عيسى بخيتي: الوسائل التكنولوجية ووسائل النقل الحديثة أثرت في نص الرحلة التقليدي

*حاورته/ نوّارة لحــــرش

 

في هذا الحوار يتحدث، الباحث والكاتب عيسى بخيتي، عن جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة، التي فاز بها في دورتها لهذا العام 2016، عن تحقيقه الموسوم بــ”جمهرة الرّحلات الجزائرية الحديثة في الفترة الاستعمارية 1830/1962″، والذي جاء في7 أجزاء متبوعة بدراسة أخرى بعنوان “أدب الرحلة الجزائري الحديث/ سياق النص وخطاب الأنساق”.

بخيتي وفي سياق حديثه عن أدب الرحلة، قال أنّ عزوف الكُتاب عن هذا الفن وعدم كتابة تجاربهم الرحلية، ساهم في ندرة وقلة أدب الرحلة في الجزائر. لكنّه من جهة أخرى يرى أنّ الاعتقاد بأنّ فن أدب الرحلة لم يعد له أي شأن في هذا العصر هو حكم جائر، وأنّه ورغم تعثراته إلا أنّه لم يفقد بريقه وهو بنفس المستوى مع الأشكال التعبيرية الأخرى، وأنّه لا يقبع في الدرجة الأخيرة، وأنّ الاهتمام به هو من يحتل هذه الدرجة. ومن جهة أخرى يرى أنّ النقد في مجال الرحلة منعدم. بخيتي يرى أيضا أنّ الوسائل التكنولوجية غيّرت في بنية النص التحتية للرحلة، وأثرت على النص التقليدي.

 

فزت بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة في دورتها لهذا العام 2016. ماذا تقول عن هذا الفوز والاستحقاق العربي لبحثك ودراستك؟

 

عيسى بخيتي: هذا الفوز هو بمثابة تتويج لمرحلة طويلة من البحث، لم يكن حينها يشعر بي ولا معي أحد مما أنا أعانيه من سعي حثيث من أجل الوصول إلى ما تحقق. لقد شعرت بعد الإعلان عن النتيجة بنشوة خففت عني جبل العناء الذي تراكمت حصاه على عاتقي طيلة مدة البحث التي جاوزت السبع سنوات. كما أنّي أطمح إلى أن يكون هذا العمل مصدرا من مصادر الدراسات الأدبية والتاريخية ومختلف العلوم الإنسانية.

“جمهرة الرّحلات الجزائرية الحديثة في الفترة الاستعمارية 1830/1962” هو عنوان تحقيقك الفائز بالجائزة. لماذا هذه الفترة تحديدا التي ركزت واشتغلت عليها وبحثت في مخزونها الرحليّ؟

 

عيسى بخيتي: نعم، سؤال قيّم يزيح الكثير من اللبس، لأنّه لا يزال الالتباس قائما حول تحديد مراحل العصور، خاصة ما يتعلق منها بالحديث والمعاصر.. فقد تُعرف هذه المرحلة بالعصر الحديث، ومنهم من يطلق عليها المرحلة المعاصرة.. كما أن الإشكال لم يزل بعد ولم تتحدد معالمه عند المختصين حتى نفرق بين ما هو حديث وما هو معاصر.. هذا أمر، أما الأمر الآخر، فإنّ تحديد المرحلة بالنسبة لي هو المناسب لعملي، لأنّ غالب هذه النصوص المحققة كانت مبثوثة في الصحف الجزائرية خلال هذه المرحلة، وهي جرائد استنفذت وظيفتها فبات الفصل فيها أمرا محسوما، خاصة وأنّ هذه الجرائد أصحبت أرشيفا ليس في متناول الجميع، والبحث فيه يعدّ مغامرة عسيرة المطلب. ولعل فكرة الجمع والتحقيق جاءت نتيجة هذه الصعاب وهذا العناء، فكنت لا أتمنى من أي باحث آخر أن يخوض هذه التجربة، مما أجبرني على توفيرها للباحثين فلا يتكرر هذا الجهد، وتكون ثمرته استمرارا بدلا من الاجترار، فحقق لي الله تعالى هذه المزيّة. ولم يكن لي أن أغامر بما بعد الاستقلال لأنّ خصوصية العصر قد تغير أمرها، ومظانها صارت متيسرة، ونمط الكتابة أيضا قد تغير على حسب استقلال البلاد، فكانت الفترتين مختلفين، ومعالم كلّ فترة لها ما يميزها، فأبقيت على المرحلة الاستعمارية لأنّها تمثل قضية بالنسبة لتاريخ الجزائر.

 غلاف بخيتي (1)

ما الذي ميّز هذه الفترة الزمنية الطويلة على مستوى أدب الرحلة، وما هي أهم أنواع أدب الرحلة التي تشكلت خلال حيزها الزمني؟

 

عيسى بخيتي: حقيقة لقد شاب هذه المرحلة تغير في نمط الكتابة، وهو نتيجة تغير وسائل التعبير وأشكاله، مع حتمية الظروف التي أقرّت الصحافةَ وسيلة للتواصل دون غيرها من الوسائل، فبات هذا المجال سجن الكلمات وفحوى الخطابات مما أجبر الكاتب الجزائري على محدودية المجال، فامتزجت الرحلة بالمقال سواء أكان ذلك ذاتيا أم موضوعيا، ودفع بهذا إلى اندثار في الكتابة التقليدية التي انخفض إنتاجها مقارنة بالكتابات الصحفية، ولم تكن الرحلة إلا نافذة يطل من خلالها كُتابها على قارئيهم بمختلف التقارير خاصة وأنّ الرحلة كانت إحدى مجالات الدعاية الهامة ابتداء من رحلة ابن صيام وبن علي الشريف وابن قادي وغيرهم الذين دشّنوا جريدة المبشّر (تأسست 1847) بنصوص رحلية تميزت بالدعاية لصالح فرنسا في أسلوب إيديولوجي وخطاب ممالئ. ثم اتخذها الوطنيون في صحافتهم دعاية إلى جمهورهم لتعريفهم بجغرافيا بلدهم وأحوال أمتهم، واطلاعهم على ما يدور عليه أمر الأمم من انفتاح ونقل ما تميز به هؤلاء من اختلاف ثقافي ومستوى حضاري.

كما أنّ هذه الرحلات كانت مجالا خصبا لكلّ من الإصلاحيين والطرقيين فعبّر كلّ من الفريقين عن دوافعه لتحقيق مشروعه، خوضا في مجال الدعاية لصالحه حينما كانت جرائد الإصلاح تنضح بالذود عن برنامجها والانقضاض على غريمها الطرقي. كما كان الشأن بالنسبة للطرقيين الذين وفروا كلّ الوسائل الأسلوبية ضدّ خصومهم الإصلاحيين بتقويض كلّ بناء وسد كلّ مشروع، وتبني كلّ ما هو إيجابي.. بحديثهم عن المدن والبلدات المُزارة. كما كان للثورة التحريرية رصيد في هذا الشأن فكانت رحلات رسمية في غالبها، جسدتها أقلام مثل الابراهيمي وأحمد توفيق المدني ومنصور الغسيري.. وهي رحلات نفذت إلى عمق بيت القرار العربي من ملوك ورؤساء، وكشفت عن تعاطي هؤلاء مع الثورة التحريرية، ممن كان له وجهة نظر أخرى.

ولم يكن هناك في الجزائر اختصاص في الكتابة، فكان جل الرحالين، هم أنفسهم رجال الصحافة ومنهم الشعراء والمندفعين نحو مشاريع مختلفة في الحياة، لذلك جاءت كتاباتهم كلّهم لا تخلو من إيديولوجيا أو تنزع إلى مشروع، فلم تكن التي تعبر عن التيار الحر في الحياة إلا القليل منها.

تحقيقك جاء في 7 أجزاء، وبدراسة أخرى حملت عنوان “أدب الرحلة الجزائري الحديث/ سياق النص وخطاب الأنساق”، هل يمكن أن توضح وتشرح للقارئ أهم السياقات التي شكلت أدب الرحلة الجزائري الحديث؟

 

عيسى بخيتي: عملي جاء في تحقيق لسبعة أجزاء من النصوص الرحلية تفاوتت في الطول وفي الأسلوب، كما جاءت أجزاؤها وتفاوتت من حيث الحجم، ودراسة مطولة في حدود مجلد ضخم. أما التحقيق فجاءت أجزاؤه على الشكل الآتي: الأجزاء الثلاثة الأولى كلّها رحلات داخلية. الجزء الأوّل منها اقتصر على الرحلات العامة؛ أي التي لم يكن يتميز خطابها بالإيديولوجية. أمّا الجزء الثاني فقد خصّصته للرحلات الداخلية الإصلاحية، وكانت كلّها رحلات لرجال الإصلاح. أمّا بقية الجزء الثالث فهي أيضا داخلية تخص رحلات رجال الطرق. الجزء الرابع خصصته للرحلات الحجازية (رحلات الحج). أمّا الجزء الخامس فكان للرحلات باتجاه أوروبا، وجاء الجزء السادس مخصوصا بالرحلات المشرقية (أي ذات الاتجاه نحو المشرق) تدخل فيها حتى الرحلات نحو تونس وليبيا ومصر. وأخيرا الجزء السابع وخصصته للرحلات نحو المغرب الأقصى.

ولعلّ مجمّل القول أنّ هذه المدونة تحمل في خطابها جمهرة من القضايا التي تخص المجتمع الجزائري، بيئته وعمرانه وأحواله الاجتماعية الاقتصادية والثقافية، فهذه الرحلات، هي بمثابة الوثيقة التي تحمل في طياتها تفاصيل عن مجتمعنا، نجد فيها بؤس الجزائري وحرمانه، ومعاناته مع المستعمر، كما نجد صورا لسلوكه في أخلاقه وفي تدينه، في عفته وفي كرمه، في وطنيته وفي خياناته، في تواصله مع الآخر ومشاركاته.. نجد فيها حتى تطوره في وعيه واكتسابه لأمارات التحضر وأسباب المعرفة. فلو نظرنا مرحليا في الرحلات نحو أوروبا لوجدنا أنّ رحلات القرن التاسع عشر تميزت بالانبهار، بينما غدت رحلات القرن العشرين تنأى عن هذا الانبهار، وأصبحت فيها مسألة النقد بديلا له.

 

بحكم اشتغالك في وعلى “أدب الرحلة” كيف ترى حضور هذا الفن في الجزائر وفي العالم العربي؟، وماذا عن حاله وواقعه؟

 

عيسى بخيتي: على الرغم من الأحكام التي تصدر من هنا وهناك حول ما يتعلق بأدب الرحلة، والاعتقاد بأنّ هذا الفن لم يصبح له شأن في هذا العصر، فإنّنا نقول بأنّ هذا الحكم جائر، ولا ينطوي عن روية وتمحص، لعل تغيّر نمط الحياة، وتغيّر نمط الأشكال الأدبية هي التي سرّعت في هذا الحكم، في ظل لا مبالاة النقد (في اعتقادنا) حيث عزف هذا الأخير عن وظيفته ليس على مستوى أدب الرحلة، بل حتى على مستوى الشعر والرواية والقصة، فما يبدو لنا أنّه اهتمام، فهو في الحقيقة قصور أدّت نتيجته إلى قلة المقروئية، لأنّ النقد هو بالإضافة إلى وظيفته المعيارية، فهو ميدان للتشهير والتحفيز على القراءة.

إنّنا نقول بأنّ أدب الرحلة اعترضه ما اعترض أشكال أدبية أخرى، فهو لا يزال يزاول مهامه، لأنّ المبدع هو في الأخير نمط ثقافي يعج بالمشاعر، ويتدفق بالأسلوب، يخترق شكلا أدبيا وفق توجهه وقوته التعبيرية، منهم من يتقوّل الشعر، ومنهم من يتقوّل القصة أو الرواية، ومنهم الخاطرة، والمقالة، والرحلة وغيرها، لذلك لا يمكن لشكل من الأشكال الأدبية أن يترك ساحته، حتى أنّ المقامة الأدبية لا يمكن لنا أن نسحب منها اعتمادها كجنس أدبي ولو أن مقعدها الأجناسي يبدو أنّه شاغرا حاليا، إلا أنّه لا يمكننا أن ننفي على من يكتب في هذا الفن.

ومن هنا نقول بأنّ أحوال أدب الرحلة كغيره من الأشكال الأدبية إن كانت بخير فهو بخير، وإن كان يعوزها شيء من الفنية، فهي كذلك، وما النظر إلى الرحلة بهذه العين المريبة إلا لأنّ شكلها اختلف، وهو أمر طبيعي فرضته معطيات العصر، فاستجاب دون أن يقطع الوصل، وألف هذا النموذج فائتلف. المهم في ذلك أن نسميه بالرحلة المعاصرة، أي أنّها استجابت للعصر شكلا ومضمونا، ولا يمكن بأيّ حال أن تنسحب الرحلة كمجال فنيّ. وما يمكن الدعوة إليه هو تكثيف الجهود حول تبني حدود الجنس الأدبي بالنسبة للرحلة اعتبارا من نظرية الأدب. أنا متفائل جدا، ولي نماذج أحتج بها في هذا الشأن سواء داخل الوطن (الجزائر) أو خارج الجزائر، إنّ الرحلة اليوم صارت نزوة كتابة تفرضها طبيعة زيارة الأمكنة، فتستجيب ذخيرة الكاتب فتحوّل ذلك السجل انطلاقا من مرئيات بعينها، في حين كان في الرحلة التقليدية له مجال خاص وهو الاستطراد. إنّه من يقرأ مثلا؛ لأحمد منور والركيبي وعمر بن قينة، وبعدهم الخيّر شوار وعبد الرزاق بوكبة، ورابح خدوسي، وسعيد بوطاجين، وفوزي أوصديق، ومحمد الأمين بلغيث، وغيرهم كثير، فإنّه يدرك أنّ مجال الكتابة لا يخرج عن نمط خاص وهو مجال الرحلة أو السفر، كما لا يمكن إقصاء الربورتاج إذا توفرت فيه بنية السفر وخصائص الكتابة الفنية.

 

لماذا برأيك معظم الكُتاب في الجزائر ورغم سفرياتهم الكثيرة إلا أنّهم لا يستثمرون رحلاتهم في هذا المجال من الكتابة؟

 

عيسى بخيتي: هذا صحيح، إنّ عدد المسافرين من النخب اليوم في ازدياد، والغريب أنّ كلّ هؤلاء ممن التقينا وممن لم نلتق، كلّ منهم يعبّر بشكل من الأشكال عن تجربته في سفره، وعن مقايساته، وعن ما يمكن لبلدنا أن تتّخذه كتجربة للوصول إلى ما وصلت إليه الأمم، وكلّ يروي قصصا طريفة ومشوقة، ومنهم من يروي النوادر، ومنهم من كانت له حوارات مع شخصيات مهمة، إلا أنّ ذلك لم يسمح ولم يدفع بهؤلاء لكتابته كنموذج لتجربة جديدة تنضاف إلى عديد التجارب فيكون لها مجال على المستوى الفني والمعرفي.

إنّه في اعتقادي أنّ أمر الكتابة يعود في الأساس إلى الخمول والكسل الذي لا يبرح هذه الفئة، خمول في الكتابة، وكسل على إيجاد سبيل للنشر، ثم إنّنا لا نؤمن بهذه التجارب كفعل ثقافي، اعتقادا منا أنّ مجال كلّ تجربة هو لا يتخطى مشافهة المعارف من الناس، كما أنّي أعرف من الأساتذة من له قلم فني وهو يكتب عن كلّ تجربة إلا أنّ كلّ ما يكتبه يبقى حبيسا عنده، وهو بؤرة التناقض التي نسعى إلى استئصالها، كما أنّ هؤلاء لا يؤمنون بأنّ هذه الكتابة سوف تزرع نشاطا ثقافيا أو تثريه فنيا، أو تغير في مستويات الكتابة والتحوّل في الخصوصية المعرفية. ومن جهة أخرى الكثير من هؤلاء يعتقد أنّ كتابة الرحلة لا يزال يحتكم إلى النمط القديم في الشكل، فتبدو له هذه التجارب مغامرة مشكوك في نتيجتها.

 

هل يمكن القول أن عزوف الكُتاب عن هذا الفن وعدم كتابة تجاربهم الرحلية، ساهم في ندرة وقلة أدب الرحلة في الجزائر، وأنّ هذا العزوف أيضا جعل أدب الرحلة في الدرجة الأخيرة؟

 

عيسى بخيتي: أجل؛ كلّما عزف الكتّاب عن رواية تجاربهم، كلّما تقلص حجم النصوص، لكن هل حقا أنّ الكتابة الرحلة قليلة التمثيل إلى هذا الحد؟ لا أعتقد ذلك؛ بيد أنّ الكثير ممن يكتب هو غير ملزم باختيار مساحة واحدة، وهو مما يصعّب الحكم، ومما يصعب حتى معرفة حجم هذه المدونة، الكثير منهم يكتب على وسائل تكنولوجية مثل شبكة الأنترنيت بمختلف نوافذها، وهذا الكثير لا تزال المؤسسة الأجناسية في حيرة عن كيفية إدراجه إلى مصاف النصوص الرحلية، إنّ هذه حرية في الكتابة ولكنّها قد خلقت لنا متاعب من حيث التبني.

وأدب الرحلة لا أعتقد أنّه يقبع في الدرجة الأخيرة، إنّ الاهتمام به هو من يحتل هذه الدرجة، بينما مثول النص فمن المجازفة الحكم بهذا، لأنّ أدب الرحلة لم يفقد بريقه، وهو بنفس المستوى مع الأشكال التعبيرية الأخرى. وهل الشعر يحظى باهتمام شرائح كبيرة من المجتمع لولا الهالة الإعلامية والنقدية التي يحتلها؟. إنّه جدير بنا أن ننهض برصد كلّ الأحوال المتعلقة بالقضايا الأدبية، منها من نفختها الشهرة، ومنها من دفع بها النقد، في حين تغافل النقد عن الرحلة مما أدى بالذين هم بعيدون عن هذا المجال باتخاذهم هذه الأحكام. وما يمكننا الاحتفاظ به كحكم، أنّ النقد في مجال الرحلة منعدم، ولا يمكن لحال الرحلة أن تنهض وتستمر على طريق واضح إلا لما يكون لها من الدارسين والنقاد.

 

من جهة أخرى، هل حقا الرواية والتحقيق الصحفي أخذا مكان أدب الرحلة في الجزائر؟

 

عيسى بخيتي: الرواية جنس أدبي، والرحلة جنس أدبي مختلف، قد تتقاطع نصوصهما إلا أنّ النتيجة لكلّ له شأن يُغنيه. للرواية قُصّاد وللرحلة قُصّاد، تبقى قضية القارئ وما يختار لنهمه. والحقيقة أنّ هذا عصر الرواية والقصة بامتياز، وما تمتاز به الرواية لا تمتاز به الرحلة، لأنّ الرواية طافحة بالتخييل، والرحلة تقل فيها درجة التخييل، كما أنّه في اعتقادنا أنّ الرحلة في غالبها تميل إلى التقرير، وهو ما يؤدي إلى يسر النص وسرعة التفاعل معه، وانقضائه مع آخر كلمة منه. في حين تبقى الرواية حُبلى بالدلالات بالإضافة إلى استراتيجية بنية النص الروائي الذي قد يسلب جمهور القراء باتجاهه، وهو عامل من عوامل تقليص جمهور الرحلة. كما أنّ قارئ الرواية من جهة أخرى لا يكلفه قراءة نص رحلي، فالقارئ الذي ينخرط في السلك الأدبي (في اعتقادي) يجد متعة في قراءة النص الرحلي (غير المكلف) إلى جانب الرواية. في حين لا يمكن اعتبار الروبورتاج والتحقيق الصحفي إلا ابنا شرعيا للرحلة.

 

ماذا عن التكنولوجيا، هل أثرت هي الأخرى على نص الرحلة التقليدي، وساهمت في تقهقره، أو حتى في اندثاره؟

 

عيسى بخيتي: بالفعل؛ لقد غيّرت الوسائل التكنولوجية في بنية النص التحتية للرحلة، إذ لا يمكن اعتبار السفر سفرا إلا إذا ما اتخذ وسيلة من وسائل التنقل، ولما كان السفر قديما يعتمد على الدابة أو على المشي، فإنّ ذلك كان يشكل مسافة سردية بقدر معاناة ذلك السفر الذي كان يستمر لمدة زمنية طويلة، إضافة إلى ما كان يجده المسافر من عقبات ومفاجآت، تجعل من نصه مشبعا بالأحداث، ودليلا للطريق، ومستكشفا للمعالم والأماكن، فكانت هذه المسافة بمثابة عمود النص الفقري، أما اليوم وقد أصبحت وسائل النقل يسيرة ومتطورة توفر للمسافر الراحة، وتبعد عنه تكلفة العناء والمفاجآت، وبات حيزها الزمني لحظات، لا يتمكن الكاتب (الرحالة) حتى في تأمل تلك المسافة، وكان هذا عاملا أساسيا في تأثيره على النص التقليدي، بل في عمومه قد اندثر واستحال إلى نص بمنحى آخر، ومنه يمكن القول بأنّ النص التقليدي قد اندثر، وفقد حلقة، أو حلقات من سلسلته السردية، ولكن إذا كان هذا قد أثر بشكل من الأشكال على النص التقليدي، فإنّ الرحلة تجسدت في نص جديد له حضور في الساحة الأدبية، فهو يمثل مختلف القضايا كالمقايسة والنقد الذاتي، واستعراض للأساليب.

ولم تكن وسائل السفر وحدها التي أثرت في نص الرحلة التقليدي، بل هناك وسائل تكنولوجية أخرى، أهمها دون منازع وسائل الاتصال، وخاصة التلفزيون والأنترنيت التي تفننت في تقريب العالم، وتقليصه إلى كيان صغير، برصدها للصوت والصورة لمختلف أمكنة العالم بل حتى في أعماق البحار. فهل هذا الاستكشاف يجعل الرحلة تفقد خصوصيتها كمتن أدبي مليء بالتشويق، والبنى المختلفة المشكلّة؟، في الحقيقة لا أعتقد ذلك لعدة اعتبارات، لأنّ النص الرحلي هو حكاية وبنيتها الحقيقية تكمن في استراتيجية نصها الفنية، وليست المرئيات هي سبيل كلّ عين، والجواب على هذا تفصيلا لا يمكن في هذه المساحة الضيقة، وإنّما هي إشكاليات تحتاج إلى تقصي وتفصيل.

كيف يمكن برأيك إعادة الاعتبار لأدب الرحلة، وهل مثل هذه الجوائز العربية مثل جائزة ابن بطوطة كفيلة بأن تساهم في إحياء فن أدب الرحلة أو إعادة الاعتبار له؟

 

عيسى بخيتي: إنّ المؤسسة القائمة على هذا المجال، والمتمثلة في المركز العربي للأدب الجغرافي، واعية كلّ الوعي لما لأدب الرحلة من خصوصية، ولما له من إمكانية لمعرفة خصوصية المجتمعات وأبعاد كلّ هُوية، فهي تجتهد مند ما يزيد عن ثلاثة عشر سنة من أجل أن يبقى هذا الفن قائما، بل تسعى إلى جمع شتات النصوص الرحلية العربية التي تمثل هُوية المجتمع العربي، وخصوصيته الحضارية، ولقد أعادت هذه المؤسسة الاعتبار لهذا الفن.

لو تمحصنا في تاريخنا القريب، فإنّنا نقول بموضوعية أنّ المستشرق الروسي كراتشوفسكي هو من ابتكر هذه البدعة “بدعة النهوض بأدب الرحلة” من خلال كتابه “الأدب الجغرافي العربي”، ولعلّ هذا الجهد قد تأسس لاعتقاده أنّ الأدب الجغرافي أدب موجه يقابل شبكة حضارية لا تتقصى إلا في خصوصية الخطاب الذي يحمله المتن.

وما يجب على الأوطان إلا أن تتبنى كلٌّ منها مؤسسة تشتغل على هذا الفن، وإعطائه مجالا في المؤسسة الأكاديمية، الذي يبدو الاهتمام به محتشما، وأهم من يتبنى ذلك (في اعتقادي) هيئة مثل مخابر البحث، ودفع الباحثين إلى تبني الأعمال الأكاديمية في مجال الرحلة. مع التحسيس لذلك بملتقيات وطنية ودولية.

————

جريدة النصر الجزائرية

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *