ستيفن هوكنغ.. موجز تأريخ حياتي .. سيرة ذاتية(10)

*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي

أواصل في هذا القسم نشر أجزاء من الفصول الأولية للسيرة الذاتية الموجزة التي كتبها الفيزيائي النظري وعالم الكونيات الأشهر ( ستيفن هوكنغ ) ونشرتها دار نشر بانتام Bantam عام 2013 بعنوان ( موجز تأريخ حياتي My Brief History) .
أود التنويه هنا أنني سأتوقف عن نشر ترجماتي الأسبوعية في صحيفة ( المدى ) مع بداية العام الجديد ، ولم أكن لأفعل هذا إلا بسبب الإرهاق الذي طال عينيّ وصحتي وفرض ضريبة تستوجب شيئاً من الراحة وتخفيف ضغوط العمل المتواصل، ولن افوّت هذه الفرصة لتوجيه آيات الشكر والعرفان والامتنان لكل الأصدقاء العاملين في صحيفتنا العزيزة “المدى” فقد كانت تجربة العمل معهم فعالية غنية بالثراء المعرفي وكرم الروح والجمال ، كما أتوجه بعظيم شكري لقرائي الكرام الذين تابعوا على مدى السنوات الماضية ترجماتي المنوعة من حوارات وموضوعات فلسفية وسأكون حاضرة معهم في عمودي الأسبوعي  وأعدهم بأنني سأرفد الصحيفة بترجمات نوعية منتخبة بين الحين والآخر متى ما أمكنني ذلك .
المترجمة

موجز تأريخ الزمان – تتمّة
المقالة الأكثر إثارة – كما شعرت حين نشر الكتاب – هي تلك التي نشرتها صحيفة الإندبندنت اللندنية ، وجاء في تلك المقالة ان كتاباً علمياً جاداً مثل ( موجز تأريخ الزمان ) يمكن مع الوقت أن يصير كتاباً تتداوله بعض الجماعات السرية الغامضة !! ، وقد بلغ الإطراء بكتابي مبلغاً دفع البعض لمقارنته بكتاب ( الزنّ وفن صيانة الدراجات النارية ) ، وكم طمحتُ – وعلى نحو مافعل كتاب الزن – أن يمنح كتابي القراء شعوراً بضرورة عدم التوقف عن التساؤل بشأن الأحجيات الفكرية والفلسفية العظمى في حياتنا .

من المؤكد ساهم الجانب الإنساني لحكايتي بشأن قدرتي على أن أكون فيزيائياً نظرياً على الرغم من إعاقتي في نجاح الكتاب وساهم في ترويجه ، غير أن هؤلاء الذين اقتنوا الكتاب لمحض جانبه الإنساني لابد أنهم أصيبوا بخيبة أمل كبيرة ؛ إذ لم يحتوِ الكتاب أية إشارة إلى حالتي باستثناء موضعين اثنين لاغير ، والحق أنني أردت للكتاب أن يكون تأريخاً للكون لا لشخصي ، ولكن هذا لم يمنع من انتشار اتهامات لدار نشر ( بانتام ) تدينها باستغلال حالة عوقي على نحو معيب وغير لائق ، بل وذهبت تلك الاتهامات إلى زجّي مع دار ( بانتام ) في سلوكها الذي افترضته تلك الاتهامات مشيناً عندما قبلت بظهور صورتي على غلاف الكتاب ، والحقيقة أنني – وبموجب العقد الموقّع مع دار النشر – لم تكن لي أية سلطة اعتبارية في اختيار غلاف الكتاب ، وبرغم ذلك الشرط في العقد استطعت إقناع الناشر  باستخدام صورة أفضل لي وأحدث بكثير على غلاف الطبعة  البريطانية بالمقارنة مع الصورة البائسة والعتيقة التي ظهرت لي على غلاف الطبعة الأمريكية من الكتاب ، ولم تغيّر بانتام صورتي البائسة تلك على أغلفة الطبعات اللاحقة من الكتاب لأنها ترى ان الجمهور الأمريكي بات يعرف كتابي من مجرّد النظر إلى صورتي تلك على الغلاف.

ادّعى البعض ان كثيرين ممّن اقتنوا الكتاب اكتفوا بضمّه إلى خزينهم من الكتب أو الاكتفاء بوضعه على طاولة شرب القهوة من غير أن يكلفوا أنفسهم عناء قراءته ،ومن جانبي أعرف واثقاً أن أمراً مثل هذا يحدث دوماً ولو أنني لا اعرف هل حصل هذا الأمر مع كتابي بأكثر ممّا حصل مع سواه من الكتب التي توصف بالكتب الجادة ، ولكنني أعرف في الوقت ذاته أن ثمة البعض – على الأقل – ممّن قرأ الكتاب بل وخاض في تفاصيله ؛ إذ مازلت أتسلم يومياً أعداداً هائلة من الرسائل حول الكتاب تتضمن أسئلة أو تعليقات مطوّلة وتفصيلية تشي بأن كاتبيها قرأوا الكتاب حتى في حالة أنهم لم يفهموا كل تفاصيله ، ويحصل كثيراً أن يستوقفني غرباء في الشارع لإلقاء التحية عليّ وعدم تفويت فرصة إطراء الكتاب وإخباري بحجم المتعة التي عاشوها أثناء قراءته . إن الكثرة التي أتلقى بها تلك التهنئات ( على الرغم من كوني بالطبع الأكثر تفرداً وشهرة بين المؤلفين بسبب ظرفي الخاص ) لهي دليل يشير إلى أن نسبة غير قليلة ممّن يقتنون كتابي هم ممّن يمضون في قراءته ومتابعة أدق تفاصيله .

ليس ثمة حدود
عندما كنتُ في الحادية والعشرين وأصابني داء التصلب الجانبي الضموري انتابني شعور مرّ بأن هذا الأمر لم يكن عادلاً البتة معي . لِمَ ينبغي أن يحصل معي هذا الأمر ؟ وسرعان ماشعرت أن حياتي موشكة على نهاية محتومة وليس ثمة مايمكن عمله للحفاظ على قدراتي التي لطالما تملّكت كياني من قبلُ ؛ غير أنني اليوم وبعد مايقارب الخمسين سنة من ذلك التأريخ أشعر بأنني بالهدوء والتناغم مع حياتي : تزوّجت مرتين وصار لي من زيجاتي ثلاثة أطفال على قدر عالٍ من الجمال والنجاح وأنجزوا إنجازات معتبرة في ميادينهم ، وبقدر مايخصني الأمر فقد أنجزت أنا الآخر إنجازات جيدة في مهنتي الأكاديمية ، وأظن أن معظم الفيزيائيين النظريين يتفقون بأن تنبؤاتي النظرية بشأن وجود الانبعاث الكمي من الثقوب السوداء هي أمر صحيح للغاية رغم أنه لم يأتِ لي بجائزة نوبل في الفيزياء بسبب كون مسألة التحقق التجريبي من هذا الإشعاع أمراً في غاية التعقيد والصعوبة ، ولكن برغم ذلك فقد حصلت على معظم الجوائز المرموقة في الفيزياء الأساسية تقديراً للقيمة النظرية العليا لاكتشافي على الرغم من صعوبة التحقق منه تجريبياً .

لم تكن إعاقتي الجسدية لتشكل معضلة خطيرة تقف بوجه عملي العلمي ؛ بل على العكس أظن أنها كانت – من جوانب محددة – عنصراً داعماً مضافاً في خزانة مدخراتي الإيجابية الثمينة ؛ إذ لم يتوجب عليّ الانخراط في محاضرات طويلة وإلقاء الدروس على طلاب الدراسات الأولية ، كما لم يكن مطلوباً مني حضور الاجتماعات الطويلة المملة التي تستهلك الوقت من غير فائدة جدية كما أحسب ، وهكذا وجدتني أكرّس نفسي وعقلي كلياً للبحث فحسب ولاشيء سواه .

بالنسبة الى زملائي فلستُ بأكثر من فيزيائي آخر من الفيزيائيين الذين عرفوهم ، أما بالنسبة للجمهور الأوسع من العامة فربما أكون غدوت العالِم الأكثر شهرة في العالم بأسره ، وربما تأتّى هذا الأمر بسبب أن العلماء في نظر العامة – باستثناء آينشتاين – ليسوا نظراء لنجوم موسيقى الروك من جهة ، ولأنني صرت النموذج الصالح لصورة المثال النمطي الذي يمكن أن يكون عليه عبقري معاق . لستُ قادراً بالطبع على التخفي في صورة رجل يضع شعراً مستعاراً ونظارة سوداء على وجهه ؛ بل صار الكرسي المتحرك هو العلامة الأيقونية الملازمة لي دوماً .

إن كون المرء ذا شهرة ذائعة في العالم كله ويسهل التعرّف عليه أينما كان أمر له إيجابياته وسلبياته : تنحصر السلبيات في كون المرء لايستطيع فعل أمر ما من الأمور اليومية الشائعة ( مثل التسوق ) من غير أن تحاصره الحشود التي تطلب إليه التقاط صورة معه ، وكذلك يمكن الإشارة إلى التدخّل الاستقصائي غير الطيب للصحافة التي حشرت نفسها في تفاصيل حياتي الخاصة بطريقة فجة ، ولكني أرى أن الإيجابيات تفوق كثيراً السلبيات المتوقعة ؛ إذ يبدو الناس سعيدين للغاية بلقائي ولن أنسى بخاصة الحضور العظيم غير المتوقع للحشود التي جاءت لرؤيتي عندما شاركت في بعض الفعاليات غير الرياضية في الألعاب البارالمبية ( الألعاب الأولمبية للمُعاقين ) في لندن عام 2012 .

عشت حياة كاملة تبعث على الرضا والإشباع ، وأرى أن الُمعاقين ينبغي عليهم دوماً أن يركزوا جهودهم في محاولة فعل الأشياء التي لاتمنعهم إعاقتهم من فعلها ، وان يتجنبوا الندم على تلك الأشياء التي ليس بمستطاعهم فعلها . بالنسبة لي فد فعلت معظم الأمور التي أحب : سافرت في العديد من الجولات ، وزرت – على سبيل المثال – الاتحاد السوفييتي سبع مرات . كانت المرة الأولى التي زرت فيها الاتحاد السوفييتي برفقة جماعة طلابية أراد احد أعضائها ( وكان مسيحياً معمدانياً Baptist ) أن يوزّع الكتاب المقدس المكتوب بالروسية وارادني أن أساعده في تهريب تلك الكتب إلى الاتحاد السوفييتي ، وقد أصاب خطة التهريب بعض النجاح ولكن السلطات اكتشفت فعلتنا ونحن على وشك مغادرة المطار فوُضِعنا رهن الاعتقال بعض الوقت ؛ غير أن توجيه التهمة لنا بتهريب كتب مقدسة كان سيُعدُّ حادثة دولية قد تقود لتداعيات مؤذية على مستوى الرأي العام لذا أطلِق سراحنا بعد بضع ساعات من اعتقالنا . أما بالنسبة لزياراتي الست الأخرى إلى روسيا فكانت لأجل رؤية العلماء الروس الذين لم يكن يُسمَح لهم بالسفر إلى الغرب ، وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1990 غادر الكثير من ألمع العلماء الروس إلى الغرب ؛ لذا لم يعد ثمة حاجة لي لزيارة روسيا منذ ذلك التأريخ .

زرت اليابان أيضاً ست مرات ، والصين ثلاث مرات ، وكل قارة ( بما فيها القارة القطبية الجنوبية – أنتاراكتيكا – ) باستثناء القارة الأسترالية ، وقد قابلت رؤساء كل من : كوريا الجنوبية ، الصين ، الهند ، إيرلندا ، تشيلي ، الولايات المتحدة ، وألقيت محاضرات في قاعة الشعب العظمى في بكين وفي قاعة البيت الأبيض كذلك ، كما وجدت نفسي يوماً ما وأنا داخل غواصة تمخر عباب البحر السحيقة ، أو في بالون مندفع بتأثير الهواء الحار إلى أعالي الجو ، أو في حجرة عديمة الجاذبية ، وقد تمّ حجز مقعد لي للسفر إلى الفضاء ضمن رحلات   Virgin Galactic المرتقبة .

إبان عملي المبكر أن تنبؤات النسبية العامة الكلاسيكية تنهار عند الانفراديات الخاصة بالانفجار العظيم أو بالثقوب السوداء ، أما عملي الأحدث فقد كشف عمّا يمكن أن تتنبأ به النظرية الكمية بشأن بداية الزمان ونهايته ، وإنه لأمر مجيد حقاً أن أبقى حياً وأواظب على البحث في ميدان الفيزياء النظرية كل هذا الوقت ، وسيكون مبعث سعادة لانظير لها في اعماقي إذا ماعلمت أن عملي هذا ساهم في إضافة أي قدر ( مهما كان ضئيلاً ) في فهمنا للكون.

______
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *