[ 2017 ] …سنة جديدة، وكل عام والدنيا كما نعرفها

خاص- ثقافات

*ميمون حِرش

    ليس هناك ما يميت القلوب، ويثبط العزائم، ويشتت التركيز أكثر من انتفاء الجِدة من الدوائر حولنا في أمور الحياة وشؤونها، فالإقبال على الحياة مطلوب من قبل الإنسان مادام الكشف عن سِرٍّ ما، في مكان ما يظل عصياً على الإمساك به؛ إذ كلما سعى المرء لكشفه حرن هو، تاركاً صاحبه وسط الطريق، تتشعب أمام ناظريْه الاتجاهاتُ بدون علامات، ولا إشارات، وحده الفضاء يحاكي البحر في هوله، تصبح الطرق سديمة، بينها المرء مهيض الجناح، شِـلْـواً يبدو، ورقة في مهب الريح.. لكن حرصاً داخلياً يتولد لدى الإنسان، يفرع كدبابيس تخزه، وتدعوه ليس للعودة من حيث جاء، إنما للانطلاق من حيث هو، ما دام كل يوم تسطع  عليه شمسُ يومٍ جديد، ليبدأ مشوارَه في سنته الجديدة، التي تأخذه على حين غرة في كثير من الأحيان، دون أن يشعر بأن الأيام كانت تتنخل من ببين أصابعه، لتمُرَّ عليه كما السحاب، فليس هناك ما يحيي القلوب أكثر من الاقتحام، إذ لا ينفع مع بعض أمور الحياة – إن لم نقل كلها- سوى الاقتحام، وحالما يواجه المرء عذاباتِه يقهر الروتينَ بشكل أفضل، وهذا ما يفسر قدرته العجيبة على النهوض كلما وقع، أو تعثر في كل يوم جديد.

    الفصول الأربعة، تتكرر علينا برتابة قاتلة، أصبحنا نعرف الشتاء، والصيف، والربيع… تعود، تتكرر، لكنها لا تتجدد، هي ليست مثل النهر أبداً، النهر يهَبُ أبداً كنز الربيع ولا يسأل الضفتين، أما الفصول، في مدن دولنا العربية، تعود، تتكرر، ولكنها تسألنا مقابلا، تريدنا أن نخلص للأمكنة، والأزمنة على الرغم من العتمة، حتى نظل بلون واحد، في زمن يتميز بفوضى الألوان وكذلك الحواس، بَـيْـد أن رقيباً داخلياً يُستثار فينا وبنا ليعلن حالة طوارئ يلزم معها القيام بردة فعل تترك أثرها على الأقل لنعلن أننا كنا هنا، وأننا كنا نعي الأشياء من حولنا ، لكن بعض الإكراهات كانت دوماً أكبر منا.

    سنة جديدة تحلُّ بنا، ونحن نراهن أمكنتنا، الزمن وحده يترك أثره فينا عبر تجاعيد في الوجه، أو عبر أسقام تشي أننا كبرنا، وأن أجسادنا وهنت ولم تعد صالحة لنا- نحن الشيوخ وربما حتى بعض الشباب- لأن تسعفنا في زمن عجيبة أحوالُه، أما ناسُه فمن طينة غريبة، جبلوا على التحمل، وتطبعوا على  التكيف، مع أحوال عربية لا تعني لنا في نهاية المطاف سوى الخنوع، أما تقبل وضعنا بأننا قادرون مع ذلك، في الأزمنة الرديئة، على التنفس فذلك ما يسمى التحدي.. ومن يدري ربما هو الضعف.

    هل هذا تشاؤم؟ أم تبرير من لا يريد أن يفلح، لا سيما أن العيب فينا لا في زماننا، ثم أليس في الوقت متسع لفعل أشياء كثيرة، قد تكون مفيدة كما يقول أهل “موليير” في كل يوم، وفي كل سنة؟.

   سنة جديدة تئيض علينا لنعيش أيامها وشهورها دون أن يتغير شيءٌ فينا، سوى أثر الزمن عبر بصمة الكِبر، وحتى القضايا التي بدتْ لنا “صغيرة” لوهلة والتي ما فتئ الواقع يحذرنا منها كبرت هي الأخرى، لتنذرنا بالأسوأ بدءاً من ظاهرة الاستنساخ، والاحتباس الحراري، وانتهاءً بأمراض غريبة الاسم نحو “إيبولا”، “إيفلوانزا الخنازير”، “جنون البقر”، “ديوكسين”، “الحمى القلاعية”، مع إضافة داعش… (وما في الغيب أفظع لا محالة).

  ألم تكن “إيفلوانزا” الخنازير ، في سنوات مضت،مجرد مسرحية عالمية ليست من تأليف “شكسبير”، بل من خبير لا يفهم في الأدب بمعنييْه، حرص على تسويق إيديولوجية تخدم شركات كبرى، قد أفلح القائمون عليها في تسويق أطنان من أدوية الخردة لدول العالم الثالث عن طريق تكريس فيروس الخوف فينا..؟

  أليست السنوات الفارطة سنوات “إيفلوانزا الخنازير” بامتياز؟

   واليومَ لداعش الكلمةُ… ولكم..

  ألم نعش شهوراً طوالاً، بدل أن نخشى فيها أعداء أمتنا، بتنا نوجس خيفة من أنوفنا، كلما سالت أو عطست تبدى لنا الخنزير بُعْبُعاً في الصحو والنوم، لدرجة أن أمريكا كلما عطست يصاب العالم كله بالزكام..؟ !

   فصل كامل ويزيد ونحن نعلق مشكلتنا باحتقان أنوفنا.. أما أفواهنا فتكفلت أمريكا بها منذ زمن، فخرستْ، وأنا أتخيل الأفواهَ العربية كلّها مكتوب عليها “للأكل فقط”..

   أمريكا، ومن يدور في فلكها، كانت تريد أن تقنعنا بأن الدنيا بخير لولا سيلان أنوفنا، أما ربيبتها إسرائيل فكانت تبتر جوارح أطفالنا كلها دون أن تقيم الدنيا.. وهذا يحصل كل سنة فَلِمَ نفرح بما يخذلنا؟

  حين يضيع المرء، وهو يسمع لخبراء البيئة، وأطباء مختصين وهم يُدْلون بأحاديث عن الأسوأ الذي ينتظرنا، وحين نضيع بين اعترافات هؤلاء المختصين فلا نعرف من نصدق ، وحين نشاهد فظائع داعش في الذبح والحرق، وعلى الهواء مياشرة، وحين يختلف ” الخبراء” حول تحليل الظاهرة الداعشية لا نملك سوى أن نتصفح ذواتنا، ويتمنى كل واحد منا لو يقبع في بيته دون أن يخرج منه تحاشياً لكل سوء، وأكبر سوء ، لو يدرون، هو ضياع الإنسان في بلده، واغترابه بين أهله..

  حين نسمع لأهل ” الرؤية حول العالم” حول ما يجب، وما لا يجب فيما له علاقة بمشاكلنا تطمئن قلوبنا لبعض الوصفات، ثم سرعان ما يتم نسخها في تصريح يصدر عن آخرين، فنضيع بين هؤلاء وهؤلاء؛ لأن الحقيقة تغيب، ولا شيء غير انتظار تصريح جديد.. هو ذا حالنا نعيش بسببه سنواتِنا، لنحتفل يوماً، لأن سنة أدبرت وأخرى أقبلت.

 هل نعي فعلا بأن القائمين على أمورنا إنما يكذبون علينا على مدار السنة؟ ولعل تتويجنا لهم يتمثل في تخليد فرح كبير كل سنة جديدة ندخل به لا التاريخ إنما مزبلته.

    سنة جديدة تئيض وآلام الإنسان من الماء إلى الماء تشتد لأن الجراح تأبى أن تندمل، وما الدنيا في نهاية المطاف سوى أيكة كما يقول الشاعر ،متى اخْضَرَّ منها جانبٌ جفَّ جانبٌ، وكذلك الألم، كلما التأم جرح جدَّ بالتذكار جرحٌ، كم سنة أشعلنا فيها  شموعاً احتفالية بمناسبة أعياد الميلاد  والصهاينة يتفننون بطرقهم الخاصة في “صنع” العاهات  في أجسام أطفال فلسطين .. يحدث هذا ونحن نحتفل بحلول سنة جديدة كل مرة .. مهزلة !

  ومتى يفهم العرب أن إسرائيل حين تقول لا تحتاج  إلى مؤتمرات كما هم يفعلون ، قولهم يؤيده الفعل ،لأنها حين تقول تعني ما تقول، أما العرب فيقولون، وكل قولهم مجرد ضرطة في فلاة، والعجيب أن إسرائيل تعرف ذلك جيداً، بل كلما رغبت في الضحك على أذقاننا مسدت أسلحتها الفتاكة متحسسة فوهتها، إنها تستعد لتضرب، وتقصف، فقط ، لترى العرب يجتمعون من أجل أن ينددوا.. العرب في الواقع يفضل لهم مؤتمرٌ واحد ليعلنوا فيه وفاتهم كما قال “نزار قباني”. ومن يدري قد يحصل هذا في 2017،  وإلاّ سنحتفظ ببعض الشموع المتبقية من هذا العام لنشعلها احتفالا بالحدث في السنوات القادمة !

  وبعد كل هذا ما الداعي لأن نفرح بسنة ميلادية جديدة ما دمنا سنعيش شهورها بلغة التنديد ليس إلا، وإذا كان لا بد من انتظار سنة جديدة لنقيم الدنيا لها فلتكن مناسبة لإعلان وفاتنا، أو على الأقل إعاقتنا، حاجتنا ليست لسنوات إنما لرجال يحيون أيامها، وليس لجبناء همهم الوحيد هو التقليد الأعمى.

 ما أكثر جراحَنا في أزمنة رديئة !، طلاؤها الوحيد هو هذه السرعة التي بتنا نعيشها رغماً عنا، و لا شيء يبطئ لدينا، ويمشي مشي السلحفاة سوى جراحنا التي تنز من ألمٍ قطرةً قطرة، نستوكفه رغماً عنا، أما مشاريعنا ففي العربة الأخيرة من قطار الحياة.

  جراحنا تتجدد والدنيا من حولنا كما نعرفها، لا الزمن يفلح في التخفيف منها، ولا السنوات الجديدة تفعل حين تطل علينا، وحتى زعماؤنا يرفضون استيعاب حقيقة أن بناء الإنسان لا هدمه هو الاحتفال الحقيقي كل يوم، كل شهر، وكل سنة.. لا شيء سيتغير في الأفق إذا لم نكرس ثقافة بناء الإنسان عبر مواقف رجولية ليس من باب الذكورة، إنما بمعنى زعامة حقيقية تراهن على الإنسان العربي، حين نضمن له حقوقه في سكن لائق، وبيئة سليمة، وتعليم جيد، وشغل كريم.. أما الاكتفاء بتكديس الأموال في بنوك أجنبية تحسباً لليوم الأسود، والاستمرار في حبس الإنسان في نيْرٍ عربي لقمعه، واضطهاده، ولجْمِه دون تركه يتحرر وجدانياً، لن يزيدنا هذا سوى تكريس سياسة عربية عقيمة بحجم أمراض العصر كلها، فعوض البحث عن الدواء نسهم في  اختراع كل السموم دون ترياق، وما الاحتفال بسنة جديدة، والحال هذه، سوى ضحك على الأذقان .

  سنة جديدة يرفع من أجلها الناس شعار الفرح من خلال إيقاد الشموع، وتزيين شجيرات تتدلى منها ألوان مختلفة في أشكال جميلة، أما زجاجات الخمور الرفيعة فيتم افتراعها كما البِكْر، أما الطبول، والصراخ، والعجيج في اللحظات الأخيرة من زوال عام قديم فيشتد إيقاعها حين يبدو في الأفق اليوم الأول الجديد..

“أ تَسمعون الناس كالديكة، في ليلة رأس السنة، قد أطالوا الصياح،

وقد بدا في الأفق نور الصباح..”

 هم يفرحون قد يقول قائل ولا مانع في ذلك..

 ونحن لسنا ضد فرح أحد قد يعلق ثان..

 أما الثالثُ فيجزم بأن الفرح له شروطه مثل نكتة، لكي نسترق بسبب حكيها ابتسامة مغتصبة، لا بد فيها من بعض التوابل والبهارات، وكذلك الفرح حين لا يكون مناسباً يغدو بائخاً.

على العرب أن يؤجلوا أفراحهم، أو على الأقل أن يعتدلوا وهم يفرحون، لأن الوقت لا يزال مبكراً على ذلك. أمامهم تحديات كبرى لمراجعة أوراقهم، وفتح ملفات التنمية ترومُ بناءَ الإنسان أولا، بدل مشاركة النصارى أعراسهم، وأفراحهم بشكل مقرف.

 “فينيق” في الأسطورة اليونانية إذا أحس بدُنُوِّ أجله هيأ محرقته، ومن رمادها يفرع “فنيق” جديد، هؤلاء أين هم من هذا الطائر الأسطورة، ومع ذلك  يشبهونه حين يهيئون لفرحهم  كل سنة ميلادية جديدة، ولا يستقيم لهم ذلك سوى بأفخر الخمور، صُحْبة صَوْتٍ حَسنٍ، شرط أن يكونَ من وَجْهٍ جميلٍ، ليختم برقص هستيري، تتخلله أغانٍ داعرةٌ، تستمر حتى يظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ليستقبلوا وهم سكارى سنة جديدة.. يتأسون في ذلك بالغرب حين يودعون سنتهم بشكل أفضلَ، أقول سنتهم لأن العجم حين يُسألون عن عمرهم يُقال لهم ليس كم عمركم بل كم عشتم من هذا العمر، وما أكثر ما يعيشون أعمارهم لأن الحقوق عندهم مصونة!.. وماذا عنا نحن العرب هل نعيش أيامنا فعلا كما نبغي فيما يبتغي؟! سنواتنا حافية لذلك لا تحتسب من عمرنا، حين نُحرم فيها أبسط شروط العيش، في الوقت الذي يعيش غيرنا في النعيم على حساب أنصاف الأنام.

  إن العرب يحتفلون من أجل أن يعلنوا وفاتهم على مر السنة، وهنا الفرق بينهم وبين فنيق في الأسطورة، هم في الواقع مجرد خُشبٍ مُسنَّدةٍ، لتحترق لا بد لها من عود ثقاب، لم يصنعوه بل استوردوه، يشعلون به شموعاً سوداء تخجل من جبنهم، وخذلانهم..

  رأس السنة الجديدة ليس عرساً للمسلمين، فلِمَ يفرحون مع من يسيئون لديننا، ويشوهون صورة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في رسومات كاريكاتورية مشينة، إذا كانوا هم يسخرون من أعيادنا، ويتندرون بأفراحنا، فكيف نظهر لهم الوجه الذي يرضيهم حين نشاركهم أفراحهم؟

  أحلى التاريخ ما سيكون غداً، غير أن هذا الغد قد يطول دون أن نعيشه، إذا لم نشمر عن سواعدنا، لحمل كل الذهنيات المتخلفة على استعارة أوعية أخرى، بدل بعض الرؤوس العربية، علها من تغير المناخ قد تمطر يوماً فكرة جديدة، تراهن على بناء الإنسان لا هدمه، وحينها فقط يحق لنا أن نفرح ليس على رأس كل سنة إنما كل يوم.

_________
*كاتب من المغرب

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *