حنا أرندت الإنسان في مواجهة تفاهة الشر

*إبراهيم مجيديلة

في سنة 2007، وعلى امتداد يومين: (11و12) ماي، وبرحاب جامعة لوزان Lausanne، انعقدت ندوة دولية[2] اجتمع فيها مفكرون ينتمون إلى تخصصات متنوعة بغية دراسة فكر فيلسوفة السياسة حنا أرندت. وقد عالجت الأوراق المقدمة مواضيع متعددة كالسلطة والحكم والحرب والسياسة والفكر والعلم والتقنية. واتجه أغلبها، بغض النظر عن مرجعياتها وغاياتها، إلى التأكيد على راهنية فكر حنا أرندت في فهم إشكالات الواقع المعاصر، وحلّ شفرات أزماته العميقة، واستلهام عناصر مقاومة لمواجهة هذا الوضع المخنوق بالأزمة. وربما كان دافع العودة إلى حنا أرندت واستدعاء فلسفتها السياسية، هو أنّ اللحظة التي يعيشها العالم المعاصر هنا – الآن، لا تختلف عن اللحظة التي عاشتها حنا أرندت، إنّها التجربة الإنسانية نفسها بكلّ تعقيداتها وتفاصيلها. ولهذا كان المناسب استلهام المفاهيم الفلسفية والسياسية والرؤى التحليلية والنقدية، التي صاغتها حنا أرندت من أجل الاستفادة منها والعمل على تطوير بعض جوانبها.

وإذا أردنا أن نرسم صورة عامة لأعمال هذه الندوة، أمكن القول إنّها قاربت ثلاث قضايا كبرى متداخلة فيما بينها. تخص الأولى العلاقة بين السلطة والحرب، وتخص الثانية منظومة القيم وحقوق الإنسان عملاً بمبدأ حنا أرندت “حق التمتع بالحقوق”، فيما تخص الأخيرة العلاقة بين الفكر والشر السياسي. وخلف هذه القضايا يتوارى سؤال مركزي يضفي عليها الوحدة والانسجام، ويتعلق بالبحث في دلالة الإنسان في ظلّ الأزمة، وسبل المحافظة على هويته.

الأزمة كإطار للتفكير:

تظهر فلسفة حنا أرندت تعبيراً عن تجربة شخصية وتاريخية كبرى، فهي تجربة مفكرة من أصول يهودية وطالبة للفلسفة في ألمانيا سنة 1930، عانت من معاداة السامية ثم من النازية، وأجبرت على الهجرة التي قادتها إلى فرنسا ما بين 1933 إلى 1940، ثم بعد ذلك إلى أمريكا ما بين 1943 إلى 1975 سنة وفاتها[3]. وحسب جوليا كريستيفا[4] تتخذ حياة حنا أرندت شكل سرد مسكون بهواجس القلق الفكري والوجودي المرتبط بسؤال الذات والهويّة والحضور في العالم، فهي كائن إنساني تعرّض لمحاولة التجريد من إنسانيته، وسلب هويته، وطمس معالم خصوصيته بسبب كونها مغايرة جنسياً: (امرأة) وعرقياً (ساميّة) ودينياً (يهوديّة) للإيديولوجيا التي فرضها النظام النازي.

وشكلت هذه الأزمة/التجربة الشخصية والتاريخية بالنسبة إلى حنا أرندت الإطار النظري العام لفلسفتها ـ فهي موضوع تجربة معيشة وموضوع تفكير في الآن نفسه- كما ساهمت في تحديد معالم منهج تفلسفها الذي يتحدد في صورة فينومنولوجيا أنثروبولوجية وسياسية[5] ويتخذ طبيعة نقدية، وتُعنى هذه الفينومنولوجيا بالإنسان في تعدده وتنوعه كموضوع لها وليس الإنسان بمعناه “الكلي” ذلك الكائن الذي يسكن الأرض.

من السمات البارزة لفلسفة أرندت أنّها فكر أزمة وتفكير في الأزمة[6]. فهي تنظر إلى الأزمة كواقع إقليمي وكضعف تاريخي في المؤسسات السياسية والثقافة والنظام التعليمي، وتنعتها بالهيمنة الشاملة. فالأزمة هي العلامة الأساسية لشرطنا الإنساني بحيث إنّها تقع في قلب أنشطتنا وعلاقاتنا مع أنفسنا والأخرين والعالم، وبالتالي فهي ما يؤسس وجودنا في العالم وحياتنا المشتركة.

يتميز الفكر الفلسفي لحنا أرندت بكونه فكراً محايثاً للواقع الإنساني وقائماً فيه وملتصقاً به ومرتبطاً بتجاربه المعيشة، فهو لا ينطلق من العدم ولا يقوم على التخمين. فقد تفلسفت وفكرت فيما عاشته وعايشته من أزمات كاندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتصاعد موجات معادية للسامية، وبدء الاستعمار، وانتشار معتقلات الإبادة الجماعية. فكلّ هذه الوقائع والأحداث جعلت حنا أرندت تنعطف من التفكير في الحب، الذي كان موضوع رسالتها لنيل الدكتوراه، إلى التفكير في الشر. فهذا الأخير صار قضية مركزية شغلت كلّ فكرها إلى حدود أنّها توقعت أنّه سيصبح السؤال المركزي في الحياة الأوروبية ما بعد الحرب. وإذا مثّـل مفهوم الشر الخيط الناظم الذي يمتد عبر دروب فكر حنا أرندت والأساس البارز لبنية فلسفتها، فإنّه كذلك يمثل حقيقة أزمنة الحداثة التي يتعذر رفضها[7]. كتبت في إحدى رسائلها إلى الفيلسوف كارل ياسبرز موضحة أنّ الشر أصبح أكثر جذرية ممّا كان عليه، وأنّ الفلسفة تتحمل جزءاً من المسؤولية بخصوص هذه القضية[8]. ومن منظور تأويلي يمكن رصد مسؤولية الفلسفة بخصوص انتشار الشر من خلال أطروحتين: تشير الأولى إلى وجود خطابات فلسفية غذت الذهنية الكُليانية أو التوتاليتارية la mentalité totalitaire، ويمكن أن نشير هنا إلى نموذج الفيلسوف كارل شميت Carl Schmitt الذي ساند النظام النازي بعد وصوله إلى سدة الحكم في عام 1933، وتشير الأطروحة الثانية إلى صمت الفلسفة في وجه من يريد محو الفكر أو إلى صمت الفيلسوف وتخليه عن دوره في مساءلة السائد ونقده، بل تعدى ذلك إلى التواطؤ معه في لحظة تاريخية، كما هو حال الفيلسوف مارتن هايدجر. ومن مظاهر مسؤولية الفلسفة بالنسبة إلى حنا أرندت أنّ الفلسفة الغربية لم تقدم مفهوماً واضحاً للسياسة، ولم تعالج الإنسان في فرديته وتفرده واستقلاليته، وإنّما بالنظر إليه في انصهاره في الجماعة وذوبانه في الآخرين، وساهمت مثل هذه الذهنية في خلق بنية معرفية وسياسية مهدت للنازية والستالينية ولكلّ الأنظمة الشمولية.

مفهوم الإنسان

يحتل سؤال: ما الإنسان؟ موقعاً مركزياً في فكر حنا أرندت. فتفكيرها فيه لا ينفصل عمّا كان يميز عصرها الذي كان يئنّ تحت وطأة مصادر الشر الثلاثة: التوتاليتارية، والاستعمار، ومعادة السامية. فتحت تأثير مفعولها اللاإنساني وقع تحول عميق في وضع الإنسان. فهذا الأخير أصبح مجرد عضو في مجموعة تتجاوزه وتتعالى عليه، وتمارس عليه هيمنتها، ولا يملك القدرة على التخلص منها. ففي عالم تتحكم فيه التقنية، وتسوده السلطوية السياسية، وتهيمن فيه أنظمة شمولية، أصبح الإنسان كائناً مستلباً، ووجوداً عارياً من الإرادة، وفاقداً للحرية، ولا يتمتع بأيّة حقوق، ويرزح تحت وطأة استلاب حديث غير مسبوق. إنّنا أمام “الإنسان المائع”، أي ذلك الكائن الهلامي الفاقد لكلّ الخصائص، والذي أصبح من المتعذر ربطه بالنوع البشري، فهو اسم بدون مضمون. ربما نلمس هنا تقاسيم نظرة مأساوية للوضع البشري، وهي النظرة ذاتها التي توجد عند الجيل الأول من فلاسفة النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت الذين كانوا يتقاسمون مع حنا أرندت الحقبة الزمنية نفسها والوضع نفسه عرقياً وسياسياً. وفي ظلّ هذه الظروف التي تعاند كلّ ما هو إنساني، فإنّ انشغال حنا أرندت بسؤال الإنسان والتفكير في وضعه كان بهدف الدفاع عنه، والدفاع عن حريته، لأنّها القيمة التي تقبل التصرف فيها.

وبالنظر إلى القيمة التي يحتلها الإنسان في فكر حنا أرندت فقد خصّصت له كتابها (شرط الإنسان الحديث)، الذي يمكن اعتباره بياناً فلسفيّاً في نقد الحداثة وتعرية أزماتها. وإن كانت اهتمت في هذا الكتاب، في أغلبه، بمظاهر متنوعة للفاعلية الإنسانية، فإنّها كذلك تساءلت فيه عن الوسائل التي بواسطتها يمكن للمجتمع أن يحمي بها نفسه ضد فتنة الكليانية والدكتاتورية والاستبداد. وقصدها هو إرادة تحقيق الشروط الواقعية لإمكانية الوجود الإنساني من خلال “إعادة النظر في الشرط الإنساني من وجهة النظر المستفادة من تجاربنا الأكثر جدّة، ومن بعضها الأكثر قدماً”[9].

ويمكن نشير هنا انطلاقاً من ملاحظة أوردها بول ريكور في مقدمة ترجمة كتاب حنا أرندت “شرط الإنسان الحديث” تفيد أنّ الخيط الناظم بين هذا الكتاب وكتابها العمدة حول “أصول التوتاليتارية” هو التماس طريقة جذرية لمقاومة الجرائم التي تنتج عن النظام التوتاليتاري[10]. ومن موقع فيلسوفة السياسة فإنّ حنا أرندت تعتبر أنّ نقطة ارتكاز مقاومة النظام التوتاليتاري تقع في تأسيس أنثروبولوجيا سياسية جديدة، في إطارها يتحدد الإنسان كحيوان سياسي، يعيش في مجتمع سياسي منظم بالقوانين والمؤسسات. فإنسان الشرط الإنساني ليس كائناً منعزلاً ولا وحيداً، إنّه يُوجد بمعية الآخرين ويشاركهم الوجود في العالم. كأنّ مفهوم الإنسان يتحقق بشرط العيش المشترك.

وحتى يتسنى لحنا أرندت أن تؤسس أنثروبولوجيا سياسية جديدة، فإنها ستعود إلى إحياء الكثير من المفاهيم السياسية من التراث الفلسفي لأرسطو وماكيافيلي ومونتسكيو، إلى جانب استحضار التجربة التاريخية الرومانية التي عرفت إبّان تدهورها وسقوطها أزمة تتشابه في كثير من معالمها مع الأزمة التي عاشتها المجتمعات الأوروبية الحديثة. وهدفت من هذه الأنثروبولوجيا السياسية إلى رفض كلّ اغتراب واستلاب يمسّ الإنسان، ومعارضة الأنظمة الاستبدادية والتوتاليتارتية. وإنّ السمة البارزة المميزة لهذه الأنظمة، التي وجهت إليها حنا أرندت سهام النقد، هي الرعب الشامل. وبلغة واضحة تعتبر أنّ الرعب الشامل متأصل في الأنظمة الشمولية، ودخل بدخولها للعالم الإنساني. فهو يمثل أحد الأوجه القبيحة لأزمة الحداثة السياسية، وقد أدى إلى نتائج مدمرة، وأحدث قطيعة مع كلّ التقاليد التي تنظم حرفياً “كلّ مقولاتنا السياسية ومعاييرنا للحكم الأخلاقي”[11]. ويبدو أنّ الأنثروبولوجيا السياسية لحنا أرندت تعبّر نوعاً ما عن نوستالجيا تعكس حنيناً إلى الماضي.

في هذه الأنثروبولوجيا السياسية الجديدة ستعنى حنا أرندت بإعادة النظر في مفهوم الإنسان من خلال استحضارها لبُعد كان مهملاً بين الفلاسفة، يتجلى هذا البعد في الشرط السياسي. من وجهة نظرها، فالإنسان لا يملك طبيعة إنسانية قبلية، ولا يمكن تعريفه بماهية سابقة. وربما يعكس هذا المفهوم جانباً من جوانب تأثرها بأنطولوجيا مارتن هيدجر، وهي بذلك تكون أقرب إلى الفلسفات الوجودية منها إلى الفلسفات الماهوية التي تحدد الإنسان من خلال ماهية قبلية وثابتة وكونية. وحتى لا تقع في تصور ميتافيزيقي للإنسان ستركز على مظاهر فاعليته (الشغل، الفعل، الحرفة)، أو حياته النشيطة، فهو كائن فاعل، والسياسة من بين المجالات التي يظهر فيها هذه الفاعلية وذاك النشاط. وتبعاً لمفهوم الشرط الإنساني، وتحت تأثير الفكر السياسي لأرسطو، فإنّ حنا أرندت تعرّف الإنسان كحيوان سياسي zôon politikon، يعيش في مجتمع سياسي، وإن لم يكن كذلك اعتبر أسمى من البشر (إلهاً) أو عُدّ كائناً سافلاً (حيواناً). فالسياسة هي المجال الأبرز الذي يحقق فيه وجوده، ويختبر فيه حريته. فالفعل السياسي هو ما يعبّر عن حرية الإنسان، وكأنّ السياسة هي مسكن الوجود الإنساني، أو المجال الذي يتيح للإنسان الخروج من فتنة “نسيان الوجود” التي هي أحد تجليات أزمة الحداثة. ويجب الإشارة إلى أنّ تعريف حنا أرندت للإنسان بالحيوان السياسي، ربما هو أقرب إلى هوبز وماكيافيلي منه إلى أرسطو. فإنسان هوبز كائن قاتل وعنيف، ومنجذب للقوة والحرب (حرب الكلّ ضدّ الكلّ)، فهو كائن يسعى إلى صيانة وجوده البيولوجي، ويتصرف وفق رغباته. وإنسان ماكيافيلي يتخذ صورة الأمير الذي يجب عليه أن يتصرف كالحيوان، وأن يقلد الأسد والثعلب معاً.

إنّ تعريف الإنسان بالحيوان السياسي يعني كذلك أنّ السياسة قيمة مطلقة، وأنّ الإنسان موجود من أجل السياسة، وأنّه ينظم وجوده بالقوانين بكيفية عادلة ما أمكن. كما أنّ السياسة، عند حنا أرندت، تعني الحرية، وتتعارض مع كلّ أشكال الهيمنة والعنف التي تعبّر عن الشر الذي سيحتل الفضاء العمومي ويُفرغه من إنسانيته. إنّ الشر يشكّل مظهراً للأزمة التي مسّت النظام السياسي دولاً وأفراداً.

التوليتارتية أو الشر السياسي

ففي كتابها العمدة “أصول التوتاليتارية” الصادر سنة 1951عملت حنا أرندت على فهم أسباب تحول ألمانيا إلى نظام للهيمنة المطلقة. فالتوليتارتية، كتجسيد للشر المحض، حدث غير مسبوق في التاريخ السياسي تأتي بذورها من الحداثة ومن عجزها عن تدبير مشكل العيش المشترك. فالشر قبل كل شيء فعل عنيف وسلوك عدواني يتم في المجال السياسي ويسعى إلى تدمير الغير وإخضاعه والتحكم فيه. تتمظهر صوره القصوى بالنسبة إلى حنا أرندت في معادية السامية والتوليتارتية والاستعمار. فقد عرضت في كتابها معالجة نوعية وخاصة للتوتاليتارية ساهمت في كشف نقط الاشتراك ما بين النازية والستالينية وكل الأنظمة الشمولية التي تجسد تجربة الخراب، فعلى تعبير حنا أرندت فإنّ هذه التجربة تبرز أنّ الجحيم ليس هو الآخرين، وإنّما هو غياب الروابط مع الآخرين ومع الذات[12].

يُفهم من التوليتارتية ذلك النظام السياسي الذي يجعل الأفراد خاضعين لسلطوية هيئات سياسية واجتماعية، وبمعنى آخر، فإنّه يتأسس على وجود نظام وحيد تنصهر فيه كلّ السلط؛ التشريعية والقضائية والتنفيذية، لتكوين سلطة قاهرة تمارس سيطرة شاملة على الأشخاص وأنشطتهم، وتتدخل في كل تفاصيل حياتهم، وبلغة جوليا كريستيفا، تحولهم إلى “جثث حيّة”[13]، ويصيرون غرباء عن ذواتهم ويفقدون الإيمان بأنفسهم.

وتمثل التوتاليتارتية الوجه القبيح والأبرز للشر المطلق في القرن العشرين، ومنعطفاً خطيراً في التاريخ الإنساني. ولهذا جعلت منها أرندت عنواناً بارزاً للتعبير عن الأزمة الشاملة للحضارة الغربية، وعلامة دالة على ثغرة عميقة وخرقاً في التاريخ بشكل عام brèche dans l’histoire en général وفي التاريخ السياسي بشكل خاص. فقد أسست لقطيعة جذرية مع كل الأنظمة السياسية التي وُجدت من قبل كالأنظمة المستبدة والديكتاتورية. وإنّ تحليل حنا أرندت للتوتاليتارتية قادها إلى اكتشاف التجسيد المتطرف وغير المعلن للمقولة الكانطية “الشر الجذري” الذي يطرح تحدياً أمام الفكر، بمعنى أننا لا نملك ما يحيل إلى فهم هذه الظاهرة التي هي بمثابة الواقع المرهق الذي يمتنع عن استجوابه واستنطاقه ويكسر كل المعايير المعروفة عندنا[14]، إنّه بتعبير حنا أرندت “الجحيم في الأرض”.

قاربت حنا أرندت سؤال/مشكل الشر من منظور سياسي بعيداً عن كلّ التفسيرات اللاهوتية والقيمية، فهو بالنسبة إليها لا يرتبط بأيّ ميل ميتافيزيقي، ولا يستند إلى أيّ مبادئ مطلقة تحيل إلى ما هو مقدّس أو ديني، إنّما هو إنساني ولا يمكن أن يفهم إلا في علاقته بما هو إنساني، وعبر اقترافه فإنّ الناس يخرجون من إنسانيتهم. فهو كما وصفته ثقب أسود، هاوية جليدية، والمكان الأعمق في جهنم بلغة الشاعر الإيطالي دانتي، فهذا الثقب الأسود يلتهم كلّ شيء، ولا يترك سوى رعب المطلق اللاإنساني[15]. فالشر هو ما يجعل الكائن البشري يعيش تمزقاً بين إنسانيته وبين اللاإنساني، إنّه غياب تطابق الإنسان مع ذاته. ومن مفاعيل هذا التمزق واللاتطابق صعوبة الإمساك بمعنى الشر وفهم دلالته، فهو ما لا يقبل الفهم أو ما يتعارض معه. فالشر حضور ممتنع، وكلما ازداد حضوراً وتعددت صوره، ازداد امتناعاً عن الفهم.

حالة أيخمان

في سنة 1961 ستعيش حنا أرندت حدثاً مزعجاً ومثيراً، عندما أرسلت لتغطية محاكمة الموظف النازي كارل أدولف أيخمان Karl Adolf Eichmann. وانطلاقاً من هذا الحدث ستبدع مفهوماً جديداً “تفاهة الشر” بديلاً للمفهوم الكانطي “الشر الجذري” الذي كانت تستعمله من قبل. فتضعنا حنا أرندت أمام مفهومين حاولت من خلالهما التعرف على طبيعة الشر، ممّا يدعو إلى التساؤل: هل توجد قطيعة أم استمرارية بين هذين المفهومين؟ وكيف يكون الشر تافهاً وهي في الوقت نفسه تتحدث عن الشر الجذري؟[16]في فصل “من الشر الجذري إلى تفاهة الشر” ضمن كتاب “حنا أرندت والمسألة اليهودية” سيعمل ريتشارد برينشتاين على تتبع مسار تشكل دلالة الشر ليؤكد أنّ الشر الجذري وتفاهة الشر ليسا إلا لحظتين لسيرورة واحدة يمكن تسميتها بديالكتيك الشر[17]. وأثناء هذه السيرورة يصل الشر إلى مرحلته المطلقة التي تتساوق مع المرحلة النهائية للتوليتارتية فيصير شراً محضاً. فهو محض لأنّه لا تتم إحالته إلى دوافع إنسانية، وبدون هذه التوليتارتية لم يكن بالإمكان أبداً التعرف على الطبيعة الجوهرية للشر.

يمكن أن نفهم من “حالة أيخمان” معنيين متداخلين؛ فمن جهة يمكن النظر إليها كمشكلة أو كشيء شبيه بالأحجية، فكيف أمكن لإنسان لم يكن متعصباً ولا معادياً للسامية أن ينخرط في عملية “الحل النهائي”، بمعنى إبادة الملايين من الأشخاص؟ وكيف لإنسان لم يكن منحرفاً، ولم تكن لديه نزوعات للقتل، وكان عاجزاً عن اغتيال رئيسه في العمل ليحل مكانه، أن يقترف جرائم شنيعة؟ وكيف يمكن أن نفهم إنساناً لا يستشعر الشر الذي ارتكبه؟ ومن جهة ثانية تمثل هذه الحالة مثالاً متميزاً، فأيخمان هو النموذج الأكثر دلالة على تفاهة الشر. ولا ينبغي لهذا المفهوم أن يضللنا، فهو لا يقصد أن يجد لأيخمان ظروف التخفيف أو التقليل من الشر الذي ارتكبه. بل على العكس من ذلك يجسد، في التاريخ، نوعاً جديداً من الجريمة أو شراً جديداً: إنّه متطرف ولكن لا يمكن ربطه بأيّ دافع ولا بأية إرادة لفعل الشر من أجل الشر، ولا بأيّ تعصب[18]. إنّ الشر المرتكب من طرف أيخمان ليس جذرياً، لأنّه ليست له جذور في داخله ولا يتضمن أيّ إرادة لفعل الشر من أجل الرغبة في الشر[19]. فالشر دائماً متطرف وليس جذرياً أبداً، في حين أنّ الخير دائماً عميق وجذري.

وتحمل عبارة “تفاهة الشر” جانباً آخر، ليس الشر ولكن التفاهة. فالوصف الأساسي لأيخمان، حسب أرندت، هو سطحي بكل المقاييس. ولهذا لا يمكن تفسير ميله للشر إلا ككليشيهات أو لقطات كلها حقيقية ممّا يدل على غياب الفكر لديه. وربما تظهر عبارة “غياب الفكر” في الوهلة الأولى كأحجية: فأيخمان ككل الأشخاص يعي وجوده، فكما أكدت حنا أرندت أنّه لم يكن غبياً ولا بليداً، فقد كان يملك القدرة على التمييز بين العدل والظلم، وبين الخير والشر[20] بيد أنّه لم يكن قادراً على التفكير. فخلال أطوار المحاكمة كما لاحظت أرندت أنّ أيخمان كان يتكلم بلغة نمطية وسطحية ذات طابع رسمي وإداري[21]، فقد كان يتكلم كموظف بيروقراطي ينفذ أوامر سادته دون أن يملك الجرأة على التفكير. تمثل عبارة “غياب الفكر” من جهة عمق تحليل حنا أرندت للشر، ومن جهة ثانية لحظة لفهم طبيعة النازية وباقي الأنظمة التوليتارتية. فهي تضعنا أمام الكيفية التي يمارس من خلالها ناس عاديون الإبادة والتطرف والعنف كأوجه للشر. ويمكن أن نشير هنا إلى أنّ مفهوم “تفاهة الشر” يحمل دلالة سياسية يمتد مفعولها إلى حدود نقد الحركة الصهيونية التي تعتبرها حنا أرندت مسؤولة عن المعاناة التي عاشها يهود أوروبا. إنّ شخصية أيخمان هي التعبير الأكثر وضوحاً عن تفاهة الشر الذي جلبته الأنظمة التوتاليتارتية للعالم الإنساني، والذي تحوّل إلى عالم لا إنساني أو مضاد-إنساني.

ومن أجل رسم صورة عامة، جاز لنا القول إنّ الشر بالنسبة إلى حنا أرندت هو فعل إنساني، ولا يخرج عن العالم الإنساني. فهو يصدر عن الإنسان، ويقع على الإنسان. فليس فيه شيء من الشيطان، وليس له أيّ مظهر ميتافيزيقي، ولا يرتبط بأيٍّ من المبادئ الخالدة للعقل الإلهي. فالشرّ كله إنساني. وإنّ الشر بكلّ تمظهراته، الجذري والتافه والمطلق، المعنوي والمادي، يتمثل بالنسبة إلى حنا أرندت، واقعياً وتاريخياً وسياسياً، في “الخطيئة الأصلية للصهيونية”.


[1] نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون عدد 9

[2]- نشرت أعمال هذه الندوة في كتاب تحت عنوان:

Lire Hannah Arendt aujourd’hui: pouvoir, guerre, pensée, jugement politique, L’Harmattan, 2008.

[3]- Françoise Colin, L’Homme est-il devenu superflu? Edition Odile Jacob, Paris, 1999, p: 09.

[4]- Julia Kristeva, le génie féminin, la vie, la folie, les mots, Hannah Arendt, T1, Paris, Gallimard, 1999, p: 27.

[5]- Ibid. p19

[6]- Céline Ehrwein Nihan,Hannah Arendt: une pensée de la crise: la politique aux prises avec la morale et la religion, éditions Labor et Fides, Genève, 2011, p 18.

[7]- Dario de Facendis, Hannah Ardent et le mal, dans Hannah Ardent, la totalitarisme et le monde contemporain, Les Presses de l’université LAVAL, 2003, p.53.

[8]- Céline Ehrwein Nihan, p. 16.

[9]- Arendt Hanna., La Condition de l’homme moderne, traduction de Georges Fardier, Calmann-Lévy, Paris, p.27.

[10]- Ricoeur. P., Préface à La condition de l’homme moderne, Pocket Agora, Paris, 1994, p.9.

[11]- Enegrén. A., « Compréhension et politique » in Esprit, juin 1980, p.68.

[12]- Christian Delmas, Hannah Arendt une pensée trinitaire, une nouvelle approche de son ouvre, Harmattan, 2006, p: 10.

[13]- Kristeva Julia, le génie féminin, tome 2, p.229.

[14]- Hannah Arendt, Les origines du totalitarisme. Vol. III, Le système totalitaire Paris, Seuil, 1972, p. 201.

[15]- Dario de Facendis, p. 54.

[16]- Ibid.p.52.

[17]- Ibid.p.52.

[18]- Catherine Valleé, Histoire et Justice, peut-on juger l’histoire ? Éditions de l’Emmanuel, le collège supériuer, 2002 p: 123.

[19]- Ibid. p: 129.

[20] – Ibid. p: 133.

[21]- H. Arendt, Eichmann à Jérusalem. Rapport sur la banalité du mal, (1963), traduit de l’américain par A. Guérin revue par M.-I. B. de Launay, Paris, Gallimard, 1966, p.p. 85-86.

________
*مؤمنون بلا حدود

 

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *