رسائل ريلكه ويوسا إلى الأدباء الناشئين: كونوا وحيدين ولا تصدقوا الإطراء

*عواد علي

في كتاب بعنوان “رسائل إلى شاعر ناشئ، رسائل إلى روائي ناشئ”، بترجمة أحمد المديني، يوجّه مبدعان كبيران، هما الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه والروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا، نصائح ذات فائدة عظيمة للأدباء الناشئين.

تجربة غنية

يأخذ ريلكه في رسائله بيد شاب يتطلّع لأن يصبح شاعرا، فيسدي له ما يراه مناسبا من النُصح، هو خلاصة تجربة غنيّة في الأدب والحياة معا. هذا الشاب كان يمتهن الحياة العسكرية ويجرب كتابة الشعر، لكنه في حيرة من أمر أبياته ومشاعره وحياته، فيحاول التواصل مع الشاعر ريلكه عله يسبر أسلوبه، ويصنع خصوصيته الجمالية عبر ذلك الحوار الممتد على طول عشر رسائل اختارها المترجم من بين مجموعة كبيرة من رسائل ريلكه.

يكتب ريلكه لذلك الشاعر الناشئ ناصحا إياه بضرورة تخليه عن هاجس النشر، وعدم الانزعاج إطلاقا من رفض محرري المنابر الأدبية تبني أعماله، ذلك لأن التمسك بالذات، في رأي ريلكه، هو الدافع الرئيسي لاختبار الشاعر قدرته على التوجه إلى جذور القلب، والعناية بحساسيتها الفنية لا تأتي من إطراءات الآخرين ومديحهم، لأن الخارج لا يعطي أجوبة ولا يصنع ذاتا خلاَّقة، بل يشوش بعنف على التطور الداخلي للأديب. “كن صبورا مثل مريض، وواثقا مثل ناقة، ولعلك هذا وذاك، بل لعلك أكثر، إنك أيضًا الطبيب، فأسلم نفسك لنفسك.

لكن يوجد دائما في المرض ما لا يقدر الطبيب أمامه إلا الانتظار فلا بأس منه. إذا، لا تغرق في ملاحظة نفسك، وتجنَّب أن تستخلص مما يجري أمامك من خلاصات عجلى… دع الأمور تمشي على سجيتها”. “أحِب وحدتك وتحمَّل وزرها، كن طبيعيا مع من هم وراءك، لا تدوِّخهم بشكواك ولا ترعبهم بإيمانك وبحماستك، إنهم لن يستطيعوا فهمك، تواصل معهم في ما هو بسيط وصادق”.

يطالب ريلكه، في الكتاب، الصادر حديثا في طبعة ثانية، عن دار “أزمنة للنشر”، من جانب آخر، ذلك الشاب بأن يدّخر ويراكم، فالعطاء هو اكتمال، ولا يأتي بسرعة كما يريده الشبّان عندما يعشقون، حيث يضيعون أدواتهم بين أشياء الصمت والوعود، والناس بقدر ما نظروا إلى الحب على أساس أنه مجرد متعة، جعلوا الوصول إليه سهلا ومبذولا وغير محفوف بأي خطر، كما لو كان متعة وفرجة.

يعتبر يوسا رسائله الموجّهة إلى روائي شاب، مفترضا أنه صديقه، دليل سير لأي ناشئ يبغي خوض غمار الكتابة الروائية، دليل يرسم خارطة منسّقة للعالم الروائي ومساراته وعلاماته، كما خبرها وجرّبها وأتقنها وثقّف بها.

ويبدو “الميل” الأدبي، بالنسبة إلى يوسا، نقطة الانطلاق التي لا بدّ منها، فهو استعداد فطري ذو أصول غامضة، يدفع بعض الناس إلى تكريس حياتهم في نشاط يشعرون بأنهم مدعوون إلى ممارسته، مستشفين أنه يمنحهم فرصةً لتحقيق ذواتهم.

يلي ذلك تنظيمهم حيواتهم ليحولوا ذلك الميل إلى كلمات مكتوبة تنسج حيوات من الخيال، مختلفة عن تلك التي يعيشونها في الواقع. وهذه عملية تنم عن تمرد مسالم، ورفض وانتقاد للحياة، لكن أصل كل القصص ينبع من تجارب الكاتب الذي يبتكرها، سواء حصل على تلك التجارب، امتلكها وعاشها، أو لم يحصل عليها، لكنه كان مهموما بها وأراد أن يخوض غمارها.

فاعلية الإبداع

يلفت يوسا انتباه صديقه إلى أن ما يُعوّل عليه في السرد، كنوع أدبي، على نحو عام، ليس على ما يحكيه، بل كيفية ما يُحكى، وأسلوب هذا الحكي والتقنيات التي يتجلى بها، مثل موقع السرد أو المواقع المتعددة التي يتخذها السارد وهو يعرض سرده، والمنحى الذي يذهب فيه، ومقام الفضاء، والزمان، وقوة الإقناع، وغير ذلك مما يصنع البناء الفني لكل عمل سردي خاضع لنظام وطرق فنية محكمة.

إن قدرة رواية ما على الإقناع تكون أكبر، حسب يوسا، كلما بدت لقارئها أكثر استقلالية وسيادة، حين يوحي له كل ما يحدث فيها بأنه يحدث بموجب آلية داخلية للتخيّل الروائي، وليس بقسر تعسفي تفرضه إرادة خارجية. وعندما تُشعر الرواية بأنها مكتفية بذاتها، وتتضمن كل ما تحتاج إليه لكي تحيا، فإنها تكون قد وصلت إلى أقصى قدرة على الإقناع، وتمكنت من إغواء قارئيها وجعلهم يصدّقون ما ترويه لهم. ويربط يوسا فاعلية الإبداع الروائي بخاصيتين هما: التماسك وطابع الضرورة، فالحكاية التي تتضمنها الرواية يمكن أن تفتقر إلى التماسك، لكن الأسلوب الذي يعبّر عنها لا بد أن يتسم بها، لكي يسمح لانعدام التماسك هذا بالظهور كما لو أنه طبيعي وجزء من الحياة.
_______
*العرب

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *