لعل التفكير في علاقة الأدب بالايدولوجيا، لم يقتصر على الارتباط بتنظيم سياسي معين، يكون متبنيا لتك الإديولوجيا التي يتبنها الأديب المنتمي عضويا لها في أعماله الأدبية، أيا كان نوعها أو جنسها، وهنا لا بد وأن نستحضر انطونيو غرامشي و”المثقف العضوي”، جورج لوكاتش والواقعية الاشتراكيّة، تيري إيغلتون والنظرية الماركسية، وحتى في المعطيات السوسيولوجية إذا اعتبرنا ما يتبناه غولدمان… !!
وبما أن الأدب يتصل اتصالا عضويا ثم تخييليا حتى يُنتج تعبيريا بالفرد، و”الفردانية” كانت ولا زالت في صلب المجتمع البورجوازي والرأسمالي والليبرالي الحديث، وحيث وُجدت هذه “الفردانية”، وُجدت مُتفشية، فاندحر الحس الإنساني العميق، والمساوات ما بين الناس، وكان التضامن عنوانا للإستهلاك السياسي، وليس تجسيرا للتماسك بين الفوارق الطبقية للأفراد داخل المجتمعات.
ومن حيث أن الايديولوجيا، تعتبر وعيا متصلا بالجماعة أو بالمُجتمع، يبقى الفرد المبدع منها، هو المعبر فيها وعنها، بكتاباته وإبداعاته الفنية المتنوعة عن ذالك الوعي، ذاك الفرد الذي يكون هو المُعبر الحقيقي عن معانات وغايات وطموحات وآمال وأحلام تلك الجماعات، انطلاقا من وعيها الجمعي وإيديولوجيتها، التي يترجمها ذات الفرد الأديب عبر مختلف أعماله الفنية والأدبية والكتابية.
وهل هكذا كان الفنان والشاعر والكاتب والأدبي البريطاني الراحل، جون بيرغر John Berger، الذي بدأ مسيرته الأدبية برواية “A Painter of Our Time”، التي ألفها العام 1956 ونشرها بعد عامين. ونشر أول كتاب مقالات له، عبر مسلسل تلفزيوني، تحت عنوان “طرائق الرؤية”، أنتجته “بي بي سي”، والذي أسهم في التعريف به، ككاتب أكبر منه كرسام. هذا العمل، وفي نفس العام وبالعنوان نفسه، تحول إلى كتاب، وهو من صنع له اسما عالميا كبيرا في الكتابة والنقد والأدب..؟؟
جون بيرغر دشن رؤية جديدة حول أهمية الفن، أتت من فرادة اطلاعه المعرفي والموسوعي والفلسفي على الفنون الأوروبية، منذ عصر النهضة حتى نهاية القرن التاسع عشر. غير آبه بلقب “الناقد الفني”، حيث اطلع على أعمال كثيرة، كما لم يفعل ناقد أوروبي من قبل، و”…تفحص لوحات رامبرانت وفرانز هالز، وتينتوريتو، وهولباين ودي هيم وجورج ستبز وكارافاجيو وفان غوخ وماغريت وبيكاسو وحتى صور أوغست ساندر وبول ستراند…الخ”. وبناءا على القيم العميقة والكثيرة التي تتضمنها اللوحات الفنية، دفعت بيرجر إلى التعبير عن نفوره، ” بطريقة لم تحدث في تاريخ الفن من قبل”، ومن “العلاقة الكارثية بين الفن والملكية الفردية”، مما يسمح للنقاد والتجار باستغلالها، لمُطاردة مُحبي الفنون، يقول بيرغر، بالرغم من تشكيكه دوما وعدم حسمه: “أحكم على العمل الفني استناداً إلى قابليته في مساعدة الناس في التنبّه والمطالبة بحقوقهم الطبقية.”… !!
إخلاص جون بيرغر لإيديولوجيته اليساريّة، داخل مجتمع رأسمالي بريطاني، وأوساط ثقافية وفنية من أفراد لديهم رؤى بورجوازية، أو يأملوا لكي يكونوا كذالك، إلا أن جون بيرغر ارتأى الانشقاق واعتمد العبور الحر، بأعماله وإبداعاته بما يخدم العالم والإنسانية والمقهورين والمغلوبين حيث وُجدوا، متحديا كلّ السلط السائدة، فركن إلى صدق إحساسه بالإنسان كإنسان، ومن هنا كانت أفكاره التي عاش من أجلها وترجمها في إبداعاته الفنية ونصوصه ومقالاته ومؤلفاته الأدبية، وجسد نمط الكتابة المُقاوِمَة، والمُتحررة من التطبيع، مع خطاب وتعبير وكلمات الطغاة، والمسيطرين الأقوياء على شعوب ومجتمعات وخيرات العالم.
يقول عنه سلمان رشدي: “إن جودة بيرجر العالية، أنه استطاع دائماً أن يظهر لنا أن ما نراه يمكن أن يكون مغشوشًا”. لم يفصل برجر بين الرسم والكتابة السياسية الملتزمة، وهو يجمع بين المعرفة الواسعة والملاحظة اليومية، التي تضيء الموضوعات التي يلامسها، في العديد من مؤلفاته: المنفى، الهجرة، والليبيرالية الجديدة، زوال عالم الفلاحين، ورواية “الملك”، التي يروي فيها يومًا في حياة مجموعة من لا مأوى لهم في ضواحي عاصمة أوروبية كبيرة.”.
ولم يتوقف نقد جون بيرغر عن هذا التحدي بل انتقد عبر مقالاته الكثير من المؤسّسات الدولية وتعاملات الدول الرأسمالية وخطابها الذي يحتكر مفاهيم “الحرية، والعدالة والمساواة” بُهتانا، ليحجروا على الشعوب الضعيفة، وينتقد أساسا سياسات مصالح تلك الدول التي لا تزيد إلا في تعميق جراح وأزمات الفقراء والمظلومين والمقصيين المهمشين عبر العالم.
تأتي روايته “ج”، “G” التي فازت بجائزة «مان بوكر»، التي ظهر فيها بطل الرواية، كائنا فوضويا مغرَّرا به، يبتغي كل ماهو جديد، بصلف وحماس زائد، يرنو باندفاع إلى كلّ ما هو محظور اجتماعيا، كالجنس والمروق عن الأعراف. وفي عام 2003، كتب جون برجر، وبمرارة الإنسان، المَقال الموسوم بـ ” كُتِبَ في ليل”، عن الاحتلال الأمريكي للعراق، وفيه يُعبر عن خزيه للاستهانة بالأمم والثقافات وجشع بوصلة المال والسلطة لدى الساسة الكبار في العالم، حيث اجترح تعبيرا يُخلد الحدث، “انه ليل الحضارة الذي نشهده الآن.. !! “. وفي حزيران/يونيو من نفس السنة، تواجد بالأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن وحي الزيارة، كتب نصا، يُصور فيه بلغة أدبية الأوضاع هناك، تحت عنوان ” كذلك كان تعبير عينيها”.
تحدث في نصه ذاك عن عذابات الفلسطينيين تحت الاحتلال الصهيوني، أو “اليأس الذي لايهزم”، يقول: “الطريق الصغير الذي ينسلّ بين الصخور الكبيرة، ينزل إلى واد جنوب رام الله. أحياناً يتلوّى بين حقول الزيتون، فيها الأشجار وقورة، بعضها يعود إلى العصر الرّوماني. هذا المسرب الحجريّ (..)، هو المنفذ الوحيد للفلسطينيين إلى قريتهم القريبة. الطريق المعبّد والأصلي، الذي أصبح ممنوعا عنهم، هو الآن مخصص للإسرائيليين الذين يقطنون المستوطنات. لمحت زهرة حمراء بين الشجيرات، وتوقفت لكي أقطفها. بعد ذلك عرفت أنها تدعى Adonis Aestivalis، لونها جدّ غامق وحياتها حسب كتاب النباتات، جدّ قصيرة”.
ويسترسل في نصه عن صعوبات الفلسطينين مع المستوطنات، يقول: “يصرخ بهاء محذراً إياي من التوجه إلى الهضبة التي على يساري، فإذا هم شاهدوا أحداً ما يقترب، يطلقون النار”، وعن حواجز التفتيش وحلزونية وضيق وصعوبة الطريق، للوصول إلى العمل والعودة إلى المساكن، يقول: ” مراكز التفتيش تعمل كما لو أنها على حدود داخلية، مع ذلك هي لا تشبه مراكز تفتيش. هي بُنيت على شكل حاميات عسكرية، بحيث يتحول كل الذين يمثلون أمامها إلى لاجئين غير مرغوب فيهم. الفلسطينيون لا بد أن يتذوّقوا الإذلال أحياناً لمرات عديدة في اليوم الواحد، وأن يلعبوا دور اللاجئين في بلدهم الأصلي!. جميعهم لا بدّ أن يجتازوا مركز التفتيش راجلين. هناك، جنود ببنادق في حالة تأهب لإطلاق الرصاص،”.
وفي ختام نصه عن الفلسطينيين تحت الإحتلال وقهر الاستيطان يقول: ” التقيت امرأة عجوزا في إحدى القرى، كان البيت من الاسمنت المسلّح، لكنه فقير وغير مكتمل. على جدار الصالون العاري تماما، علقت صورا لحفيدها مروان البرغوثي: مروان فتى صغير، ثم مراهق، ثم أربعيني أخيراً. وهو الآن في أحد السجون الإسرائيلية (…) وبينما كنا نشرب عصير ليمون وكانت العمة تعدّ القهوة، ذهب أحفادها إلى الحديقة، الأولان في سن السابعة والتاسعة تقريباً، الأصغر اسمه «بلد»، والأكبر اسمه «معركة». (…)هي لعبة ابتكراها (…). عندما حانت ساعة الوداع، أمسكت العمة بيدي، وكان لعينيها ذلك التعبير المتعذّر تحديده والدّال على لطف خاص حظيت به في اللحظة المناسبة. عندما يضع شخصان سماطاً على الطاولة، يتبادلان النظرات لكي يضعاها في المكان المناسب، تصوروا أن الطاولة هي الكون، والسماط هو حياة أولئك الذين يتحتم علينا إنقاذهم. كذلك كان تعبير عينيها… !!”.
وبتبنيه رسميا القضية الفلسطينية، وفي سنة 2006، كتب رسالة، استغل بها علاقاته مع الكتاب الغربيين، يدعوهم فيها لمقاطعة الأنشطة الثقافية للاحتلال الصهيوني، ويندد بسياسة الكيل بمكيالين، التي تنتصر لقوة وشطط الإحلال ضد الفلسطيننين (أصحاب الحق والأرض)، كما كان انحيازه دوما، إلى الذين هم في الأسفل دائماً، إلى الفيتناميين والعراقيين وحركة “الفهود السود”، التي أهداها أيضاً نصف المبلغ من الجائزة، لكونه وجد في عناصرها مثالا للتحرّر من نير التمييز العنصري، ومن ظلم المنظومات الرأسمالية الجشعة، وهو ما عرّضه لانتقادات سياسية عديدة في بلدان الغرب… !!
بمسيرة فكرية مبدئية، عن عُمر ناهز التسعين عاما، خلف جون بيرجر وراءه مجموعة من الأعمال الفنية في الرسم والشعر والمقالات، والمؤلفات، من بينها لا الحصر؛ “الكينغ” و”العصفور الأبيض” و”فن وثورة” و”كتابة الجراح”، ورواية “G” (…)، ومن آخر مؤلفاته “مسامرات” و”مناظر طبيعية ــ جون بيرجر حول الفن” وكتاب عن الروائي الروسي أندريه بلاتونوف، أصدرها احتفالاً بعيده التسعين في تشرين الثاني /نونبر الماضي، قبل أن يغلق نافذته الأخيرة في باريس مساء الإثنين الثاني من يناير / كانون الثاني 2017. يقول ابنه جاكوب في تدوينة له عن أبيه جون بيرجر: “مات دون خوف أو تهور، مات وهو مهتمّ وحريص على معرفة بقية قصّته.. مات كاتبًا.”… !!
وكتب يقول، اللبناني فواز الطرابلسي عن رحيل جون بيرجر: “بغياب جون بيرجر أفقد صديقا كبيرا ومعلّماً ملهِماً غيّر نظرتي للعالم. مع جون برجر اكتشفت كيف يمكن للعين أن تتلقّن ثقافة النظر، أن تتعلم كيف تلتقط كل ما هو حميم ورهيف وجميل لأنه ناتج عن كدح الإنسان وتوقه للحرية والفرح والمساواة. والأهم تعلّمتُ من جون كيف يمكن للعين أن تقشع البداهة التي تتآمر على حجبها قوى الأمر الواقع، خلف كل أنواع الحيل والنفاق والخداع والقمع والتوريات… !!”.