ندى أنسي الحاج: رسائل غادة تخصها وحدها

*أحمد فرحات بيروت (الاتحاد الثقافي)

من بين الإصدارات الجديدة التي ضجّت بها بيروت مؤخراً كتاب «رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان»، أعدته الروائية الشهيرة غادة السمان بنفسها، كاشفة فيه عن رسائل حب من الشاعر اللبناني الكبير أنسي الحاج، تعود إلى العام 1963 من القرن المنصرم، عندما كان الشاعر يومها في السادسة والعشرين من عمره، وهي في المقابل كانت في العشرين من عمرها.

انقسم الرأي العام الأدبي والثقافي في لبنان بين مؤيد لفكرة نشر هذه الرسائل ومعارض لها. المؤيدون وجدوا في الرسائل قيمة أدبية وإنسانية ذاتية استثنائية، تُضاف إلى رصيد الطرفين الإبداعيين الكبيرين، خصوصاً لجهة ما يمثلانه في المشهد الأدبي العربي الحديث، كل من موقعه طبعاً، وبخاصة الشاعر أنسي الحاج، الذي أثر حتى على «الذين لم يقرؤوه» على حدّ قول أحدهم، وأن من حق القارئ أن يعرف تفاصيل شخصية، غير مُسِفّة بطبيعة الحال، عن قطبين أدبيين أسهما في تشريح ظاهرة الحب والحرية في ظل مجتمعات عربية تعاني ما تعانيه من تناقضات حياتية وتباينات مجتمعية وحضارية لا تخفى على كل ذي لبّ.

أما المعارضون لنشر هذه الرسائل، فيرون أنه كان يجدر بغادة السمان نشر هذه الرسائل في حياة أنسي الحاج، وبعد أخذ رأيه كطرف مباشر معنيّ بها. وأن ما أقدمت عليه يؤكد بالتالي خيانتها لأمانة الراحلين، واستثمار أدبي وإعلامي في غير محله، ولاسيما بعد احتجابها الطويل عن نشر ما يمكن أن يُشكّل إضافة نوعيّة على تجربتها الكتابيّة نفسها، وخصوصاً في زمن انفجار أدب السرد العربي وبروز أسماء كاتبات عربيات تجاوزن بأسئلتهنّ الإبداعية و«التمردية» أسئلة غادة السمان على نحو ملحوظ، ولذلك كانت هذه القنبلة النشرية من غادة السمان لتقول من خلالها: إني هنا وإن الأمر لا يزال لي. وبعض المعارضين لنشر هذه الرسائل تحدّى غادة قائلاً: «ما دمت تجرّأت على نشر الرسائل، فيا حبّذا لو تكملين جرأتك بنشر سيرتك عن تلك المرحلة».

ولما سألنا الشاعرة ندى الحاج، ابنة الشاعر الكبير أنسي الحاج عن الموضوع وتعليقها عليه، اكتفت بالقول في سياق حوارنا معها: «أمام الآراء المنقسمة حول صوابيّة نشر تلك الرسائل أو عدم نشرها، كنتُ أفضّل لو أن الأديبة السمان سعت إلى أخذ موافقة أنسي قبل رحيله، فخصوصيّة تلك الرسائل الوجدانية الصارخة وأهميتها الأدبية تخصّ غادة السمان وحدها، وكان يمكنها الاحتفاظ بها لمفردها تطابقاً مع نيّة الشاعر الذي كان قد أرسلها إليها في حينها في زمن محدود منذ أكثر من خمسين عاماً».

والحقيقة أن هذا الحوار مع الشاعرة ندى أنسي الحاج أردناه أن يكون في مجمله شخصياً وعائلياً، يعكس علاقة الشاعرة ذات التجربة المفارقة، لغة ورؤىً، بأبيها الشاعر الكبير، وبوالدتها التي كانت تشتغل في عالم المسرح، وكانت تصحب ابنتها معها، وهي في سن مبكّرة في جولاتها المسرحية في المحافظات اللبنانية، ما أسهم بدور كبير في تربيتها وتكوينها الفني والشعري. وعلى الرغم من الحضور القوي للشاعر أنسي الحاج في ذاكرة ابنته الشاعرة ووجدانها، فإن الابنة الشاعرة ترى في المحصّلة بأنها مستقلة كل الاستقلال عن شعرية أبيها و«يكفيني أن والدي كان يحب شخصيتي الشعرية ويحترمها كما هي، بعيدة عن التصنيفات والمدارس الشعرية، كما أعتقد أنه كان فخوراً بي. أنا لست وريثة شعر أنسي الحاج، بل ابنته، والشعر هو الحرية».

وحُقّ للشاعرة أن تقول كذلك، فمن يقرأ دواوينها الشعرية (8 دواوين)، يلحظ بالفعل هذه الاستقلالية الشعرية التي تؤكد عليها وتنتهجها عبر رؤى صوفية بالغة الشغف والشفافية، على الرغم من انشدادها إلى غواية الواقع وفخاخه اليومية.. وما أكثرها. ومع الشاعرة ندى أنسي الحاج، نحن أمام تجربة ابتكارية تأملية تقف أمام حقائق الوجود في جرأة وصراحة وتشاؤم.. إلا أنه ليس تشاؤماً انهياريّاً وعدميّاً، وحتى العملية الحبيّة لديها، نراها تنزع منزعاً صوفياً يرافقها في يقظتها العشقيّة وغيبوبتها.. ولأجل ذلك يظلّ الحب عندها غير مأسوي، فلا شحوب معه ولا تلوّع ولا يأس بجروح تحفر عميقاً… ولا غرو، فروحها الشعرية أصفى من الصفاء، وجوانحها خفّاقة لكل نأمة وشعور.

في ما يلي نص الحوار:

* ما معنى أن تكوني ابنة لشاعر كبير اسمه أنسي الحاج؟

** هو قدري وامتناني أن أكون ابنة هذا الإنسان الفريد والشاعر الاستثنائي. لم أختره كأب شاعر، كما لم أختر أن أكون شاعرة. لكل قدَر إنساني معانيه الخاصة، يحاول صاحبه أن يفكّ رموزها حتى آخر نفَس. هذا على الأقل ما أحاوله منذ وعيي الأول ولا أزال.

* نعرف أن أمك، وهي المشتغلة سابقاً في المسرح وعروضه الدرامية الكلاسيكية والحديثة، هي التي اكتشفت موهبتك الشعرية مبكّراً والتقطت خيط تشجيعك عليها، خصوصاً أنها كانت تصحبك، وأنت طفلة، في جولاتها المسرحية في المحافظات اللبنانية، لكن مع ذلك، ظلّ لوالدك التأثير الطاغي عليك، عبر مسار تجربتك الشعرية التي أنجزت فيها حتى الآن 8 مجموعات شعرية، فهل نتحدث عن حضور أنسي فيك شعرياً؟

** أنا أحمل بطبيعة الحال تأثير أمي وأبي فيَّ معاً. لوالدتي دور كبير في تربيتي وتكويني الفنّي والشعري، خصوصاً أني كنت ألازمها خلال طفولتي الباكرة في نشاطاتها المسرحية، التي كانت تتمحّور حول تجسيدها أدواراً في نصوص مسرحية عالمية، والتي قام والدي بترجمة العديد منها بأسلوبه الخلاّق. كما كانت تقرأ لي وأنا لم أبلغ العاشرة من عمري بَعد، قصائد لشعراء الحداثة. أما والدي، فلم يكن موجوداً كثيراً، محاولاً أن يمنحني وأخي الأصغر، أوقاتاً مهمة بالنوعية والكثافة، فيتلو علينا القصص ويشتري لنا الكتب باستمرار ويصحبنا إلى السينما أيام الآحاد. وكنّا دوماً في انتظار تلك اللحظات بتوق ولهفة. حين كتبت قصيدتي الأولى في السابعة من عمري، تفاجأ أبي بجوّها الدرامي، وسأل أمي إذا كانت هي التي أثّرت فيّ. أما في الثالثة عشرة، فلمّا كتبتُ بالفرنسية شجّعتني والدتي على النشر، بِعكس والدي الذي فضّل أن أنضج أكثر في العمر قبل النشر.

حضور والدي الشعري قوي فيّ، وفي نتاجي، مع العِلم أن أسلوبي وشخصيتي الشعرية مختلفان عن أسلوبه وشخصيته، لكن اللاوعي يختزن ما لا يعرفه الوعي ويتخطّاه بأشواط، هذا اللاوعي الذي يتدفّق شِعراً ويفاجئني أحياناً ببعض نقاط الشَبه والالتقاء بيني وبين أبي.

من عدسة أنسي

* أتعتقدين أن ثمة «مشكلة كبيرة» في أنّ الناس، وحتى النقّاد، يحكمون على تجربتك الشعرية، ودائماً من عدسة أنسي الحاج الإبداعية والرمزية العالية؟

** لا أعتقد أن ثمة «مشكلة» ولا أشعر بها. فأنا مستقلّة شعرياً، ويكفيني أن والدي كان يحبّ شخصيتي الشعرية ويحترمها كما هي، بعيدة عن التصنيفات والمدارس الشعرية، كما أعتقد أنه كان فخوراً بي. أنا لستُ وريثة شعر أنسي الحاج بل ابنته.. والشعر دائماً هو الحرية.

* أنسي كما عرفته وحاورته مراراً، لا يحب الشعراء المريدين، ولا الشللية الشعرية من حواليه، وكان يحضّ الآخرين على الإيغال في بريّتهم الشعرية ومغامراتهم الخصوصيّة، وبالتالي التفرّق من حواليه كشعراء بأصوات ذاتية مفارقة، وليس كأصدقاء طبعاً.. هل لحقك أنت رذاذ عدوى من هذا الأمر؟

** تعقيباً على جوابي السابق، أنا متوغّلة في بريّتي الشعرية وأكتب كما أتنفّس بعيداً عن هدف الظهور وإثبات الذات في إطار تصنيف معيّن أو تبعيّة شعرية بذاتها، خصوصاً تلك المتعلّقة بالشاعر أنسي الحاج، لأنه والدي أولاً، ولأني أغار على استقلاليتي الشعرية وأحميها بروحي من خلال خوض تجربتي الذاتية الأقرب إلى الصوفية.

* أنسي كشاعر «مختصّ» بالمرأة وعشقها والكتابة فيها، على اختلاف مراحله الشعرية والعمرية… هل كنت «تُحرجين» منه في هذا التوجه ضمناً، أم هو كان «يُحرج» منك بعض الشيء.. أم أن حريته كشاعر كانت تطغى وتتجاوز كل الاعتبارات الشخصية والعائلية والأخلاقية… الخ؟

** كان أنسي يتصرّف معي كأبٍ يريد أن يحمي ابنته من العالم الخارجي. ولطالما عشت وكأني في شرنقة، إلى أن انفجرت الحرب في لبنان وسافرتُ معه إلى باريس لأكمل دراستي. أنا بطبعي خفرة وأحترم خصوصية الآخرين، وكان يربط بيني وبين والدي خيط سرّي كأنه غمامة الشعر تغلّفنا وتمرّ من تحتها الحياة. كنت أفهمه بلا حاجة للكلام، خصوصاً أنه كان يخجل من إظهار عاطفته تجاهي، وهو الذي اعترف لي مرة بأنه يرتبك منّي، كان كأنه يرى ذاته في المرآة.

وها هو اليوم ومنذ رحيله في فبراير/&rlm&rlm شباط سنة 2014، لم يعد قادراً على حمايتي وحماية نفسه من حياته الشخصية، عِلماً أني لست بحاجة إلى حماية، فأنا أفهم نفسية الشاعر والنار التي تلتهمه، كما أُدرك أن الشاعر والمبدع يتخطّى الزمان والمكان والعمر الذي يُعطى له على الأرض ليذوب في الكونيّة ويجرفه نهر الخلود.

* أوكلك أنسي على إرثه الشعري، وظلّ على ما يبدو يُدرّبك على الوفاء بهذا الإرث، أنت دون غيرك من المحيط العائلي (خصوصاً في فترة اشتداد المرض عليه)، وقد تجلّى ذلك، خصوصاً في الكتاب الأخير الذي صدر بعد سنتين من رحيله: «كان هذا سهواً»، حيث تبلور إعداده وإصداره تحت إشرافك وهندستك ورعايتك.. ما معنى هذه الثقة التي وضعها أنسي فيك؟ وهل قمت وتقومين أنت بالمهمة على النحو المطلوب؟

** هو لم يدربّني على شيء، إنما وضع ثقته فيّ، كما اعتاد ذلك طيلة حياته. وهو يساوي بيني وبين شقيقي في كل شيء، لكن بما أني شاعرة وكاتبة، بطبيعة الحال أتحمّل مسؤولية كبيرة في رعاية إرث أنسي الحاج الشعري والأدبي. أمّا كتاب «كان هذا سهواً»، فهو بمثابة مولود جديد وضعتُه بأمانة لكتابات والدي غير المنشورة في غالبيتها، والتي لم يستطع هو أن يفرج عنها في حياته بسبب ظروفه الصحيّة. حرصتُ أن أطبع مسودة تلك الكتابات بنفسي، كأني أتعامل مع جواهر مستنبَطة للتو من باطن الأرض. تلك المواد الخام رافقت أنفاسي ونبضاتي لمدة عام عشتُ فيها مع أبي بتفاعل باطني قوي وحَيّ للغاية.

أحبّ «الرّسولة»

* أي ديوان لأنسي الحاج أحبّ إليك أكثر من غيره؟.. ولماذا؟ وما رأيك بالذين يرون شعرية أنسي تتركّز فقط في «لن» و«الرأس المقطوع» و«ماضي الأيام الآتية» و«ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة؟».

** للنقد والنقاد مساحتهم الواسعة في تحليل نتاج أنسي الحاج الكثيف والرؤيوي. فهو مِلك المستقبل بعيداً عن الماضي المحنَّط. أما أنا فأميل إلى أجواء «الرسولة بشَعرها الطويل حتى الينابيع»، وأحب قصائد مختارة من كل كتبه. نَفَس أنسي الحاج الملحمي يتبع خطّاً تصاعديّاًّ يعكس تجربته الغنيّة، بدءاً من كتابه الصاعق «لن»، وصولاً إلى خواتمه ومروراً بوليمته.

* إلى أي حد يمكننا القول إن أنسي كان شاعراً فردياً ونزيل وحدته دائماً، حتى لو تبدّى لنا غير ذلك؟

** صحيح، كان شاعراً يقدّس الفرديّة ويهوى العزلة ليمارس شعريته. لكنه في الوقت نفسه، كان يتغذّى من مكوّنات الحياة ويحبّ الاختلاط بالناس الذين يثيرون فضوله ويتناغم معهم، فهو كان أنيساً ومؤنساً. وبما أنه لعب دوراً رائداً في الصحافة الثقافية في الستينيات والسبعينيات من القرن الفائت، فقد أسهم في تشجيع مواهب عدة وبلورتِها في المجال الأدبي والشعري، وكان محوراً أساسياً في قلب مسار الثقافة اللبنانية والعربية.

أنسي الأب

* حدّثينا عن أنسي الحاج كأب بالمعنى الاجتماعي؟ كيف كان يتعامل مع زوجته وأولاده؟ وما الذي ظلّ عالقاً في ذاكرتك كطفلة منه حتى الآن؟

** كان أنسي الحاج أباً حنوناً ويقلق على عائلته، لكنه بِحكْم عمله الصحافي، لم يمنحنا الوقت الكافي الذي كنّا نحتاجه، أخي وأنا، تاركاً الجزء الأكبر من هذا الدور لوالدتي التي تفهّمت طبيعة والدي واهتماماته، وهو كان يقدّر لها ذلك، ويعترف أنه لولاها لَما أَنجز مسيرته الشعرية والأدبيّة والثقافيّة على ذلك النحو. أكثر ما علق في ذاكرتي حتى اليوم، هو مدى اهتمامه في تزويدي وأخي بالكتب التي كان يهدينا إياها مرتين أو أكثر أسبوعياً، ويقع عليها ناظري عند أول الصباح، فيقفز قلبي فرحاً، كما كنتُ أنتظر الفسحة اليومية القصيرة التي كان يخترع لنا فيها القصص الغريبة والطريفة التي ينسجها من خياله الوقّاد، راسماً على شفتَي وفي قلبي البسمة والحنان.. ولقد كتبتُ في كتابي الأخير «تحت المطر الأزرق»: «صوتُ المطر يشبه صوتَ أبي حين كان يهطل قصصاً لا تشبه شيئاً في الحياة».

* أعلنتم أنت والعائلة والأصدقاء عن «مؤسسة أنسي الحاج». ما هذه المؤسسة؟ وهل لها صفة الديمومة؟ وما المقوّمات لديمومتها؟

** «مؤسسة أنسي الحاج» ما هي إلاّ محاولة للحفاظ على إرث أنسي الحاج، ولاسيما إعادة طباعة كتبه القديمة ونشْر ما لم ينشره من كتابات أو جمْع مقالاته، بالإضافة إلى إيجاد مركز يحمل اسمه ويحتفظ بمكتبته ومجموعته الخاصة من اللوحات التشكيلية لفنانين كبار وأشياء أخرى، آملةً أن نلقى دعماً معنوياً ومادياً ولوجستياًّ لتحقيق هذا الحلم.

قصيدة إلى والدي

* لنتحدّث عن تجربتِكِ الشعرية، انطلاقاً من مفهومك للشعر والشعرية؟.. وهل الشعر يشكّل لك خط دفاع أخير ضد هذا الوجود الملتبس والصعب.. ضد هذا الموت الذي لا رادّ للغزه وغموضه، على الرغم من حتمية حدوثه وتكرار هذا الحدوث؟

** أنا لم أختر الشعر وأكتبه منذ صغري قبل أن أعي الحياة. كأنه نداء داخلي يربطني بها. هو وجهي الحقيقي وسرابي، هو سراجي وسبيلي. وعندما لا أكتبه يصير صحرائي…هو صوتي وصمتي، رفيقي وغربتي.

* ديوانك «تحت المطر الأزرق» الذي أهديته إلى والدك الشاعر، هل يشكّل فاصلة شعرية مفارقة عمّا سبقها على مستوى تجربتك ككل؟ وما هي؟

** «تحت المطر الأزرق»، هو ديواني الثامن، لكنه الأول الذي لم يقرأه أبي قبل صدوره وبعده. أهديته لروحه التي كانت ترفرف حولي منذ غيابه، ولقد استشهدتُ ببعض كتاباته الشعرية كفواصل بين القصائد من جهة والشذرات الشعرية التي تشكّل الجزء الثاني من كتابي من جهة أخرى. وهي شذرات تختصر تجارب مكثّفة بكلمات قليلة تعكس إلى حدّ كبير رغبتي الجامحة للتكثيف والتقطير. كما أهديته فيه قصيدة «سألاقيك في الريح» التي كتبتها له بعد رحيله، والتي ختمتها في ندائي له:

«سألاقيكَ في الريح

حيث الواحدُ الأوحدُ يطويك

بأهدابكَ وأشعاركَ وعصافيرك

لَملِمْ أوراقكَ واكتبْ حتى الثمالة!»

* كيف حدث أن انتقلت بعض قصائدك إلى عالم الغناء، وتحديداً عبر صوت ماجدة الرومي؟ وأي تجربة اكتسبتها جرّاء ذلك؟.. أكثر من ذلك، قامت مغنيّة الأوبرا والمؤلفة الموسيقية اللبنانية هبة القواس بمَوسقة وغناء أشعار عدّة لك.. هل هذا يدفعك، وعلى الرغم منك، إلى تطويع كتابة القصيدة لديك لتتواءم والأغنية؟

** أنا لم أكتب أصلاً قصائدي كي تُغنّى، ولكن ما حفَّز الصديقتين ماجدة الرومي وهبة القواس على اختيار قصائدي، هو المعنى الكامن فيها وغنائية الشعر في الوقت نفسه. كما أنهما تميلان إلى الصوفية والروحانية في شِعري. أمّا بالنسبة إلى المؤلفة الموسيقية والسوبرانو هبة القواس التي كتبتُ لها بعض القصائد (بالعاميّة والفصحى)، كي تؤلّف لها الموسيقى وتؤديها، بالإضافة إلى تلك التي اختارتها من كتبي، فقد بدأ التعاون الفني بيننا منذ العام 2001 وهو يمنح قصائدي بُعداً موسيقياً جميلاً، وبخاصة أن هبة مؤلّفة موسيقية مهمة وعالمية وصوتها رائع جداً ومميز.

* أينتابك شعور بالأسف، بل بالجزع أحياناً، لأن الشاعر (أو الشاعرة.. لا فرق) لم يعد يمتلك رأسمالاً رمزياً نوعياً يؤهّله للعب أدوار طليعية على مستوى الأوطان والشعوب، كما كان يحدث في السابق.. عربيّاً وعالميّاً؟

** لا أفكّر بالشعر أنه قد يلعب دوراً طليعياً على مستوى الشعوب والأوطان، بل إنه واحة خلاص لصاحبه أولاً، وللحياة ولصيرورة الإنسان ثانياً. أعتبر الشعر، كما كل إبداع فنّي، مرآة للرقي والجمال والمعاناة والتطوّر واكتشاف الذات والآخرين. أؤمن بأن التغيير يبدأ من الفرد ومن معرفة الذات، وبأنه طريق طويل وشائق للمغامرة الإنسانية التي لا تنتهي آفاقها.

بزوغ شعري

* يرى البعض أن العالم لم يعد عاجزاً عن خلق شعراء كبار فقط، بل إنه أصبح عاجزاً عن تذوّق شعر الشعراء الكبار السابقين.. بماذا تعلّقين؟

** العالم بما هو على حاله اليوم، ليس ملكاً للشعراء وأمثالهم، وقد أُفرغَ من المعاني الإنسانية والقيم المثالية والأحلام المجنونة، ليتحوّل آلة رعب قاتلة مولِّدة للكوابيس الجاثمة على أنفاس الكون. لم يعد للشعر الملحمي، كما لهمَسات الشعر الداخلي، مكان في زمن التفاهة والاستهلاك المَظهري والفضائحي، ولا مكان له على ساحة الإجرام والفتْك المنهجي بالشعوب وذبْح الأطفال والنساء والعجائز. وهل من فسحة للشعر أمام هول الرعب الصارخ في عيون المنتظرين موتهم أمام عدسات الكاميرا، التي يتفرّج من خلالها العالم بأكمله على بؤس البشرية، وما من جفن يرفّ، بل صمت عنيف وتواطؤ مجرم؟! صرنا أسرى في غربة هذا العالم.

* كتبَ أنسي الحاج في مجموعته النثرية «كلمات كلمات كلمات» في السبعينيات من القرن المنصرم: «يحمل الشاعر وطنه في أحلامه.. هناك منطقة فوق المنفى، خارج حدود اللامبالاة والقمع.. تلك هي مملكة الشعر التي ينتمي إليها هؤلاء الغرباء في كل العالم. والصوت الذي يملي على الشاعر، ليس آتياً من الخارج، بل هو صوت في داخله لا يسمعه سواه، ولا تستطيع قوة أن تكمّ فمه».

** أعتقد أن أبي رحل في الوقت المناسب قبل أن ينكسر قلمه ويصمت قسراً، رافضاً أن يشهد على زمن قُتلت فيه الإنسانية ونُحِر فيه الجمال. وهو الذي طالما كتبَ في نثره ضد الحروب والعنف، مدافعاً عن الإنسان والدم الذي يُهرَق على مذبح العقائد السياسية و«الدينية» والسلطوية.

في هذا الجو المتخبِّط بالمعاناة، سنشهد حتماً على ولادة شعراء كبار كبزوغ الرجاء من رحم الألم.

* ماذا تقولين في هذا التهافت على الكتابة باسم الشعر.. هنا وهناك وهنالك؟

** حين تندر الأصالة والجدّة في الإبداع، تنبت الفطريات بكثرة إلى أن تجرفها الريح وتهطل الأمطار الغزيرة وتسقي اليباس وتزهر الأرض من جديد. الشمس تحضن الجميع وحرارة أشعتها تؤثّر على كل واحد حسب طبيعته، وهذا الأمر ينطبق على الشعر، كما على كل إبداع فنّي آخر.

* ما طموحك النهائي كشاعرة؟

** ما من نهاية لشيء بالمطلق. فالشعر يعيش بعد رحيل كاتبه، ولاسيما بعد ترجمته إلى لغات عدّة. بالنسبة إليّ كشاعرة أحلم بالتواصل والانتشار عبْر اللغات دون حواجز كالموسيقى التي تعبر القارات والمحيطات وقعر النفوس، وأن أوسِّع آفاقي لأتطوّر كإنسانة وبالتالي كشاعرة كي أصل إلى اكتشاف ذاتي حتى آخر نفَس.

* أخيراً: كيف هي ثقتك بشعرك، انطلاقاً من مقولة بوشكين المعروفة: «أيها الشاعر أنت المحكمة العليا لذاتك»؟

** أثق بشعري حين أثق بذاتي أني سأظلّ أصغي إلى همساتي وصرخاتي الأفقية والعامودية وأظلّ أرضاً مشرعة على السماء، حين يظلّ شعري صلاة في هيكل الروح وكلماتي قيثارة تنفخها عطوري. أثق بشعري حين ترصّعه حروفي من مناجم لاوعيي الغافي في كفّ الله.

رعاية

لم يدرِّبني أنسي على شيء، إنما وضع ثقته فيّ كما اعتاد ذلك طوال حياته؛ وهو يساوي بيني وبين شقيقي في كل شيء، لكن بما إني كاتبة وشاعرة، فقد أخذت على نفسي تحمّل مسؤولية رعاية إرثه الشعري والأدبي.

___
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *