حسناًً، ها نحن هنا. إذا ألقيت بصرك حول المكان سترى تلك الأنفاق وعربات الترام والحافلات، وأجرأ على الظنّّّّّّ أن العربات الخاصة أيضاً لم تكن قليلة، كذلك عربات تجرها الخيول تحمل أكاليل الغار، شغلوا بها، وهي تنسج خيوطاً من أحد أطراف لندن إلى طرفها الآخر.
ومع ذلك بدأت لديّ بعض الظنون_
إن كان ذلك صحيحا فعلاً، كما يقولون، أنّ شارع «الوصي» قائم وأن «المعاهدة» قد جرى توقيعها وأن الطقس ليس بارداً في مثل هذا الوقت من العام، وأنه حتى بمثل ذلك الأجر لا يمكن الحصول على شقة، وأن أسوأ ما في الأنفلونزا آثارها اللاحقة، وإذا تذكرتُ أني نسيت أن أكتب عن التسرّب في خزانة حفظ اللحوم وتركت قفازي في القطار، وإذا ما احتاجتني روابط الدم، أنحني إلى الأمام لأتقبل بمودة اليد التي ربما امتدت بتردد__
« سبع سنوات منذ التقينا!»
« المرة الأخيرة في فينيسيا»
« وأين تعيشين الآن؟»
«حسنٌا، المساء المتأخر أفضل ما لاءمني، ومع ذلك، لو أنه لم يتطلب الكثير جدا__»
« لكني عرفتك فوراً!»
« مع ذلك. الحرب خلفت شرخا__»
لو أن العقل أصيب برشقات سهام صغيرة كهذه، و- لأنّ المجتمع البشري يخضعه- ما إن يطلق أحدهم حتى يضغط الآخر للأمام، ليت هذه تولد الحرارة، إضافة إلى أنهم أضاءوا النور الكهربائي، إذا قيل أن أحد الأشياء، في حالات عديدة، يخلف حاجة للتحسين والتعديل، والتنشيط علاوة على الندم، والمتع والتفاهات والرغبات- أعني إن كان كل ذلك حقائق، والقبعات وأوشحة الفرو، ومعاطف الرجال المحترمين المشقوقة الذيل، ومشابك ربطات العنق اللؤلؤية التي ظهرت على السطح- فأي فرصة هناك؟
مِمَّ؟ يصبح من الصعب كل دقيقة أن تقول لماذا، على الرغم من كل شيء، أجلس هنا مقتنعة أني أستطيع الآن أن أقول، أو حتى أتذكر آخر مرة، ماذا حدث.
« هل شاهدت الموكب؟»
« بدا الملك بارداً.»
« لا، لا، لا. ولكن ما كان ذلك؟»
« لقد اشترت منزلاً في « مالمسبري».»
« كم هي محظوظة إذ وجدت واحداً!»
على العكس، بدا لي أكيداً جداً أنها ملعونة،، مهما كانت، لأن الأمر كان مسألة شقق وقبعات ونوارس، أو هكذا بدا الأمر لمائة من الأشخاص المتأنقين الجالسين هنا، معزولين، مبطنين بالفرو ومتخمين. لا يعني أني قادرة على التباهي، فأنا أيضاً أجلس هامدة على مقعد مذهّب، أقلب الأرض فوق ذاكرة مدفونة، كما نفعل كلنا، لأن هناك إشارات، إن لم أكن مخطئة، بأننا جميعاً نستدعي شيئا ما، ونبحث بتكتم عن شيء ما. لماذا التململ؟ لماذا أنا في منتهى القلق حول طريقة لبس العباءات والقفازات_ سواء كانت مزرّرة أم غير مزرّرة؟ راقب إذاً ذلك الوجه العجوز أمام الجنفاص المعتم، قبل دقيقة مضت كان مهذبا ومتورداً، والآن صار قليل الكلام وحزيناً وكأنه في الظل. هل كان ذلك صوت الكمان الثاني يدندن في غرفة المدخل؟ ها هم قد جاءوا، أربعة أشكال سود، يحملون الآلات الموسيقية، أتخذوا مقاعدهم بمواجهة المربعات البيض تحت مسقط النور، وضعوا أطراف أقواسهم على المنصة الموسيقية، رفعوها بحركة متزامنة، وازنوها بخفة ثم عدّ عازف الكمان الأول ناظراً إلى العازف المقابل له: واحد، اثنان، ثلاثة__
برزت مزهرة، واثبة، مبرعمة ! شجرة الكمثرى على قمة الجبل. تفجرت الينابيع، انحدرت القطرات. لكن مياه نهر» الرون» تجري بسرعة وعمق، تتسابق تحت القناطر، تكنس الأوراق المتخلفة على وجه المياه وتغسل الظلال فوق السمكة الفضية، اندفعت السمكة المرقطة إلى الأسفل بفعل الماء السريع، انزلقت الآن داخل دوامة إذ _ من الصعب قول هذا- مجموعة من السمك كلها في حوض؛ تقفز، تنتثر، تكشط زعانف حادة؛ ويا له من تيار هائج إذ أنّ الفقاعات الصفر راحت تزبد دائرة مرة فأخرى، مرة فأخرى__
تندفع الآن حرّة إلى الأسفل أو بطريقة ما ترتفع في الهواء في حركات لولبية خلابة، مفتولة مثل قشور نحيفة من تحت طائرة، أعلى فأعلى… كم هي محببة، طِيبة أولئك الذين يخطون بخفة، ويجتازون العالم مبتسمين ! كذلك العجائز المرحات بائعات الأسماك، يجلسن القرفصاء تحت القناطر، آه،منظر النساء العجائز، كم كانت ضحكاتهنّ ومصافحتهنّ ومرحهنّ من الأعماق حين يمشين، من جانب إلى آخر.. هام هاه!
«طبعاً هذه الموسيقى من أولى مؤلفات موزارت»__
«لكن اللحن، مثل كل ألحانه، يجعل المرء يشعر باليأس _ أقصد بالأمل، ماذا أقصد؟ إنها الموسيقى الأسوأ ! أريد أن أرقص، أن أضحك وآكل الكعك القرنفلي والكعك الأصفر وأشرب النبيذ الخفيف الحاد. أو أسمع قصة بذيئة، الآن _ أستطيع أن استمتع بها_ كلما كبر المرء كلما ازداد حباً للبذاءة. هول ها!… إني أضحك. على ماذا؟ أنت لم تقل شيئاً ولا الشيخ المحترم قبالتنا.. ولكن افترض.. افترض.. صه!»
يحملنا النهر الكئيب فوقه. وعندما يطل القمر من خلال أغصان الصفصاف المتدلية أرى وجهك، أصغي إلى صوتك، والعصافير تغني ونحن نمرُّ بأرض سلال الصفصاف. بأيّ لحنٍ تهمس؟ أسى، أسى، فرح، فرح. إننا منسوجان معا مثل القصب في ضوء القمر، منسوجان معاً، ممتزجان لا يمكن فصلنا، يكبلنا الألم وينثرنا الحزن – انهيار!
يغوص المركب. يرتفع، ترتفع الأشكال، لكن الورقة الآن نحيفة، تستدق إلى شبح قاتم، وما أن تصبح مستدقة جداً حتى تسحب شغفها المضاعف من قلبي. تشير- الورقة- إليّ، تطلق حزني، تذيب الشفقة، تغرق بالحب عالماً بلا شمس ولا تلغي حنانها بعد أن تكفّ، لكنها تنسج برشاقة ورقة في الداخل والخارج إلى أن تتحد الصدوع ضمن هذا النموذج وهذا الكمال، تحلق، تنشج، تغوص كي تستريح وتحزن وتفرح.
لماذا الحزن إذاً؟ عمّ تسأل؟ تبقين غير راضية؟ أقول: كل الأمور تمت تسويتها. نعم، تمدد لترتاح تحت غطاء من أوراق الورد، المتساقطة. سقوط. آه، لكنهم توقفوا. ورقة ورد واحدة. تسقط من علوٍّ شاهق مثل مظلة صغيرة سقطت من بالون غير مرئي، دارت ثم رفرفت بشكل متموج، لن تصل إلينا.
« لا، لا لم ألحظ شيئاً. هذه الموسيقى الأسوأ __ هذه الأحلام الساذجة. هل تقول أن عازف الكمان الثاني كان متأخراً؟»
« ها هي السيدة العجوز مونرو تتحسس طريقها خارجاً __ تزداد عمىً كل عام، يا للمرأة المسكينة _ على هذه الأرض الزلقة».
« سيفنكس» العجوز العمياء ذات الشعر الرمادي.. تقف هناك على الرصيف، تومئ بعبوس شديد للحافلة الحمراء.
« كم هو ممتع! ما أروع عزفهم.. كم.. كم.. كم!
« ما اللسان إلا مصفقة. السذاجة ذاتها. الريش في القبعة التي قربي مشع يبعث على السرور مثل خشخاشة طفل. الورقة على شجرة الدلب تلمع خضراء عبر شق الستارة. غريب جداً، مثير جداً.
« كم___ كم__كم!» صه!
هؤلاء هم العشاق فوق المرج.
«لو أخذتِ بيدي سيدتي__»
« سيدي، سأثق بك من كل قلبي، فضلاً عن ذلك، تركنا أجسادنا في قاعة المأدبة. تلك التي فوق المرج هي ظلال أرواحنا»
« إذاً فهذا عناق أرواحنا» تومئ أشجار الليمون برأسها موافقة. تندفع البجعة من الضفة وتطوف حالمة وسط التيار.
«لكن كي نعود. تبعني في الممر، وبينما كنا نلتف حول الزاوية، داس فوق رباط تنورتي، ما الذي أستطيع أن أفعله سوى الصراخ , آه ! هل أتوقف لأشير إليه؟ حينها سحب سيفه وشق طريقه وكأنه يطعن شيئا ما حتى الموت وصرخ» مجنون! مجنون!، بينما كنت أبكي. خرج الأمير بقبعته الخمرية وصندله المغطى بالفرو، و كان يكتب في كتاب مغلف كبير في النافذة البارزة، انتزع سيفاً معلقاً على الجدار_ هدية من ملك أسبانيا، كما تعلم_ حينها هربت، طارحة عليّ هذه العباءة لأخفي التلف الذي أصاب تنورتي_ لأخفي… ولكن اسمع ! الأبواق!»
رد الرجل المحترم على السيدة بسرعة كبيرة وركضت هي إلى الطابق الأعلى متبادلة مجاملات لماحة، وقد بلغت ذروتها في نشيج من الانفعال. لكن الكلمات كانت غير واضحة على الرغم من أن المعنى واضح تماماً_ حب، ضحك، هروب، ملاحقة، النعيم السماوي، اندفعت كلها خارجة راكبة الموجة المرحة للتحبب الرقيق_ إلى أن أصبح صوت الأبواق الفضية، تدريجياً وعلى المدى البعيد، أكثر فأكثر وضوحاً، وكأن وكلاء القصر كانوا يرحبون بالفجر أو يعلنون، منذرين بالشؤم، هروب العاشقين…
الحديقة الخضراء، بركة ضوء القمر، أشجار الليمون، العشاق،الأسماك، كلها ذابت في السماء الشذرية، التي ارتفعت عبرها أقواس بيضاء مغروسة بقوة فوق الدعامات الرخامية، بينما كانت أصوات الأبواق تذوب في أصوات الترامبيت تساندها أصوات الكلاريون…دمدمة الأقدام وأصوات الأبواق. الرنين والقعقعة، البناء الراسخ. الأساسات السريعة. مسيرة الحشود. التشوش والاضطراب اللذان وطئا الأرض. لكن هذه المدينة التي سافرنا إليها لا يوجد فيها أحجار ولا رخام؛ تتدلى بثبات؛ تقف بلا اهتزاز؛ لم يحينا أو يرحب بنا أي وجه أو أي علم. ارحل إذاً لتدفن أملك؛ أرم ِ في الصحراء فرحي؛ تقدم عاريا. الدعامات مكشوفة. لا تثير شكَّ أحد. لا تلقي بأي ظلّ. لامعة، قاسية. سقطت إلى الوراء، لا أطلب المزيد. راغبةً فقط بالرحيل، عثرت على الطريق، حددت البنايات، ألقيت التحية على بائعة التفاح، قلت للخادمة التي فتحت الباب: ليلة مرصعة بالنجوم.
« تصبحين على خير، تصبحين على خير. هل تذهبين في هذا الاتجاه؟»
« للأسف، أنا أسلك ذاك!»
«إنها الموسيقى التي أرغب بها؛ التي تثير وتلهم»
l l l
مؤلفة شعرت بأن «الشيء الوحيد في هذا العالم هو الموسيقى- الموسيقى والكتب وصورة أو صورتين» (1975:41) والتي لعبت في سنواتها المبكرة،بشكل ساخر، بفكرة العثور على مستعمرة « لا يتوجب فيها أن يوجد زواج إذا لم يصدف أن تقع في غرام إحدى سيمفونيات بتهوفن».فمن غير المفاجئ أن تكون الموسيقى هي الفن الذي أثار فرجينيا وولف بشكل مباشر وأثر على تكويناتها الأدبية مؤدياً دوراً مركزياً في عملها ككاتبة. إن براعة وولف التقنية المبكرة(1) وتجربتها الواسعة في صنع الموسيقى(2) سوف تؤدي بها إلى مسألة طبيعة التجربة الموسيقية بالعلاقة مع كتابتها في يومياتها ورسائلها ومقالاتها إلى الحد الذي كانت فيه تخطط لكتابة كتاب «يتحرى تأثير الموسيقى على الأدب» وهو المشروع الذي بتر بسبب موتها عام 1941 (3). في جماليات نثرها لم يكن الأدب منفصلاً عن الموسيقى وشعرت بنفسها كونها موسيقية أكثر منها كاتبة: وقد كتبت إلى الشاعر ستيفن سبندر بأنها رغبت لو كتبت « أربعة أبيات في مرة من المرات كما يفعل الموسيقار؛ لأنه دائما يبدو لي بأن الأمور تجري على عدة مستويات بشكل متزامن». غير أن أشد الملاحظات كشفاً كانت قد أدرجتها عام 1940 في رسالة إلى صديقتها أليزابيث تريفليان التي أدركت الميزات الموسيقية لسيرتها عن «روجر فراي» فقد كتبت وولف بأنه « من الغريب أني لست موسيقية بانتظام لكن دائماً أفكر بكتبي كونها موسيقى قبل أن أكتبها. تماماً كما تقولين، إنني في غاية السرور بأنك شعرتِ بهذا. لا أحد آخر اعتقد أنه أحسّ به». وبالالتفات إلى عملها الأول المحكم تماماً و«الموسيقي» تماماً، أعني قصتها القصيرة «الرباعي الوتري»، فإننا ربما نتعقب بذور مدخل وولف إلى التعبير الموسيقي والذي يتطلب تحديد أشكال موسقتها المتتابعة للقَصص والطبيعة الموسيقية الجوهرية لجماليات نثرها.
إن الطبيعة التجريبية لمجموعة «الاثنين والثلاثاء» ككل التي اعترفت وولف نفسها كونها معلماً في تطورها الأسلوبي في مقالتها عام 1925 بعنوان «الرواية الحديثة» إضافة إلى إصالتها المعترف بها ضمن السياق الأدبي الحداثوي الأوسع وحقيقة أن « الرباعي الوتري»، وهي القصة الخامسة في المجموعة، هي إحدى قصص وولف التي يتركز محتواها أولاً وبشكل صريح على الموسيقى والتجربة الموسيقية قد ارتقت فعلاً إلى أسئلة جوهرية محددة تتعلق بالمفهوم الموسيقي المضمن لأسلوبها. وهذا كله ذو مغزى إذ أن الشكل المتناقض والبؤرة المرسومة بوضوح للقصة القصيرة جرى النظر لها كونها تؤدي دوراً حاسماً في تطور وولف الأدبي والجماليات الفنية بصورة عامة. هذه التخطيطات تستبق الميزات الشكلية والأسلوبية الأصلية جداً لرواياتها الأخيرة دون أن تضعها تحت القيود المعينة الناتجة عن العمل على رواية طويلة. ستقول وولف عن قصصها القصيرة:
« هذه القطع الصغيرة في «الاثنين أو (و) الثلاثاء» كتبت بطريقة الانحراف (التحويل)؛ وهي المتع التي سمحت لنفسي بها حين أديت تمريني في الأسلوب التقليدي.. وهذا أظهر لي كيف أني استطعت تجسيد كل تراكمات التجربة في شكل يناسبها- ولا يعني ذلك أني دائماً أصل هذه النهاية؛ لكن على أية حال رأيتها وهي تتفرع من النفق الذي حفرته، حين اكتشفت هذه الطريقة في التقديم في «غرفة جيكوب» و«السيدة دالاوي»..الخ – وكيف أني ارتجفتُ من الإثارة».
وعلى الرغم من الاستقبال النقدي المتضارب للمجموعة بأكملها إلا أن قصة «الرباعي الوتري» في الأخص كان ينظر لها كونها قائمة من القصص الأخرى وقد أعجب بها جداً الشاعر ت.س. إليوت إضافة إلى كاتب السيرة والمؤلف والناقد ليونيل ستراشي الذي وجه فيرجينيا وولف على أن تصف في يومياتها في السابع من حزيران عام 1921 بأن «أليوت أذهلني بإطراء مجموعة «الاثنين والثلاثاء»! وهذا ما أسرني فعلاً. اختار قصة «الرباعي الوتري» وبالأخص نهايتها. قال:» جيد جداً واعتقد أنه كان يعينها. أسرني أن اعتقد بأني استطيع مناقشة كتاباتي معه بصراحة. وبالعلاقة مع كلمات «ليتون ستراشي» في تثمينها كتبت:» التقيت ليونارد في أثناء تناول الشاي وأخبرني بالأنباء المدهشة بأن ليتون يعتقد بأن قصة «الرباعي الوتري» «مدهشة». وذلك جاء من خلال «رالف» الذي لا يبالغ والذي لا يحتاج ليوتن ليكذب عليه وغمرت المتعة كل عصب من جسمي بحيث أني نسيت أن أشتري قهوتي ومشيت على جسر هنغرفورد وأنا أرتجف وأخن». وستكون فيرجينيا وولف سعيدة أيضاً أن صديقها الناقد الفني «روجر فراي» اعتقد بأن مجموعة «الاثنين الثلاثاء» أظهرت بأنها « على مسار الاكتشافات الحقيقية» لا المزيفة بالتأكيد».
« التعبيري على نحو مخجل»؟ الموسيقى وتيار الوعي
عند القراءة الأولى لقصة «الرباعي الوتري» وعلى الرغم من عنوانها الموسيقي فإنها بالكاد تظهر أنها تدور حول الموسيقى بأي طريقة مباشرة أو ذات مغزى ولكن على النقيض تبدو كمثال مباشر تماماً للمصغرة التي كانت تمثل حينئذ تقنية تيار الوعي الحداثوي ذات الزي الجديد التي كانت تجيده وولف في ذلك الوقت وتعبير عن جريان الأفكار والمدركات الحسية والتجارب لشخصية محددة وفي هذه الحالة تكون السارد الشخص الأول(5) في موقف محدد، عزف عام لرباعية وترية. ومن الغرابة تماماً أنه لا يجري إخبارنا شيئاً عن الموسيقى نفسها بالمصطلحات الموسيقية التقنية ويجري إخبارنا القليل عن العزف الحقيقي وبالكاد يكون لدينا أي دليل إلى ما قد يجري عزفه إذ أننا نعرف بصورة غير مباشرة من الملاحظة المريبة التي يجريها عضو زميل من الجمهور بأن ثمة رباعية وترية لموزارت ستكون ضمن برنامج العرض. في هذه القصة تظهر الموسيقى وكأنها مجرد متخذة كنقطة انطلاق للتعبير عن الصور العشوائية والغريبة التي تستحضرها الساردة بينما هي تستمع إليها.(6). وليس من المفاجئ أنه في إحدى المراجعات الأولى في مجلة «نيوستسمان» عن مجموعة «الاثنين أو الثلاثاء» والتي كتبها أحد أعضاء جماعة بلومبزبري وهو دزموند ماكارثي (الذي كان يكتب تحت اسم مستعار هو «أفابل هاوكس») والتي نشرت فقط بعد يومين من ظهور المجموعة من المطابع، أن قصة «الرباعي الوتري» سوف توصف كونها «وصفا مدهشا لتلك النزوات التي جرى نسجها مثل الشرنقة حول العقل حين الاستماع إلى الموسيقى» وهي تذكرنا بالقطعة المشابهة في رواية «الرحلة للخارج» حين يصف الراوي موهبة «راشيل فنراك» الموسيقية :» إذا ما طوقت هذه الموهبة المحددة بالأحلام والأفكار لأشد الأوصاف إسرافاً وغباءً فلن يكون أحد أكثر حكمة». في «الرباعية الوترية» نعطى على أية حال وصفاً كاملاً للأحلام المسرفة والحمقاء للراوي إلى الحد أن القصة تظهر هكذا وعلى نحو متناقض لا هي حول الموسيقى تماماً ولا هي «موسيقية» لأن أسلوبها الاستطرادي لا يبتعد عن البناء والتركيب السردي التقليدي ولذا فهو جوهرياً أدبي. لاحظ ت.س. إليوت نفسه المقاربة غير المباشرة لوولف إلى الأداء الموسيقي الذي جعلته درامياً في قصة «الرباعي الوتري» في مراجعة لمجموعة «الاثنين أو الثلاثاء» في مجلة «ذ دايل» اغسطس 1921. في هذه المقالة يقارن بين مختلف المقاربات للرواية السردية الحداثوية والتعبير الأدبي ابتداءً من الوصف المباشر لجيمس جويس لـ»العالم الخارجي» إلى ما يصفه كونها المقاربة الأكثر انعكاساً وتأملاً وهي ميزة أسلوب وولف في الكتابة. لا نغالب الشعور بأن ت.س. إليوت كان في ذهنه قصة «الرباعي الوتري» حين كتب عن مجموعة «الاثنين أو الثلاثاء»:
« إن الرغبة الملحة للفنتازي والغريب شرعية ودائمة؛ فكل شخص يحمل حساً بالجمال يحملها. وأقواها مثل السيد جويس تجعل مشاعرها في العالم الخارجي الملفوظ؛ ما يسمى على نحو بسيط النوع الأكثر أنثوية وهو النوع الأكثر حنكة أيضاً، يجعل فنه بالشعور والتأمل في الشعور لا في الشيء الذي أثاره أو الشيء الذي ربما صنع منه الشعور. ومن هذا النوع من الكتابة فإن الكتاب الحالي من السكتشات للسيدة وولف بعنوان « الاثنين أو الثلاثاء» هو المثال النموذج. إن سر سحر القصص القصيرة للسيدة وولف يتكون بتفاوت كبير بين الشيء وسلسلة الأحاسيس الذي توضع في حالة حركة. إن السيدة وولف تمنحك المرجع الأدق وتقودك للتحري، بشكل واع ٍ تماماً، لسلسلة الصور والأحاسيس التي تطفو بعيداً عنها».
لا يمكن إنكار أن قصة «الرباعي الوتري» تدور بشكل أساسي حول « متوالية الصور والأحاسيس التي تطفو بعيداً» عن الموسيقى وبفعلها ذلك فإنها تضبب طبيعة الموسيقى التي يجري عزفها إذ أنهم يظهرون عقلاً مستغرقا تماماً في تجربته الخيالية الخاصة، عقل «يفيض بالصور، الصور المفضلة للماء والأسماك المتمايلة» حتى لو كان الحد الذي بقي الحد الذي تكون به صور الأسماك هي الصور المفضلة لدى الراوي مرئية.
غني عن القول أن هذه المقاربة التمثيلية إلى التجربة الموسيقية بالعلاقة بالأحلام والصور هي مثيرة جداً للجدل. وكما لاحظ جيمس هافلي « أي مختص بالموسيقى سوف يتفق مع راوي هذه القصة الذي يوحي صوته بوضوح بالبناء الموسيقي للرباعي.. لكنها تستجيب لذلك البناء في المكافآت الموسيقية الإضافية للنوع التعبيري الأشد جرأة». لو أن «متواليات الحلم» هي الميزة الأساسية لتيار الوعي والموازيات البنائية بين النص والموسيقى الضمنية تبقى غامضة و»تعبيرية» فإن هذا يؤدي بنا إلى السؤال : ما العلاقة التي يضفيها الوجه الموسيقي للقصة على مغزى الأحلام؟ فمن جهة إن قراءة الأحلام بنفسها تبرهن على أنها غير مقنعة إذ أن عدم استمرارية السرد والانتقالات التي لا تضاهى في المنظور لها معنى تماما ضمن سياقاتها الموسيقية فإن المجاز لا يوحي فقط بالموسيقى فحسب لكن نفسها نفسه يوحي بالموسيقى. وكما لاحظ فرنر وولف «لا فقط من خلال الإشارة إلى مفهوم موسقة الرواية يمكن لبعض الأوجه المذهلة المختلفة للنص أن تكون عاملاً مهماً». ومن جهة أخرى إذا ما اتخذت الصور شكل المجازات للموسيقى وأن هدفها النهائي التعبير عن الموسيقى فإن القارئ يتوقع أن يحل شفرة «سلسلة الصور» بالعودة إلى الأداء التصويري الموسيقي الخالص للرباعية الوترية لموزارت. وكتمرين عقلي فإن هذا ربما يبرهن على التسلية إلى حد ما ولكن كتجربة جمالية عميقة وذات مغزى فإن هذا يبدو مبالغاً به وغير مقنع. وربما يصغي المرء أيضاً ببساطة إلى رباعية موزارت كي يتمتع بتأثير الموسيقى أولاً. هل يتوجب علينا حقاً أن نأخذ في الاعتبار سرور الراوي في حلم اليقظة التخيلي؟
وولف والموسيقى والكلمات
بالنظر للعلاقة بين الموسيقى والكلمات فإنها كتبت بوضوح في مراجعة لها لأوبرات فاغنر بعنوان «انطباعات في بيرث» ونشرت عام 1909 في «التايمز»:» حين تنتهي لحظة الإثارة وتمر أقواس العزف عبر الأوتار فإن تعريفاتنا يجري التخلي عنها.. وتختفي الكلمات في عقولنا». وبوضع هذا الرأي بالتعارض مع مسرحة النوتات القليلة الأولى من الأداء الموسيقي في قصتها «الرباعي الوتري»:
ها قد أتوا، أربع أشكال سوداء، يحملون الأدوات الموسيقية، أخذوا مجالسهم مقابل المربعات البيضاء تحت مسقط الضوء، أراحوا رؤوس أقواسهم على قوائم الأدوات ثم رفعوها بحركة متزامنة، وازنوها بخفة ثم عدّ العازف الأول ناظراً إلى العازف المقابل: له واحد، اثنان، ثلاثة-
متألقة، مزهرة، مثقلة بحملها، برزت فجأة! شجرة الكمثرى على قمة الجبل. تفجرت الينابيع، هبطت الأمطار. لكن مياه « الرون» تجري بسرعة وعمق، سباق تحت القناطر، تكنس مخلفات الماء عن الأرض غاسلة الظلال فوق السمكة الفضية، دُفعت السمكة المرقطة إلى الأسفل بالماء السريع».
في هذه القصة لا شك أن الكلمات وضعت كي تصف الموسيقى. في الواقع إن الطبيعة العشوائية والخيالية واللاعقلانية و»غير الموسيقية» لأحلام الراوي تبدو دائماً نموذجية لنوع «هستيري» من الاستجابة إلى الموسيقى التي كانت وولف قلقة منها عام 1915، وكتبت في يومياتها بأن «كل أوصاف الموسيقى لا قيمة لها تماماً وبالأحرى غير سارّة؛ فهي ميالة إلى أن تكون هستيرية وقول أمور سيكون الناس خجلين من أنها قد قيلت فيما بعد». وسيكون من غير المناسب تماماً إذن أن تدوين مثل هذا التعارض بين فهم فرجينيا وولف لصمت التجربة الموسيقية وبعدها عن الوصف الصامت له في قصة « الرباعي الوتري» إلى أي نوعه من عدم التماسك في كتاباتها وجمالياتها. من مؤلفة واعية جدا بعيوب التذوق الموسيقي وجمالياته و «صعوبة تغيير التعبير الموسيقي إلى تعبير أدبي».ومن المدهش تماماً بأنها نفسها ستبدأ بالكتابة بشكل غير واع لقصة قصيرة تدور بشكل صريح جداً حول الموسيقى، وللوهلة الأولى تبدو مليئة جداً بتلك « المعادلات الغامضة والمقارنات والصفات» التي تزعج النقد الموسيقي دون داع خفي لعمل ذلك. في الحقيقة أنها وجدت الأشد ذكاءً من التذوق الموسيقي مثل « النوطات التصويرية في برنامج الحفلة الموسيقية «الكونسرت» التي تفيد فقط «لتوجيهنا بشكل ضال».إن «موسقة الرواية»، إذا ما استعملنا التعبير الذي صاغه «ألدوس هكسلي» في روايته «نقطة مقابل نقطة» والتي حاولت وولف في قصة «الرباعي الوتري» لهذا السبب أن لا تتخذه كونه مجانياً أو بلا مبرر وبالتأكيد سوف يقودنا إلى السؤال: ماذا كانت تحاول وولف أن تفعله حين كتبت قصة «الرباعي الوتري» التي ناقضت بشكل فاضح أفكارها الخاصة عن التعبير الموسيقي والتعبير الأدبي عن الموسيقى؟ ذلك أن الراوية نفسها ستكون خجلة من «أحلامها الغبية» بالإشارة إلى حقيقة أن وولف كانت واعية جداً بما كانت تفعله في هذه القصة القصيرة أي تتعمد من جعل راويتها تستجيب إلى الموسيقى بالعلاقة مع «الأحلام الغبية». ثمة أوجه رئيسة محددة من هذه القصة القصيرة ستكشف فعلاً بأن الامر ابعد من ان يكون فهما للتجربة الموسيقية وأقرب جداً من فن التداعي الصوري الحر والعاطفي المثير الذي سيسير عكس آراء وولف المتماسكة مدى حياتها عن الموسيقى والتجربة الموسيقية.(7) لكن كون وولف،كما نرى أدناه، تتحرى هنا بصراحة وتبصر كبيرين الطيف الواسع من الوسائل التي تتخذ فيها الموسيقى معنىً. وبالفشل في وصف العرق الهجائي الموروث لوولف في القصة فإن جيمس هافلي وت.س.أليوت ودزموند مكارثي لم يستطيعوا تماماً فهم القصة – إن قصة «الرباعي الوتري» فعلاً تدور حول «شرنقة» الفنتازيات والطريقة التي تفسح بها كل صورة للأخرى ضمن جريان «تيار الوعي»، وهي أيضاً «تمرين على الأسلوب» في مونولوج داخلي لكنها في المقام الأول والأخير تدور حول الطريقة التي تكون فيها الموسيقى ذات معنى. بالنسبة لمؤلف منهمك جداً مع الكلمات والمعاني التي تكوّن المادة الأولية لفنها الأدبي، الموسيقى، التي هي فن «بلا كلمات» وهذا شيء يصدق بالأخص على الرباعي الوتري لموزارت التي تظهر ملامحها في قصتها القصيرة وتتيح التعارض المثالي الذي منه يجب أن نتحرى الاتصال والتعبير الفنيين.
بجعلها الموسيقى حاضرة، بالكاد يمكن رؤية فرجينيا وولف وهي تنتهك الحدود الأدبية. وعلى العكس، من الواضع أنها أمسكت بانتهاك حدود التعبير الموسيقي، ولهذا فإن الاعتراضات من قبل نقاد الموسيقى ودارسيها على قصة «الرباعي الوتري» لا يغذيها كثيراً مشاهد الحلم اللامعقولة بنفسها بل حقيقة أن وولف تعامل «موزارت» كونها موسيقى برنامجية (منهجية). حتى لو أن الساردة خجلة من «أحلامها الساذجة» حين يقيس بقية الجمهور القيمة الاسلوبية لتكوين مبكر ويصغي إلى تكنيك عازفي الكمان. لكن لن يصاب أي قارئ لهذه القصة بالمفاجأة أو الصدمة. لو أنّ خماسية شوبرت «سمك التروتة Trout» كانت مدرجة في البرنامج. فالقليل يعرف بأن مقطوعة شوبرت في الواقع هي المقطوعة الحقيقية وراء القصة وهي المقطوعة التي من الواضح أنها تتيح لوولف استخدام فكرة سرد السمك والنهر. خماسية البيانو «سمك التروتة» لشوبرت المصنف رقم D 667 من المقام الرئيسي A (والمؤلفة سنة 1819) التي تصغي لها من بين المؤلفات الأخرى قد عزفت في حفلة موسيقية بمدينة «كامبدن» (8) تتحول في القصة إلى رباعية وترية مبكرة لموزارت. وربما كان لفرجينيا وولف سبب قوياً لفعل ذلك. إن الإشارات إلى «السمكة المخططة» يمكن فقط أن يوحي إلى وولف عن طريق عنوان مقطوعة شوبرت «سمك التروتة» التي أصغت لها في «كامبدن هيل» (9).
بتقديمها لرباعية موزرت الوترية، الموسيقى الخالصة.. بدلاً من موسيقى شوبرت المنهجية سوف أدل على أن وولف في الواقع تتخذ موقفاً محكماً للعمل بعيداً عن أي تبرير منهجي ممكن لأحلام الساردة. في الواقع إنها تحقق بشكل ضمني بأهميتها وقصدها ضمن هيكل الأداء لموسيقى «خالصة» بطريقة توحي بأن أي برنامج موسيقي ممكن لا يمكن فهمه كونه تبريرا للأحلام على أية حال.لذا من الواضح أن الأحلام تدور حول الموسيقى وليس حول أي برنامج غير موسيقي. ونتيجة ذلك، فإن العلاقات بين المشاهد الحلمية والموسيقى الخالصة بصورة عامة تصبح أيضاَ أكثر أهمية وكونية بدلاً من امتلاكها لصورة نهر مليئة بالسمك تتاح للسارد عن طريق عنوان موسيقي إضافي الذي يمكن أن يبرر المجاز وربما يؤدي إلى «تأويل» سطحي للموسيقى، المجاز هنا مرتبط بالموسيقى بصورة عامة وبالموسيقى «الخالصة» بصورة خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن رباعية موزارت قد تم عزفها، وبذلك تفيد في إلقاء الضوء على ملامح معينة من السرد ترتقي بالمتوازيات… بين الموسيقى الخالصة والأدب. تتعمد فرجينيا وولف هنا في جعل الكلمات تصف الموسيقى كي تتجاوز أكثر القياسات السطحية الأكثر نموذجية التي يمكن رؤيتها عادة موجودة بين هذين الفنين كي تضع في قالب درامي «ما يعتقده السامع عن الموسيقى»( كيفي 80-81)
عبر المرآة: التسامي الموسيقي في الجماليات الوولفية
ما يثير الاهتمام أن تحويل الموسيقى إلى فعل لا يفشل لأنها تعزف في أكثر المستويات الموسيقية- الأدبية نموذجاً: فالمتوازيات التقنية تبقى واضحة على نحو عجيب. من السهل نسبياً فك شفرة الملامح الموسيقية المتناظرة للمقطوعة من مشاهد الحلم ذات الوصفية العالية والتتبع التدريجي للحظات الموسيقية – من التلوين الأساسي للأقواس والنغمة المكررة القوية والخطوط النغمية المنسوجة إلى التصوير والهياكل الداخلية للحركات نفسها. يمكن اختيار الكلمات كي تصف درجة سرعة العزف والسرعة والنسيج الموسيقي. ومن هنا فإن وولف تمسرح معاني عادة ما تنسب إلى تلك الأفكار التقنية الخالصة والتجريدية المعاكسة. فدرجة العزف السريعة تشير إلى السعادة (متوالية الحلم الأول) أما الحركة البطيئة في المفتاح الثانوي فهو تعبير عن الميلانخوليا (الكآبة الشديدة) (متوالية الحلم الثاني) أما الثيمات الطباقية (الكونتربوينت) فتفهم على أنها حوار ما بين شخصيتين (متوالية الحلم الثالث)(10). إن الموسيقى في هذه القصة قد جعلت في البداية كي تكون تمثيلاً ولهذا فإن مفتتح «المعاني» الكامنة يوضع أمام أعيننا ذاتها لكن تحت الفحص المحكم، ويظهر أن وولف تلف على نحو مختلس تلك المعاني وتقوض السرد وتضع التجربة بأكملها موضع التساؤل: عند نهاية كل متتالية حلم تكون الراوية مستاءة. استجاباتها غير مقنعة لأنها إما أن تكون في غاية البساطة أو إنها في منتهى الأدبية. إن الراوية تكون مرعوبة لأنها تستطيع فقط أن تصف بشكل مجازي ما كان بالنسبة لها تجربة في غاية التركيز. إن السمكة القافزة والسيول الهائجة كانت الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تعثر هي عليها كي تعبر عن الطاقة والحركة التي توحي بها الموسيقى لها لكن تجربتها الموسيقية لا تدور عن السمكة القافزة والسيل الهائج. وبالطريقة نفسها فإن استجابتها في متتالية الحلم الثاني تدور حول الصهر الذي لا يمكن تحديده لعاطفة مركبة غير مسماة وراء رحلة في النهر تحت ضوء القمر إنه التعبير عن التوتر ببن الجنسين المتعارضين ما وراء القصة الرومانسية بين سيدة وعشيقها، وأخيراً إنه النموذج التجريدي لمعمار مرن من الصوت وراء رؤى الأعمدة الرخامية الثابتة لمدينة كبيرة. لذا فإن المسير الرمزي في الصحراء عند نهاية الأداء يجعل الراوية تلغي كل الدعامات العاطفية والخيالية.(11) وتترك بعيداً وراءها أي معالم تأويلية إذ أن الصور والمجازات والكلمات تخذلها وتقع فريسة اليأس « غير متلهفة بعد، راغبة فقط في الذهاب». يلاحظ «فرنر وولف» هذه النهاية السلبية، لكنه ينسبها إلى « الوعي البازغ لها والموقف الحقيقي للذاهبين إلى الحفلة « الذين يقللون من أهمية الإيجابية التي يحدثها التلقي الخيالي للموسيقى»(وولف 160). لكني أود أن أناقش بأن هذه الاستجابة السلبية الأخيرة يجب أن تتخذ تماماً العكس أي كإشارة إلى استياء الراوية من قواها اللغوية المعبرة وفشلها في التلفظ بشدة تجربتها في الموسيقى. وكما لاحظت وولف نفسها فإن مثل هذا التلفظ عبر الفن هو «في غاية الشكلية والسطحية إذ أننا بالكاد يمكن أن نجبر شفاهنا على تشكيله؛ بينما العاطفة مميزة وقوية ومقنعة. نحن نحاول أن نصفها لكننا لا نستطيع، ثم تختفي وما أن نراها ونفقدها حتى تتغلب علينا الإرهاق والكآبة؛ نحن نميز الحدود التي تضعها الطبيعة في طريقنا» (1966: 242-243) ألا يصف ذلك بدقة الطريقة التي تمسرح بها وولف انتهاء الأداء في قصة «الرباعية الوترية»؟ إن «عاطفة» التجربة الموسيقية للراوية في هذه القصة القصيرة كانت بالتأكيد «مميزة وقوية ومقنعة» لكن يأسها الأخير بالتأكيد لا كما يدل على ذلك فرنر وولف، إشارة إلى الشك بـ«حقيقة» لندن إزاء نوع من الفردوس الموسيقى المتسامي للأداء. كانت بالفعل «بين الفصول» ( أو بالأحرى بين الحركات) لا خلال الأداء، إذ أن الراوية تصبح قريبة إلى التعبير عن تأثير الموسيقى في وصف الأفعال الصامتة (بلا كلمات) ذات المغزى:» أريد أن أرقص وأضحك وآكل كيكا ورديا وأصفرَ وأشرب نبيذ حاد» تهتف بمرح بعد الحركة الأولى. الحركة الثانية ستجعلها ترى العالم بحس الطفل العجيب، كل شيء يظهر «جدّ غريب ومثير» غير متناسب، عالم جديد يجب تحريه وفهمه بالعلاقة مع الإيقاعات والنماذج والمتناظرات الداخلية للتكوين الموسيقي. بالنسبة لوولف فإن تأثير الموسيقى لهذا السبب لا يكمن في قابليتها على إثارة الصور إذ أن الراوية تصف (وتيأس) مما كان عواطف رخيصة وإثارة بسيطة. لا «اليأس» ولا «الأمل»، لا «الحزن» ولا «الفرح» كانت مصطلحات من الممكن دائماً تقترب من التعبير عن التركيز والتعقيد التي تحملها التجربة الموسيقية في متتالية الحلم الثاني. كما تناقش وولف فإن أي وصف بالألفاظ لاستجاباتنا للعمل الفني «هو ليس وصفاً إطلاقاً؛ إنه يترك المعنى» لذا فهي تسأل كما نفعل نحن:» لكن ما نوع المعنى الذي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات» (1966: 243(.إن الراوية في قصة «الرباعية الوترية» لا تأتي إلى الحفلة كي تدع لنفسها أن تنغمر في الأفكار المسرّة والأحلام كنوع من الهروبية إلى «فردوس» موسيقي كما يعتقد «فرنر وولف» (وولف 162)، لكنها على النقيض تعمل بشكل واع على تحليل وتقييم قوة الموسيقى في بحثها عن شيء أكثر أساساً يتجاوز السطح والأعراض والمظاهر، ويتسامى للحظة، شيء ليس خارج كل واحد منا لكنه شيء نحن جزء منه. وكما تتساءل من قبل في بدء العزف جائلة ببصرها حول قاعة الحفل:» ثمة إشارات، إن لم أكن مخطئة، بأننا جميعاً نستذكر شيئاً، ونبحث بشكل مختلس عن شيء»(1989: 139 الحروف المائلة تأكيد مني). إن الطراز الظاهري للعُرف والزمن المجزأ بشكل أنيق والناس الذين يجلسون في صفوف على الكراسي المذهبة والمواكب والمشابك التي تبقي الربطات مستقيمة، كل ذلك الطراز والتنظيم الظاهري (العرفي) يجري تفكيكه وإعادة تقييمه في ضوء التجربة الموسيقية. حتى لو أن عيوب تلفظ الراوية لتجربتها الموسيقية تسبب لها بلا شك اليأس في النهاية إلا أنها مع ذلك تريد أن تختفي داخل عالم فيه طريقة جديدة للنظر إلى الأشياء ولهذا فهي تحيي بائعة التفاح وتتكلم إلى الخادمة – الناس الذين كثيراً ما يأخذون في الاعتبار-، غافلة عن حقيقة أن هذه الطريقة في رؤية الأشياء هي جوهر التجربة الموسيقية ذاتها، وهو الجواب للسؤال الذي سألته في البداية لنفسها قبل بدء العزف: لماذا الاستماع إلى الموسيقى؟
تفهم فرجينيا وولف الموسيقى لا كونها قياسا لتيار الوعي أو العواطف ولا هي مجاز لعالم (أفضل) متسام. وعلى النقيض من ذلك فالموسيقى ينظر إليها في هذه القصة كونها قياساً للمشروطيات الإبداعية للوعي الذي يمكن بنفسه أن يصيغ العالم بشكل مختلف. يمكن لجوهر التجربة الموسيقية أن يوجز في كلمات «برنارد» في رواية «الأمواج:» من يفصح عن المعنى الذي يكمن في أي شيء؟» […] كل شيء تجربة ومغامرة». على نحو متناقض نصل إلى استنتاج بأن فهم «وولف» للموسيقى هو رسمي على نحو شديد لأن مسرحتها للواجهات المختلفة للتجربة الموسيقية في قصتها القصيرة «الرباعية الوترية» تكشف أن ما هو مهم في الموسيقى هو مميزاتها الموسيقية الخالصة: حقيقة أنها «تكوين» معقد من الظاهرة الصوتية التي تبرز تدريجياً بينما نحن نستمع لها. أما البقية، مثل الأحاسيس والكلمات والصور والمجازات التي نربطها مع الموسيقى أو نستعملها لوصف ما هو رغم ذلك تجربة فردية جداً من غير الممكن نقلها، فهي تبقى ثانوية. هناك تكمن لدى وولف الطبيعة النموذجية للتعبير الموسيقي.
إذا ما فهمت قصة «الرباعي الوتري» كتحر لعيوب التلفظ بالموسيقى فإنها تعيد ترسيخ الخصوصية غير اللفظية غير القابلة للتحويل للمصطلح الموسيقي. ولا شكّ أن قصة «الرباعي الوتري» قد أعادت فيرجينيا وولف كتابتها كي تظهر في رواية «الأمواج» في مقطع يحمل تشابهات مدهشة. كلا النصين، إذا ما جرى قراءتهما بالتوازي، يلقي أحدهما الضوء على الآخر. كل من «رودا» في رواية «الأمواج» والراوية في قصة «الرباعي الوتري» في النهاية تثيران الاستياء باستجابتهما الخيالية الأصلية للموسيقى. إن «رودا» بعد موت «بارسيفال» تجد العزاء بالذهاب إلى حفلة موسيقية في قاعة «بخشتاين» لكنها كانت محبطة من عدم قدرتها على التعبير بالكلمات عن تجربتها الموسيقية.
الرجال الشبيهون بالخنفساء يتهيأون لكماناتهم: انتظار، عدّ، تمايل، يخفضوا أقواسهم وثمة تموّج وضحك مثل رقص أشجار الزيتون وأوراقها الرمادية ذات الألسنة الوافرة حين يقفز البحار على الساحل وهو يعض غصناً بين شفتيه إذ تهبط التلال ذات الانحدارات الشديدة والأظهر المتعددة.
«مثل» و»مثل» و»مثل»- لكن ما هو الشيء الذي يكمن تحت المظهر الخارجي للشيء؟»
على الرغم من أنّ استجابة «رودا» الخيالية تستفيد من صور مختلفة من تلك الموجودة لدى راوية قصة «الرباعي الوتري» والقطعة نفسها أقصر وأكثر إيجازاً وهي نفس المتوالية من التمثيل الأدبي للموسيقى (التلال تمتلئ بأشجار الزيتون والبحار يقفز على الساحل..الخ) وحتى الاستماع إلى الموسيقى نفسها كنموذج خالص وبناء تجريدي يظهر في التجربة الموسيقية لـ»رودا» في رواية «الأمواج».
ثمة مربع؛ هناك مستطيل. يأخذ اللاعبون المربع ويضعونه على المستطيل. يضعونه بدقة، فيصنعون منزلاً مثالياً. وما يترك في الخارج إلا القليل جداً. البناء الآن مرئي؛ ما هو ناقص يعلن عنه هنا؛ إننا غير مختلفين ولا وضيعين؛ لقد صنعنا مستطيلات ووضعناها إزاء المربعات. ذلك هو انتصارنا؛ وهذا هو عزاؤنا(116).
إذا كانت اللغة، بكلمات «رودا»، يمكن التعبير عنها بـ»مِثل ومِثل ومِثل» تلميح مجازي من الحقيقة فإن الموسيقى، لأنها لا توظف وفق المبادئ التمثيلية للغة، ربما تجعلنا أقرب إلى «الشيء الذي يكمن تحت المظهر الخارجي للشيء» (116). لكن ما هو الشيء الذي يكمن تحت المظهر الخارجي للشيء؟ وكما يعلن البطل الأول لوولف في رواية «الرحلة»:
« ما أريد أن أفعله في كتابة الروايات يشبه تماماً ما تريد أن تفعله حين تعزف على البيانو كما اعتقد» بدأ يدور ويتكلم من فوق كتفيه.» نريد أن نكتشف ما وراء الأشياء أليس كذلك؟» يستمر بالقول»انظر إلى الأضواء هناك المتفرقة كيفما اتفق. الأشياء التي أشعر أنها تأتي لي مثل الأضواء.. أريد أن أجمعها.. هل رأيت من قبل ألعاباً نارية تصنع أشكالاً؟ أريد أن أصنع أشكالاً.. هل ذلك ما تريد أن تفعله؟»
الآن هم خرجوا وربما يمشون جنباً إلى جنب.
حين أعزف البيانو تكون الموسيقى مختلفة… لكني أفهم ما تعني» (1974:221-222).
في نظر وولف الجمالي تكون الموسيقى لهذا السبب جسراً بين «المنطقة الصامتة» لـ»المعنى» الخالص غير المتجسد («والتر سكرت» 1966:242و243) وهو المعنى الذي نفهمه دون أن نجد كلمات نصفها به وهو تعبير أدبي تمثيلي جداً وملفوظ لهذا المعنى. ببحثها عن «بعض التصميم الذي يتوافق كثيراً» مع تلك اللحظات التي تتجنب التعريف اللغوي (1980c:169) تتحول وولف عندئذ إلى الموسيقى للتعبير «عما هو مفزع وما هو غير متوقع وما لا نستطيع أن نفسره» (172). بتجنبها عائق الكلمات يمكن رؤية الموسيقى عندئذ كتعبير بطريقتها الخاصة غير اللفظية التي تتجنب تلك الكلمات التي تخدعنا في غالب الأحيان لأنها «سطحية جداً» و»اصطناعية وغير مخلصة» (59) كما كشفنا في قراءتنا لـ»الرباعية الوترية»، لذا فهي تعطينا المفتاح لفهم دور ووظيفة الموسيقى في كتابات وولف.
ببليوغرافيا
Bell, Quentin. Virginia Woolf – A Biography, Vol. 1. London: The Hogarth Press, 1972.
—. Virginia Woolf – A Biography. Vol. 2. London: The Hogarth Press, 1973.
Blackstone, Bernard. Virginia Woolf: A Commentary. London: Hogarth Press, 1949.
Brown, Calvin S. ‘Musico-literary Research in the Last Two Decades’, Yearbook of Comparative and General Literature 19:6 (1970): 5-27.
Child, Harold. Unsigned Review (attributed to Harold Child). Times Literary Supplement, 7 April 1921.Virginia Woolf, the Critical Heritage. Ed. Robin Majumdar and Allen McLaurin. London: Routledge, 1997. 87-88.
Eliot, T.S. “London Letter”. July/August 1921. The Annotated Waste Land with Eliot›s Contemporary Prose. Ed. Lawrence Rainey. New Haven and London: Yale University Press, 2005. 183-187.
Hafley, James. “Virginia Woolf’s Narrators and the Art of “Life Itself›”. Revaluation and Continuity. Ed. Ralph Freedman. Berkeley: University of California Press, 1980.
Huxley, Aldous. Point Counter Point, London: Chatto & Windus, 1963.
Jacobs, Peter. “The Second Violin Tuning in the Ante-Room: Virginia Woolf and Music”. The Multiple Muses of Virginia Woolf. Ed. Diane Gillespie. Columbia: University of Missouri Press, 1993. 227-260.
Kivy, Peter. Introduction to a Philosophy of Music. Oxford: Oxford University Press, 2002.
Silver, Brenda R. “‹Anon› and ‹The Reader›: Virginia Woolf›s Last Essays”. Twentieth Century Literature, Virginia Woolf Issue. Autumn-Winter 25.¾. (1979): 382-398.
Langer, Susanne K. Philosophy in a New Key. Cambridge (Mass.): Harvard University Press, 1951.
Lee, Hermione. Virginia Woolf. Reading: Vintage, 1997.
MacCarthy, Desmond (writing as ‘Affable Hawk’). Review: New Statesman, 9th April 1921, in Virginia Woolf, the Critical Heritage. Ed. Robin Majumdar and Allen McLaurin. London: Routledge, 1997. 91.
Wolf, Werner. The Musicalization of Fiction: a Study in the Theory and History of Intermediality. Amsterdam: Rodopi, 1999.
Wordsworth, William. ‘The Prelude’. The Complete Poetical Works. London: Macmillan and Co., 1888; Bartleby.com, 1999. 14 Dec. 2007 www.bartleby.com/145/.
Woolf, Leonard. Letters of Leonard Woolf. London: Weidenfeld and Nicolson, 1990.
Woolf, Virginia. Between the Acts. London: The Hogarth Press, 1960.
—. Collected Essays. Volume II. London: The Hogarth Press, 1966.
—. The Voyage Out. Harmondsworth: Penguin Books, 1974.
—. The Flight of the Mind: The Letters of Virginia Woolf. Vol. I.. Ed. Nigel Nicolson and Joanne Trautmann. London: The Hogarth Press, 1975.
—. The Diary of Virginia Woolf. Vol. II. Ed. Anne Olivier Bell and Andrew McNeillie. London: The Hogarth Press, 1978a.
—. A Reflection of the Other Person: The Letters of Virginia Woolf. Ed. Nigel Nicolson and Joanne Trautmann. Vol. IV. London: The Hogarth Press, 1978b.
—. The Sickle Side of the Moon: The Letters of Virginia Woolf. Ed. Nigel Nicolson and Joanne Trautmann. Vol. V. London: The Hogarth Press, 1979.
—. The Diary of Virginia Woolf. Vol. I. Ed. Anne Olivier Bell and Andrew McNeillie. London: The Hogarth Press, 1980a.
—. Leave the Letters Till We›re Dead: The Letters of Virginia Woolf.Ed. Nigel Nicolson and Joanne Trautmann. Vol. VI. London: The Hogarth Press, 1980b.
—. The Waves. London: The Hogarth Press, 1980c.
—. The Diary of Virginia Woolf. Vol. V. Ed. Anne Olivier Bell and Andrew McNeillie. London: The Hogarth Press, 1984.
—. The Essays of Virginia Woolf. Vol. 1. Ed. Andrew McNeillie. London: The Hogarth Press, 1986.
—. “The String Quartet”. The Complete Shorter Fiction of Virginia Woolf. Ed. Susan Dick. London: The Hogarth Press, 1989.
—. A Passionate Apprentice – The Early Journals. Ed. Mitchell A. Leaska. London: The Hogarth Press, 1990.
—. The Essays of Virginia Woolf. Vol. 4. Ed. Andrew McNeillie. London: The Hogarth Press, 1994.
الهوامش
1. لا شك أن فرجينيا وولف كان لديها اسهامات لا بأس بها في المعرفة الموسيقية التقنية. حين كانت في الحادية عشرة كتبت أختها «ستيلا» في يومياتها بأن «جينيا» كانت تتعلم الموسيقى وكانت هي نفسها اعتادت أداء سوناتات بيتهوفن دون تحضير (qtd. in Lee 33) كما اعتادت فرجينيا حين كانت في السابعة عشرة أن تعزف الفيوغات مع اختها فانيسيا (1975: 5). هذه تناقض افتراضات ليونارد وولف وكليف بيل بأنها لم يكن لديها معرفة تقنية بالموسيقى (L. Woolf 528; Bell 1: 149). إن الإشارات الكثيرة جداً إلى المصطلحات الموسيقية في يومياتها تظهر لنا بأنها كانت بعيدة جداً عن الجهل بالموسيقى وأنها لم تتردد في كتابة مقالات نقدية تتضمن تأويلات للقطع الموسيقية التي كانت تستمع لها.
2. كانت وولف تحضر العديد من الحفلات الموسيقية لكن حتى الجانب الاجتماعي من الذهاب إلى الحفلات كانت يسحرها وكان موضوعاً للعديد من أكثر صورها القلمية هجاءً في يومياتها ورواياتها وقصصها القصيرة والصفحات الاستهلالية من قصة «الرباعي الوتري» كانت مثالاً في هذه الحالة كما أنها صرفت ذهنها أيضا عن الموسيقى الفعلية التي تم عزفها. كما أن الاكتشاف الجديد للغرامافون أتاح لها بديلاً مثالياً. وبعد حصولها على أحد النماذج الجديدة في عام 1925(Bell 2: 130) قضت فرجينيا وولف الكثير من الوقت في الاستماع إلى الموسيقى في غرفة جلوسها البعيدة عن ضجة ما حولها(D5: 73, 161)، بينما كانت تعمل على مشاريعها الأدبية أصبحت الموسيقى «خلفية لتأملاتها وثيمة لقلمها» كما يصفها ابن أختها «كوينتن بيل» (Bell 1: 149) ويتذكر ليونارد بأن زوجته كانت «مولعة جداً بالموسيقى واعتادت الإصغاء إلى الراديو والغرامافون وبالأخص الموسيقى الكلاسيكية في كل ليلة»( L. Woolf 528).
3. ربما كان ذلك جزءا من مشروعها «التاريخ المشترك» التي كتبت فقط فصلين منه بعنوان «أنون» و»القارئ» (see Silver 382-398)
4. كانت وولف مستاءة من عدم فهم بعض النقاد وحيرتهم من مجموعتها القصصية «الاثنين أو الثلاثاء» التي أدى بها إلى الشكوى بأنهم «لا يرون بأني خلفت شيئاً مهماً» (D2: 106, 8th April 1921). من المحتمل أن هذا التعليق يشير إلى مراجعة منسوبة إلى «هارولد تشايلد» في «ملحق التايمز الأدبي» لمجموعة» الاثنين أو الثلاثاء» المنشورة في السابع من نيسان عام 1921. على الرغم من أن تشايلد يكشف بأن الصلة بين استعمال وولف الإبداعي للنثر والأسلوب الجديد «للفن غير التمثيلي الذي زحف من الرسم» والموسيقى، إلا أنه يعطي وصفاً نقدياً ساخراً لأسلوب الكتابة لدى وولف، دالاً على أن ذلك «لا يعني سوى القليل جداً لما هو محسوس بالنسبة للعقل العادي لكن ذلك لا يمكن أن يفيد المعنى كثيراً من أجل أغراضه. فالنثر ربما «يطمح إلى حالة الموسيقى لكن لا يصل إليها» (Child 87-88).
5. بما أن جنس السارد غير مصرح به فسوف نعد السارد أنثى،للإفادة،. انظر أيضاَ مناقشة «فرنر وولف» للموضوع (Wolf 148-149).
6. كما تتكلم الساردة نفسها عن «الأحلام الغبية» التي تتصورها لكل حركة من حركات الرباعية فسوف أشير إلى تلك كونها «متواليات الأحلام».
7. عند الكلام عن أوبرا «بارسيفال» لفاغنر ستظهر أنها نفسها واعية جداً بالفرق بين الانطباعات المشتقة من الموسيقى وتلك التي تنبع من الارتباطات الثقافية أو الموسيقية الإضافية:» من الصعب القول إن الكثير من الجو الفريد الذي يحيط بالأوبرا في ذهن المرء ينبع من مصادر أخرى لا من الموسيقى نفسها. إنه العمل الوحيد الذي يتضمن ارتباطات متنافرة» (1986: 290).
8. كانت وولف تكتب أغلب قصصها القصيرة التي تكوّن مجموعتها القصصية «الاثنين أو الثلاثاء» في عامي 1920 و1921. حين فكرت وولف بكتابة هذه القصة القصيرة في آذار عام 1920 ذهبت لتصغي إلى عزف «خماسية شوبرت» في حفلة أقيمت «كامدن هيل» في غرفة الموسيقى الخاصة ببيت «جورج بوث» (الذي كانت زوجته مارغريت عازفة كمان) كي «أسجل ملاحظات من أجل كتابة قصتي» (1978a: 24). بدأت وولف بشكل متأنٍّ تسجيل انطباعاتها واستجاباتها إلى الموسيقى أثناء فترة العزف الحقيقي. ومن بين الأعمال التي عزفت في بيت «جورج بوث» مساءً هي «الرباعية الوترية الإنكليزية» (التي ألفها فرانك برج عام 1915) كذلك ثلاثية بيتهوفن. وحسب يوميات بوث:» الرباعية الوترية الإنكليزية. ثلاثية بيتهوفن.خماسية شوبرت. زحام.( qtd in Woolf 1978a: 24 ).
9. على الرغم من أنّ «خماسية سمك التروته» ليست موسيقى «برنامجية» ومع ذلك فهي مرتبطة بأغنية ألمانية بالاسم نفسه، الإطار الموسيقي لشوبرت هي قصيدة لكرستيان فردريك شوبارت، بما أن الحركة الرابعة من الخماسية هي مجموعة من التنويعات المؤسسة على الميلودي بمصاحبة أغنية مبكرة لشوبرت بعنوان « «Die Forelle. من غير المهم هنا اعتبار المصاحبة الموسيقية لقصيدة شوبارت في أغنية «شوبرت» أو حتى في القصيدة نفسها التي لم تكن تعرفها فرجينيا وولف نفسها بالضرورة لأن الإطار الموسيقي للقصيدة في الأغنية بالكاد لها علاقة مع سياق الحركة الرابعة لخماسية موسيقية «مطلقة» التي تعد الثيمة الموسيقية هي الرابط الموسيقي الخالص مع الأغنية. إن شوبرت في الواقع غالباً ما يأخذ ثيمات معينة ثم يعيد العمل بها بقطع موسيقية مختلفة بغض النظر عن سياقها الأصلي فقط من أجل إمكانيتها الموسيقية.
10. نحلل اللحظات المختلفة التي تكون استجابة الساردة للموسيقى كما يلي: بعد أن نشأت من الينابيع وانبثقت من تحت شجرة الكمثرى المزهرة، فإن شلالات الجدول الصغيرة تهبط من قمة الجبل إلى تيارات نهر الرون السريعة الفائرة، ثمّ تدوّم في أحواض السمك وتجري تحت أقواس الحجر في المدن القديمة مارة ببائعات السمك الضاحكات. هذا ما نسميه متوالية الحلم الأول. بعد الوقفة الأولى في متوالية الحلم الثاني تتصور الساردة أنها على متن قارب وهي تعوم ببطء على طول نهر بطيء «كئيب» يجري عبر أفرشة من شجر السلال في الظلام، القمر يشرف عبر غصون الصفصاف قبل أن ينقلب أرواح المسافرين الغارقة تصعد كالأشباح في السماء. بعد الوقفة التالية ما يسمى الآن تيار رقيق يعرّج خلال أراضي أوربا الجنوبية ربما هي قلعة أسبانية من القرون الوسطى تصبح مجرد خلفية، تتجنبه الساردة كي تركز على فعل المشهد بين عاشقين والأمير.
ونطلق على هذه متوالية الحلم الثالث. في النهاية وبعد «هروب» العشاق بدلاً أو بالأحرى الجري إلى البحر، فإن البحر يلتف على نفسه بشكل غريب. بعد أن تشعر الساردة بأن نهاية العزف قد اقترب فإنها تبدو تنظر للوراء إلى أحلامها ساحبة خطواتها من خلال المجاز عادة إلى السمكة في متوالية الافتتاح الحلمية، في انتقال قصير نحو ما ندعوه متوالية الحلم الرابع والأخير، تتجمع مياه النهر في «بركة مضاءة بالقمر» ثم «تذوب» في «سماء أوبالية» لفجر جديد، الألوان المتقزحة والشكل الأوبالي ترتبط مع «أحجار الأوبال الكريمة» نفسها وتوحي بانعكاس جوي لسطح البركة. وهذا تفسح المجال للمشهد الأخير، سراب لقلعة مؤثرة فخمة والأخير مشهد الصحراء الجافة الحارة والجرداء بلا ماء.
11. لمناقشة التجارب الخيالية أو البصرية للموسيقى الخالصة انظر «لانجر» الذي يستعمل مصطلح « عكاز» كي يصف مثل تلك الاستجابات ( Langer242 )
12. في الواقع وبعد الرؤيا لمتوالية الحلم الأخير في قصة «الرباعي الوتري» فإن الساردة في نهاية العزف سوف تبحث بشكل ذي مغزى عن «أولئك الذين يخطون بخفة ويذهبون مبتسمين من خلال العالم»، والشخصيات البسيطة السعيدة للمرأة بائعة التفاح والخادمة وزملاء النهار العصري لـ»بائعات السمك المبتهجات»البسيطات اللاتي تتصورهن كونهن طيبات سعيدات في متوالية الحلم الأول.
___________
*نزوى/ عن مجلة « Journal of the Short Story in English» العدد50 ربيع 2008