لحن افريقيا

*أمير تاج السر

■ منذ أيام وصلتني رسالة من قارئ، كان حضر مناقشة أدبية، في بلدة في إسبانيا، نظمها جماعة من القراء، وناقشت أعمالا أفريقية لثلاثة كتاب، من بلدان مختلفة، وأجيال مختلفة أيضا، كنت أحدهم، كان القارئ يسأل عن هويتي، وإن كنت أحس بشيء من التشتت بسبب أن بلادي ذات طابعين، عربي وأفريقي، وأنني أكتب عن أجواء أفريقيا بلغة ليست من لغات أفريقيا المنتشرة؟
حقيقة لم يذكر القارئ شيئا عن موضوع تلك المناقشة، إن كانت مقارنة للأعمال؟ أم شيئا آخر؟ وبأي لغة قرئت تلك الأعمال التي نوقشت؟ فأنا أستخدم العربية في الأصل والكاتبين الآخرين، من جيبوتي وساحل العاج، يستخدمان الفرنسية في الغالب، ولا توجد نقطة التقاء بيننا ولا تشابه في العوالم والأسلوب الكتابي، لتواجدنا في جلسة مناقشة واحدة، لكن ربما أن الذي ذكر عن أجواء أفريقيا صحيح، وأننا التقينا في ما التقطناه كلنا من تلك القارة الجميلة، التي تصنف بائسة بلا أي وجه حق، وبلا أي تفسير لذلك البؤس، وأرى تراثا خصبا ممتدا من قرون بعيدة إلى زمننا هذا، أرى أزياء براقة، مميزة، مخاطة باعتناء وفتنة، أرى قوائم طعام متنوعة، وخيرات كثيرة، ربما لا توجد في أي بلد آخر، وإذا استثنينا الفقر الذي لا يوجد في أفريقيا وحدها، ويمكنه أن يتسلل لأي بلد مهما كان متحضرا، سنجد شعوبا تتعارك، نعم، لكنها تغني أيضا وترقص وتقيم المهرجانات الضاجة، والأمسيات الشعرية، وليالي المسرح، وتلعب كرة القدم دوليا وتنتصر فيها كثيرا، أسوة بأي بلاد في قارة أخرى.
وبالتالي لا تبدو كلمة بائسة، صفة ملائمة لقارة كان يمكن أن تكون واقفة في الصدارة الآن، لولا الاستعمار وتحديقه العميق في ثرواتها، وانتزاعها، والذي قرأ رواية: «الأشياء تتداعى» للعظيم تشينوا تشيبي أو «المفسرون» لوولي سوينكا، أو أي عمل مدهش لنجوجي واسيونج، سيرى الخيار الأصلي لأفريقيا، في احتكامها للتراث والأجداد والحكم الوارفة، وسيجد التبرم والسخط، ومواجهة الاستعمار الذي سعى للقضاء على الهوية، ولذلك سينتحر بطل «الأشياء تتداعى» في النهاية وهو يرى هويته تمحي بدخول من حاربوا جميع معتقداته الموروثة وقتلوها ولم يستطع منازلتهم.
المهم، في الأمر هنا، هو السؤال الذي يطرح لكاتب عربي، عن أفرقة النصوص، أو لكاتب أفريقي عن كتابة النصوص بالعربية، هذا أمر مشروع بلا شك، أعني السؤال، خاصة إنه صدر من قارئ بعيد، مفهومه عن العرب، من يقيمون في شبه الجزيرة العربية، وعن الأفارقة، من يقيمون في الجزء الأسمر الخالص من الخريطة.
حقيقة ومنذ وعيت، وهذا دأب السودانيين كلهم، كانت ثمة اختلافات كثيرة في ما تعلمناه وما تذوقناه من تراث، هناك أشياء عربية عديدة نحملها، منها بالطبع تلك اللغة الشاهقة المسماة لغة الضاد، التي كانت سائدة في مجتمع لدى معظم أقاليمه، وأطرافه البعيدة، لغات محلية يستخدمها، وأحيانا تصارع اللغة العربية لتبرز، خاصة لدى الأجيال التي لم تنل حظا من التعليم، وظلت أسيرة قراها وبلدانها البعيدة، وحتى الذين لا يملكون لغة أو لهجة محلية، تجد استخدامهم للعربية، مغايرا وفيه التواءات كثيرة، لكن في النهاية يظل فصاحة عربية لا يمكن إغفالها. وأذكر أننا كنا نقضي إجازتنا في الشمال، في فترة الصيف، في القرية الأصل، ونلتقي بالجدات والعمات والخالات وغيرهن من الأهل والأقارب، فتدهشنا انحناءات اللغة غير المعروفة لدينا، لكننا نألفها بعد أيام وربما نستخدمها أيضا.
بالنسبة للحكي الذي نستلفه من البيئة ونحكيه، وجدت كثيرا من الذي يشبهه في حكايات الكتاب الأفارقة الذين ما زالوا ينبشون التراث ويحكونه، وإن كان الحكي الذي يوجد في تراثنا، فد تمت تنقيته من أشياء كثيرة، ربما لم تكن مناسبة لبيئتنا ومجتمعنا الإسلامي، لكن تجد الأصل واحدا، وتختلف تسمية الطقوس ليس إلا، فالغول الذي يلتهم الصغار هو نفسه غول الأفارقة، والصياد الشجاع الذي يتحدى الوحوش، ويتمشى في الغابات رافعا رأسه وحربته، هو نفسه في نكهتنا ونكهة الأفارقة الآخرين، وربما اختلفت ثيابه فقط، أو نظرة عينيه، أو تعبيره عن التحدي. ولعل ذلك ما يجعل الذين يصنفون الإنتاج السوداني حين يترجم لأي لغة، تحت خانة الأدب الأفريقي، وتجد جوائز للأدب الأفريقي حصل عليها سودانيون، وسلسلة للنشر الأفريقي عالميا، تنشر للسودانيين أكثر من أفارقة مصر وشمال أفريقيا، مثلا، بوصفهم الأقرب للهوية الأفريقية.
حين نشرت عملي «إيبولا» 76 الذي تحدثت فيه عن الهبة الأولى لفيروس ايبولا، الذي يسبب الحمى النزيفية القاتلة، وجرت الأحداث في بيئة أفريقية صرفة هذه المرة، هي بيئة الكونغو وجنوب السودان، الذي أصبح الآن دولة مستقلة، ممعنة في النهج الأفريقي، واجهني كثير من الأسئلة التي كان بعضها جادا وبعضها مجرد أسئلة بلا قيمة: لماذا هذا النص الأفريقي الصرف، مكتوب بالعربية؟ لماذا لم يصغ فرنسيا أو إنكليزيا؟
حقيقة لم يصغ فرنسيا لأنني لست مؤهلا للكتابة بالفرنسية، ولا أعرف من تلك اللغة سوى مفردات قليلة، ولم يصغ بالإنكليزية، على الرغم من أنني أعرفها، لأن تكويني ليس بتلك اللغة وما أستطيع البوح به عربيا أفضل آلاف المرات كما لو بحت به بلغة أخرى حتى لو كنت أجيدها.
الإجابة هنا أن الهوية الأفريقية تستلهم النص والعربية تكتبه، لا مشكلة أبدا في ذلك كما أعتقد.
___
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *