ظلال السّرد المهمّشة/ مُقاربات في الفن الروائي (3)

*لطفية الدليمي

أقرأ غالباً على صفحات الفيسبوك المشحونة بالصخب مجادلات ونزاعات ووجهات نظر متباينة ومتطرفة حول الفن الروائي ، وقد علقت في ذهني بعض الملاحظات التي تراكمت لدي  منذ زمن حتى بلغ التراكم حداً رأيت معه أن أعلّق على بعض التفاصيل الخاصة بالفن الروائي من وجهة نظر شخصية خالصة توصلت إليها كمؤشرات .

وأود التأكيد بدءاَ أنني لست بصدد الحديث عن الثيمات الكبيرة الخاصة بوظيفة الفن الروائي وطبيعته وأجناسه – تلك الثيمات التي كتبت عنها بشيء من التفصيل في تقديمي لكتابي المترجم ( تطوّر الرواية الحديثة ) الصادر عن دار المدى عام 2016 ، بل سأؤكّد  هنا على بعض التفاصيل المُغْفلة التي غالباً ماتُهمّشُ ولايُعنى بها بعضُ قرّاء الرواية وكتّابها . سأناقش هذه  التفاصيل بهيئة مقاطع مستقلة لتأكيد الفكرة المقصودة :

15995591_1510740068954821_63570028_n
– الخبرة قيمة تختلف عن المعرفة في نطاق الرواية :
ليس لزاماً على العمل الروائي أن يوفر مادة معرفية للقارئ ، إنما ينبغي له أن يوفر خبرة منتجة له .؛ فروائيون  أمثال ماركيز وهمنغواي  لم يقدّموا للقارئ  مادة  معرفية بل قدّموا خبرة منتجة عندما رسموا أمامه معالم جغرافيات مادية أو ذهنية أو سحرية كانت عوالم مهملة بالنسبة له  ، بينما قدم  كّتاب أمثال كونديرا ولوكليزيو وكالفينو  في أعمالهم خبرة مضمخة  بالمعرفة لا محض خبرة خالصة ، أما الروايات التي تنحو منحى معرفياً خالصاً فيمكن حصرها في إطار الروايات التي تسعى لتيسير الوصول إلى تأريخ الأفكار في الحقول المعرفية المهمة – مثل الفلسفة – كأعمال أومبرتو إيكو ، ويمكن في هذا المجال أن أذكر رواية ( عالم صوفي ) للكاتب النرويجي ( جوستين غارديير ) وكذلك ( أحلام آينشتاين ) للروائي الفيزيائي الأمريكي ( آلان لايتمان ) ورواية ( 36 دليلاً على وجود  الله ) للروائية الفيلسوفة  ( ريبيكا غولدشتاين ) .

RNG640
– يمكن للرواية أن تكون وسيلة ثورية مضادة لنزعة التنميط الخوارزمي   :  من المعلوم أننا نعيش اليوم وسط بيئة صارت محكومة – بالضرورة – بهيمنة الوسائط الرقمية الشائعة ، ومعروف أيضاً أن تلك الوسائط محكومة هي الأخرى بقيود النظم الرقمية التي تعمل وفق خوارزميات محددة ، وقد أدى هذا الأمر إلى خفوت القدرات التحليلية والفلسفية والاستعاضة عنها بنوع من القدرة الخوارزمية الأقرب إلى متطلبات التنميط الجمعي التي يستلزمها الارتقاء بمنظومات الذكاء الاصطناعي ، ولايغيب عنا أن خفوت الشغف التحليلي والفلسفي ينطوي على مخاطر عدة من بينها تراخي النزعة الإنسانية وفقدان التواصل الحي مع الإرث الإنساني في شتى حقوله المعرفية وشيوع نوع مستحدث من العبودية الرقمية التي يسهل توظيفها من قبل الحكومات لخلق نوع من دكتاتوريات رقمية شديدة الوطأة . وفي مواجهة ذلك ستحافظ القراءة المنتظمة للرواية على التراث الإنساني وتعمل على الارتقاء المتواصل في المناطق الدماغية الخاصة بالقدرات التحليلية وتجنب الانكفاء في لجّة الخبرات المنمّطة .

01
–  الرواية وتوظيفها كوسيط معرفي : نشهد اليوم وفي كل بقاع عالمنا انحساراً معرفياً كبيراً مقابل تفجر معلوماتي هائل ، وتكمن المشكلة دوماً في كيفية تحويل ذلك التفجر المعلوماتي – الذي يشبه الانفجار الكوني العظيم – إلى معرفة موجهة لتحقيق صالح الفرد والمجتمع معاً ، وقد جاءت لنا الوسائط الرقمية الشائعة بنوع من القدرة السهلة والجاهزة للحصول على المعلومة إنما دون توظيفها لاحقاً في صيغة معرفة هادفة تقود إلى خبرة منتجة ، وقد تفاقمت هذه الإشكالية حتى على صعيد المؤسسات التي كانت تُعتبر تقليدياً مصادر مزوّدة للمعرفة ( مثل المدرسة والجامعة والصحيفة اليومية ) بعد انحسار الرغبة في القراءة الرصينة والاستعاضة عنها بالمتعة الصورية العابرة والمفتقدة لأية قيمة فلسفية ، ووصل الأمر حداّ بلغ معه مرتبة المعضلة القومية في كثير من الدول بعد أن شهدت مخرجات التعليم تباطؤاً واضح المعالم في القدرات الجمعية ؛  فقد أصبح التفوق والإنجاز الأكاديمي وغير الأكاديمي غارقاً في الفردانية وبعيداً عن التمثلات الجمعية أكثر من ذي قبل ، ووسط بيئة بهذه المواصفات بوسع الرواية أن تكون وسيطاً معرفياً مقصوداً أكثر من أي وسيط آخر لتوفيرالمعرفة الهادفة عبر توظيف وسائلها اللامحدودة في المناورة والقدرة على تمرير الأفكار في إطار جمالي مغلّف بالمتعة .

M_Kundera
تلمست – في قراءاتي للرواية  وعبر ترجماتي لحوارات كثيرة مع كُتّاب الرواية وكاتباتها – ميلاً طاغياً للروائيين المعاصرين نحو جعل الرواية نصاً معرفياً بحدود مايمكنهم توظيفه ويأنسون له ، وسنلمس في روايات القرن الحادي والعشرين قبسات متزايدة من المعرفة العلمية والفلسفية والسايكولوجية والتأريخية تتواشج مع الصفات الخاصة لكل شخصية وتبرز اهتماماتها  وأحلامها ونمط سلوكها ، ويتفق هذا الأمر مع القناعة المتزايدة بأن الرواية الحديثة ستلعب في السنوات المقبلة دور ( الحاضنة المعرفية ) التي تزوّد  الأجيال المسحورة بالعالم الرقمي بقدر معقول من  تلاوين المعرفة المتجددة ، وسيكون بوسع الروائي المتمكن (عبر مقاربة مفردات المعرفة  بوسائل ناعمة وسلسة ) إعادة التوازن بين المعرفة التحليلية والرقمية المهيمنة  ليساعد بعمله الإبداعي على تعزيز كفاءة قرائه الشباب  في استخدام الطاقات الخلاقة المتاحة للعقل البشري .

– الرواية وموضوعة “التعددية الثقافية” : يمكن للروائي الحاذق أن يوظّف الفن الروائي توظيفاً مجتمعياً براغماتياً مرغوباً فيه  بجعل الرواية وسيطاً حاملاً للتعددية الثقافية Multiculturalism وتمظهراتها ( مثل رواية الأقليات ورواية الجماعات المهاجرة في البلدان المستقبلة للمهاجرين ) ، وليست خافية الأهمية الحاسمة لإشاعة ثقافة التسامح والانفتاح على الآخر وثقافته، وتتعزز هذه الأهمية بالطبع في عصرنا الحالي الذي شاعت فيه النزعات المتطرفة التي تغذيها ثقافات منغلقة تتمسّح بقراءات دينية متشددة . إن التجارب الثقافية الناجحة التي اعتمدتها بعض البلدان المتقدمة في ثقافتها الديمقراطية تنبئنا أن الرواية يمكنها أن تساهم مساهمة فعّالة في تكييف الثقافات المحلية ومن ثم الارتقاء بها نحو ثقافة جمعية منفتحة ؛ وبهذا يمكن اعتبار الرواية وسيلة من وسائل الهندسة المجتمعية التي بوسعها إعادة التكييف العقلي لقرائها عبر إلقاء الضوء الفاحص على الندوب التأريخية المعيبة وكشفها أمام الجميع بغية تجاوزها والارتقاء عليها ، ومن الطبيعي أن تتعاظم قيمة الرواية كوسيط يعزّز فكرة التعددية الثقافية في المجتمعات الهشّة التي خرجت قريباً من معطف الديكتاتورية والنظم الشمولية . لابد لي هنا من الاشارة إلى أن استخدام الرواية كأداة في تشكيل الهندسة المجتمعية المنفتحة سيخدم بمثابة قاطرة تجرُّ وراءها مجموعة كاملة من الاشتغالات الثقافية المتعددة مثل السوسيولوجيا والانثروبولوجيا وتأريخ الأقليات ولغاتها ومساهماتها الحضارية ؛ الأمر الذي سينعكس بصورة إيجابية في تعزيز السلم المجتمعي ونبذ التوجهات المتطرفة القائمة على فكر الاستحواذ والتهميش ومركزة المال والسلطة .

Hemingway-777x437
– الرسالة الخلاصية للرواية : تختصُّ الرواية بقدرتها الهائلة على صهر الألوان المعرفية في أتونها وتوظيفها توظيفاً خلاقاً ؛ غير أن  الميزة الأساسية التي تميّز الرواية عن كل الألوان المعرفية  لا تكمن في سعيها نحو توسيع آفاق خارطة الفهم والمعرفة البشرية فحسب بل تأكيد مسعاها الخلاصي : التبشير برؤية وجودية خلاصية للإنسان موازية للوعد الخلاصي الأخروي الذي تبشّر به النظم اللاهوتية  . تسعى كل رواية – مهما كان موضوعها – لتناول جانب من الجوانب الوجودية المحايثة للحالة البشرية التي تتسم عادة بقدرٍ من النزعة المأساوية ( الولادة ، الموت ، الشيخوخة ، الحب ، الفراق ، الحرب ، تلوث البيئة ، اللامساواة ، القسوة ، التعصب ،،،،، ) وسيكون بوسع الرواية أن تشكّل نوعاً من ترياق مضاد يمثل رؤية خلاصية إزاء المحن التي تنطوي عليها الحياة البشرية ، وقد يجادل البعض أن بعضاً من الروايات توظّف عوالم ميتافيزيقية بعيدة عن التفاصيل الإنسانية ولاتحفل بتقديم  رسالة خلاصية منشودة ، غير ان هذا القول ينطوي على مغالطة فلسفية في نهاية المطاف ؛ فطالما كانت الرواية نتاج عقل بشري فإنها ستمتلك بالضرورة رؤية خلاصية من نوعٍ ما .

14611028_1426635317365297_8436631676978828537_n
يتميز بعض الروائيين بحرصهم المفرط على تضمين النص نوعاً من ( الرؤية الخلاصية ) الميتافيزيقية وعلى نحوٍ يتعادل مع الرؤية الفلسفية الكانتية ( الخاصة بالفيلسوف كانت ) التي تقوم على أساس مفارقة اللامرئي للمرئي ، والميتافيزيقي لليومي العابر . إن فكرة ( المجاوزة ) المستمرة للوقائع اليومية – مهما بدت مثيرة ومدهشة ومغوية – إنّما  تتموضع  – برأيي – في المركز الجوهري  لكلّ رؤية خلاصية فردية ، وأحسب أن الرواية جديرة  بتعزيز هذه الرؤية حتى وإن  تشكّلت من حوادث يومية محدودة طارئة أو عابرة.
__________
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *