا واعية، تظهر في الطبيعة الخام كقوة الجاذبية مثلا. وتظهر كقوة حيوية لدى النباتات والحيوانات، وتظهر عند الإنسان في إرادة بقائه. فنحن لا نريد شيئا لأننا وجدنا له أسبابا، بل نحن نجد أسبابا له لأننا نريده. فالعقل مجرد مخطط ومبرمج وباحث عن الاستراتيجيات لبلوغ الرغبة. فهو خادم طيع في يد إرادة البقاء.
لكن كيف يمكن فهم أن الإرادة أي الرغبة الخفية المحركة هي سبب التعاسة؟ إننا نحن البشر نعطي المعنى لحياتنا ببذل الجهد في تلبية الرغبات، والرغبة هي شعور بالنقص تجاه شيء معين. وهذا النقص يحدث لنا توترا وقلقا، بل ألما يحركنا نحو الإشباع وسد الفراغ. لكن بمجرد تلبية الرغبة نسقط في الملل والضجر. وبهذا يكون المرء متأرجحا على الدوام بين الألم والضجر، وهو ما يسقطنا في اللامعنى. إن قدر الرغبة هو أن لا تنطفئ، لأنها غير متعينة وهلامية كتيار دافق لا محدود وتحركنا دون وعي منا. وإشباعها يولد رغبة أخرى، وهكذا دون قرار. فالأمر مثل دون جوان (Don Juan) الذي يبحث دوما عن الفتيات، وبمجرد استهلاك واحدة منهن يتخلى عنها مباشرة.
إن الإنسان حينما ينساق وراء حركية الاستهلاك وتحقيق الرغبات، يصبح غير محب لما عنده وما بحوزته، فيتوق إلى ما لا يملك. فضلا عن أننا وللحصول على ما نشتهي نبذل جهدا ونهدر طاقة في التخطيط ورسم الحيل، ما يجعلنا في قلق دائم، بل في تنافس مع الآخرين، الأمر الذي يزيد من ألم الفراق مثلا، وأحيانا الفشل والمهانة وخطر الموت. كل هذا يجعلنا نفهم لماذا يؤكد شوبنهاور على أن الأصل في الحياة هو المعاناة.
إن هذه القبضة المستبدة للإرادة والباعثة على اليأس، والتي تجر الإنسان نحو دوامة الألم والملل، دفعت شوبنهاور إلى البحث عن مخرج، وعن سبيل للإفلات من سطوتها، أو ما يسميه بفن السعادة. فاقترح ثلاث طرق وهي:
أولا: السلوى عن طريق الفن، باعتباره لحظة خالصة نزيهة تفصل الذات عن جبروت الإرادة.
ثانيا: الخلاص عن طريق التحلي بأخلاق الرأفة تجاه كل أشكال الحياة، بما فيها النباتات والحيوانات. وبالفعل، أورث شوبنهاور ثروته لكلبه.
ثالثا: التحرر من عبودية الإرادة عن طريق الزهد، ووأد الرغبات والاتجاه نحو السكينة «النيرفانا». وهذا الحل الأخير، يعتبره مترجم كتابه، سعيد توفيق، حلا هروبيا، وفيه استسلام وانسحاب من الحياة.
إجمالا، نتعلم من فلسفة شوبنهاور أن الحياة ليست هانئة دوما، فمهما ابتسمت لنا فيجب أن نكون على استعداد لقبول الشقاء الذي تحضره لنا. كما تعلمنا أيضا أن نقرأ الناس انطلاقا من دوافعهم، وإذا أردنا إقناعهم فلنخاطب فيهم رغباتهم قبل عقولهم.
________
*الشرق الأوسط