ستيفن هوكنغ.. موجز تأريخ حياتي .. سيرة ذاتية(5)

*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي

أواصل في هذا القسم – وأقسام أخرى ستأتي تباعاً – نشر أجزاء من الفصول الأولية للسيرة الذاتية الموجزة التي كتبها الفيزيائي النظري وعالم الكونيات الأشهر ( ستيفن هوكنغ ) ونشرتها دار نشر بانتام Bantam عام 2013 بعنوان ( موجز تأريخ حياتي My Brief History) .
المترجمة

كامبردج
إلتحقتُ كطالب خرّيج بجامعة كامبردج في تشرين أول من عام 1962 بعد أن عقدت العزم على العمل بمعية ( فريد هويل ) – العالم الفلكي البريطاني الأكثر شهرة في ذلك الوقت ، وهو المدافع الرئيسي عن نظرية الحالة المستقرة Steady – State Theory ، ويمكن للقارئ أن يلاحظ بسهولة أنني وصفت الرجل بكونه عالم فلك لا عالم كونيات لأن علم الكونيات – الكوسمولوجيا – كان آنذاك بالكاد ينال إعترافاً خجولاً غير معلن بأنه علم راسخ موطّد الأركان كأي علم آخر سواه . كانت الكوسمولوجيا هي الحقل العلمي الذي أردت أن أمضي في بحوثي ضمن مجاله بعد أن مسّتني شرارة الإلهام عقب إنخراطي في مقرّر دراسي صيفي أداره تلميذ هويل ( جايانت نارليكار ) ، ولكن – لسوء الحظ – كان لدى هويل  آنذاك كفاية من الطلبة الدارسين ؛ لذا وجدت إسمي وقد أدرِج ضمن طلبة الدراسات العليا مع الأستاذ ( دينيس سياما ) الذي لم أكن سمعت به من قبل في ذلك الحين ، لكن ربما جادت لي الصدفة بما عمل على تحقيق الخير لي من حيث لم أفقه : كان هويل مسافراً أغلب الوقت وعلى الاغلب لم يكن ليمتلك من الوقت مايكفي للإنتباه نحوي على العكس تماماً من سياما الذي كان متواجداً معظم الوقت وحاضراً للحديث معه بشأن مختلف الموضوعات ذات الشأن . لم أتفق مع الكثير من آراء الأستاذ سياما وبخاصة فيما كان يراه بشأن مبدأ ماخ الذي يرى أن الأجسام المادية  تستمدّ خاصيتها القصورية inertia من تأثير كل المادة الأخرى التي تشغل الكون ، ولكنّ سياما حفّزني كثيراً لتشكيل آرائي الخاصة وتطويرها والإرتقاء بها لاحقاً .
عندما بدأت البحث بدا الحقلان الفيزيائيان الأكثر مدعاة للإثارة هما الكوسمولوجيا وفيزياء الجسيمات الأولية ، وكان الحقل الثاني منهما شديد الفعالية وعرضة لتغيير سريع متواصل ، وقد إستقطب بعضاً من أفضل العقول العلمية في حين أن الكوسمولوجيا – ونظرية النسبية العامة التي تقع في نطاق دراستها – كانتا عالقتين في الموضع ذاته الذي بلغتاه في ثلاثينيات القرن العشرين ، وكان ريتشارد فاينمان – أحد أعظم فيزيائيي القرن العشرين والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء – قد أبان بشكل جلي عن الوضع عندما كتب خلاصة مذهلة عمّا إنتهى إليه بعد حضوره مؤتمراً بشأن النسبية العامة والجاذبية في وارشو عام 1962 ؛ ففي رسالة وجّهها إلى زوجته كتب يقول : ” ليس ثمة من فائدة يمكنني أن أحصل عليها خارج نطاق المؤتمر ولست أتعلّم شيئاً ، ولأن هذا الحقل العلمي يفتقد إلى التجارب فإنه ليس حقلاً علمياً فعّالاً ولايعمل فيه سوى القليل وحسب من أفضل العقول العلمية . إن حضور مثل هذه المؤتمرات ليس بالأمر المفيد لضغط دمي ؛ لذا ذكّريني دوماً بألّا أحضر أي مؤتمر مستقبلي يخص الجاذبية !! ” .
من الطبيعي تماماً أنني لم أكن على علم كافٍ بهذه التفاصيل عندما بدأت بحثي في جامعة كامبردج ، ولكن على العموم ملأني شعور عارم بأن دراسة الجسيمات الأولية آنذاك سيكون شيئاً مماثلاً لدراسة علم النبات . كانت الديناميكا الكهربائية الكمية Quantum Electrodynamics – وهي نظرية الضوء والألكترونات التي تحكم عمل الكيمياء وتركيب الذرّات – قد توطّدت أركانها بالكامل خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين ؛ لذا فقد إنزاح الاهتمام نحو دراسة القوى النووية الضعيفة والقوية بين الجسيمات ونواة الذرّة ، ولكن نظريات المجال السائدة آنذاك بدت غير كافية لتوضيح تلك القوى ، وأراني اليوم في غاية السعادة لأنني لم أنخرط في بحث الجسيمات الأولية ؛ إذ لم يكن مقدّراً لأي من بحوثي في ذلك الحقل أن تواصل الحياة وتثمر عن نتيجة ذات أهمية حاسمة .

518366-1
الكوسمولوجيا والجاذبية كانتا – على العكس من الجسيمات الأولية – حقلين مُهمَلَين ينتظران التطوير والإرتقاء بشأنهما في ذلك الوقت ، وعلى العكس من الجسيمات الأولية فإن الكوسمولوجيا والجاذبية كانتا خاضعتين لنظرية موطدة الأركان هي نظرية النسبية العامة التي كان يُظنُ أنها صعبة التناول والبحث – بل ومستحيلة عملياً – : كان الفيزيائيون آنذاك يلهثون وراء الحصول على حلول مقنعة لمعادلات المجال الجاذبي التي وضعها آينشتاين والتي تصف نظرية النسبية العامة ، ولكنهم لم يكلفوا انفسهم عناء السؤال عن أية أهمية فيزيائية يمكن أن تأتي بها تلك الحلول ، وذلك هو بالضبط فكر المدرسة العتيقة للنسبية العامة التي تعامل معها فاينمان في مؤتمر وارشو ، ولكن مؤتمر وارشو ذاته – ويا للسخرية – هو من شهد بداية عصر النهضة للنسبية العامة ؛ ومع هذا ليس بوسعنا إلّا  مسامحة فاينمان على عدم إدراكه لهذا الأمر الذي شكّل إنعطافة حاسمة في الكوسمولوجيا آنذاك ؛ فقد دخل جيل جديد من الفيزيائيين للبحث في هذا الحقل ، كما ظهرت مراكز بحثية جديدة لدراسة النسبية العامة . ثمة إثنتان من تلك المدارس البحثية كانتا تعنيان الكثير لي وكنت أرى فيهما أهمية فائقة ، وقد تأسست إحداهما في هامبورغ – ألمانيا  بقيادة وإشراف الفيزيائي اللامع ( باسكوال جوردان ) ، ومع أنني لم أكن قد زرتُ تلك المدرسة البحثية أبداً ولكنني أعجبتُ أيما إعجاب بالأوراق البحثية اللامعة التي أنتجتها تلك المدرسة على خلاف العمل الفوضوي غير المنظّم السابق في حقل النسبية العامة ، أمّا المركز البحثي الثاني اللامع في ميدان دراسات النسبية العامة فكان في كلية الملك King”s College – لندن بقيادة ( هيرمان بوندي) .

14671325_1413716481990514_1341716739748540187_n-1
كنت قد درست القليل  جدا من الرياضيات في مدرسة سانت ألبانز أو في مقرّرات الفيزياء السهلة خلال دراستي في جامعة أكسفورد ؛ لذا إقترح عليّ ( سياما ) العمل في ميدان الفيزياء الفلكية Astrophysics . كنت قد دخلت كامبردج لدراسة الكوسمولوجيا والبحث فيها ، وكانت الكوسمولوجيا – وليس سواها – هي ماعزمتُ على التوغل في ميدانه ، وهكذا بدأت – بناء على توصية سياما – أدرس الكتب الدراسية العتيقة التي تتناول النسبية العامة كما كنت أسافر كل أسبوع لحضور محاضرات في كلية الملك في لندن برفقة ثلاثة آخرين من طلبة سياما ، وبرغم أنني كنت أتابع كل كلمة ومعادلة في المحاضرات غير أنني لم أشعر يوماً بأي ميل جدّي نحو المادة التي كنت أدرسها .

15170746_1453551418007020_2705093907580463532_n
كان سياما هو أوّل من عرّفني بالديناميكا الكهربائية الكمية التي وضعها ويلر وفاينمان Wheele – Feynman  Electrodynamics : تلك النظرية التي ترى أن الكهربائية والمغناطيسية تشتمل على خاصية التناظر الزمني time – symmetric ، ولكن على الرغم من هذا فإننا عندما نضيئ مصباحاً كهربائياً فإن تأثير كل المادة الموجودة في الكون هو الذي سيتسبّب في جعل الموجات الضوئية تنبعث خارج المصباح عوضاً عن أن تأتي من اللانهاية لتستقرّ في المصباح ، ولكي يكون ممكناً لنظرية الديناميكا الكهربائية الكمية التي وضعها ويلر وفاينمان أن تكون فعالة يتوجّب على الضوء المنبعث من المصباح الكهربائي أن يُمتصّ من قبل مادة أخرى في الكون ؛ وهو أمر يمكن أن يحصل في كون خاضع للحالة المستقرة Steady – State Universe حيث تكون كثافة المادة الكونية ثابتة ، ولايتماشى هذا الامر مع نظرية الإنفجار العظيم Big Bang  للكون حيث تميل كثافة المادة للتضاؤل مع إستمرارية توسع الكون ، وقد إدعى الكثيرون أن هذا الأمر يصبّ في صالح توفير الدليل – إن كان ثمة من حاجة لدليل – على أننا نعيش في كون يتبع نمط الحالة المستقرة ، وقد أفتُرِض أن هذا الأمر يوفر توضيحاً مناسباً لسهم الزمن Arrow of Time ولظاهرة إزدياد اللاإنتظام بمرور الزمن ( وهو مايسمى الأنتروبيا Entropy ، المترجمة ) وكذلك عن السبب في أننا نتذكر الماضي وحسب وليس المستقبل كذلك .
وجدت حينذاك أن هويل ونارليكار قد طبّقا نظرية الديناميكا الكهربائية الكمية التي وضعها ويلر وفاينمان على نموذج الأكوان المتوسّعة وراحا يضعان هيكل نظرية جديدة للجاذبية تمتاز بانها متناظرة زمنياً ، وكشف هويل عن تلك النظرية في إجتماع للجمعية الملكية عام 1964 ، و كنت حاضراً في ذلك الاجتماع ، وفي فترة طرح الأسئلة على المُحاضر قلتُ أن تأثير كل المادة الموجودة في كون خاضع للحالة المستقرة سيجعل لزاماً أن تكون كتلة الكون لانهائية !! وعندما سألني هويل عن السبب الذي دفعني لإبداء ذلك الرأي أجبت على الفور أنني قمت بحساب الأمر !! . ظنّ الجميع أنني أجريت الحسابات بذهني في تلك اللحظة لكن الحقيقة هي أنني كنت آنذاك أتشارك مكتباً مع نارليكار ورأيت يوماً على مكتبه مسوّدة بحث معدّ للنشر ساعدني على إجراء الحسابات قبل حضور الإجتماع .
كان هويل غاضباً ؛ فقد كان يعتزم تأسيس معهده الخاص في كامبردج وأشهر تهديداً حاسماً بأنه سيلتحق بقافلة العقول العلمية المهاجرة إلى أمريكا في حال لم يحصل على التمويل الكافي لإقامة معهده ، وقد ظن أنني وُضِعتُ في طريقه كوسيلة لتخريب خططه ، ولكن على كل حال حصل هويل على التمويل الكافي لإنشاء معهده ومنحني وظيفة فيه لاحقاً ؛ الأمر الذي ينبئ بصورة واضحة أن الرجل لم يختزن أية ضغينة تجاهي .
كنت قد لاحظت خلال سنتي الأخيرة بأكسفورد أن مشيتي غدت أقل رشاقة شيئاً فشيئاً ، وبعدما سقطت على أعقابي أثناء صعودي بضع درجات في سُلّم المكان الذي أقيم فيه أسرعت لرؤية الطبيب ، غير أنّ كل ماقاله لي ” دع البيرة جانباً وستكون بخير ” . غدت مشيتي أقل رشاقة وتناسقاً بكثير عقب التحاقي بكامبردج ، وحصل خلال أعياد الميلاد أنني ذهبت للتزلج على البحيرة المنجمدة في سانت ألبانز مثلما كنت أفعل في العادة ، غير أنني سقطت ولم أستطع النهوض بمفردي . لاحظت أمي مشاكلي هذه فأخذتني على الفور لرؤية طبيب العائلة الذي أحالني على طبيب إختصاص ، وبعد فترة قليلة من عيد ميلادي الحادي والعشرين كنت في طريقي لعمل فحوصات مكثفة في المستشفى التي مكثتُ فيها حوالي أسبوعين خضعت فيها لشتى الفحوصات السريرية : أخذوا عيّنات عضلية من يدي ، وغرزوا أقطاباً كهربائية في جسدي ، كما حقنوا عمودي الفقري بسائل داكن لمادة مشعة وراحوا يراقبون حركته بالأشعة السينية وهو يتحرّك صعوداً ونزولاً في عمودي الفقري بينما كانوا يغيّرون وضعية سريري كل آن ، وفي خاتمة تلك الفحوصات لم يخبرني الأطباء شيئاً بإستثناء أنني لم أكن أعاني من حالة التصلّب المتعدّد Multiple Sclerosis وأن حالتي ليست كواحدة من الحالات النموذجية التي إعتادوا التعامل معها . إستنتجتُ – على كل حال – أن الأطباء توقعوا أن تزداد حالتي سوءً وأن ليس بوسعهم عمل أي شيئ بإستثناء إعطائي جرعات من الفيتامينات رغم علمهم بأن هذا الفعل لن يفيد بشيئ !! ولم أمضِ من جانبي في طلب إيضاحات أكثر حسماً بشأن حالتي ؛ فقد كان واضحاً للغاية أنهم لايملكون أخباراً سارة يمكن أن يبوحوا لي بها .
جاء إدراكي لحقيقة إصابتي بمرض مستعصٍ على العلاج ويمكن أن يتسبّب بهلاكي خلال بضع سنوات بمثابة صدمة عنيفة هزّت كياني . كيف يمكن لشيئ مثل هذا أن يحدث لي ؟ ولكن على كل حال وبينما كنت في المستشفى أخضع لفحوصات مضنية رأيت بعينيّ صبياً – لي به بعض المعرفة – وهو يحتضر بتأثير إصابته بسرطان الدم – اللوكيميا – في سريره المقابل لسريري ، ولم يكن ذلك المشهد بالمنظر الذي تأنس له الروح بالطبع . كان من الواضح لي آنذاك أنّ كثيراً من الناس هم في حال أسوأ مني بكثير ، وبأن حالتي – على الاقلّ – لم تكن تجعل مني شخصاً عليلاً على نحو مارأيت في المستشفى ، ومنذ ذلك الحين وكلّما رأيت نفسي ميالاً للشعور بالشفقة على ذاتي كنتُ أستحضر على الفور صورة ذلك الصبي المحتضر في مخيلتي.
________
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *