«لا يمكن أن نذهب إلى المعركة آملين في العودة منها سالمين. في البداية، هناك الدم والحِداد. في البداية، هنالك اليقين بانعدام الانتصار الكلّي والسعيد». هذه الجملة نقرأها في الرواية الأخيرة للكاتب الفرنسي لوران غوديه، «اصغوا إلى هزائمنا» (دار «أكت سود»)، وتلخّص على أفضل وجه مضمونها والرسالة المسيّرة فيها.
عنوان الرواية يجعلنا نتساءل عن أيّ حروب خاسرة يتحدّث الكاتب، بما أنه يدعونا إلى الإصغاء إلى هزائمنا، قبل أن يتبيّن أن المقصود هو جميع الحروب التي أشعلها الإنسان عبر القرون وأظهرت أن لا وجود لشيء يدعى الانتصار، لأن الحرب بطبيعتها ومآلها هزيمة، حتى لـ «المنتصرين»، ولأن أي دمٍ يراق في معركة، ولو عادلة، هو هزيمة للبشرية جمعاء.
تنطلق الرواية بلقاءٍ عاطفي في فندق بين رجل وامرأة يبدوان فوراً لنا متعبين من حياتهما. الرجل، عاصِم، هو قاتل فرنسي محترف يعمل لمصلحة المديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسية ويتألم من إدراكه انعدام أي معنى للمهمات التي توكل إليه، وآخرها تقفّي أثر عضو سابق في فرقة كوماندوس أميركية استقرّ في بيروت، بعد فراره من مهماته التي لا تختلف عن تلك التي يضطلع بها عاصم. المرأة، مريم، عالمة آثار عراقية تسعى إلى إنقاذ المعالم الأثرية من الحرب المدمّرة الدائرة في العراق وسورية.
وبسرعة، ترتفع في أرجاء الرواية ثلاثة أصوات أخرى تعود إلى ثلاثة وجوه تاريخية كبرى وتمنح نصّها بعداً آخر ونفساً ملحمياً: الفاتح هنيبعل، الأمبرطور الإثيوبي هيلا سيلاسي والجنوال الأميركي أوليس غرانت. خمس شخصيات إذاً تتوالى سردياتها وتتقاطع داخل النص، كاشفةً تحت أنظارنا اختبارها الانتصار والهزيمة معاً.
هنيبعل سيحارب روما على مدى عشرين عاماً ويكسب جميع معاركه ضد جيشها، قبل أن يُهزَم في عقر داره، قرطاجة، بسبب تحالف حليفه مع عدوّه. الجنرال غرانت ينتصر في الحرب الأهلية الأميركية وينتُخب رئيساً لبلده مرّتين، لكن الهزيمة ستكمن له في معسكره حيث يلقّب بـ «الجزّار»، وفي ضميره الذي سيؤنّبه من جرّاء إرساله عشرات آلاف الشبان إلى الموت من أجل هذا الانتصار. هيلا سيلاسي يعرف مسبقاً أن جيشه سيُهزم أمام جيش موسوليني، ومع ذلك نراه غير قادر كإمبرطور على تجنّب هذه المعركة، على رغم رغبته في ذلك، فيُنفى من بلده بعد هزيمته لكن ليس من دون أن يسجّل انتصاراً بزعزعته أسس «عصبة الأمم» إثر كشفه جبن هذه المنظّمة ولا مبالاتها بمأساة أثيوبيا أثناء الاعتداء الفاشي عليها.
من جهته، يشعر عاصِم بأنه لم يسجّل أي انتصار لدى مشاركته في الإطاحة بالعقيد معمّر القذافي، وبأنه خسر بعضاً من إنسانيته في كل مرة أنجز واحدة من المهمات التي أوكلت إليه. وهذا ما يفسّر تعاطفه مع الجندي الأميركي وتفّهمه فراره من فرقة الكوماندوس، للسبب نفسه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى مريم التي لن تنجح حماستها في استعادة القطع الأثرية المسروقة ونفض الغبار عن تلك التي ما زالت مطمورة، من تضميد الجروح التي سيسبّبها لها تدمير «داعش» المواقع الأثرية، الواحد تلو الآخر، قبل أن يهزمها مرض عضّال تصاب به ويشعرها بأن قدر كل إنسان هو العودة إلى التراب، تماماً مثل الآثار الغالية على قلبها.
ولكن ماذا يعني أن ننتصر؟ هل هو أن نصرع العدو أم أن نبقى على قيد الحياة بعد وفاته؟ وفي هذا السياق، ألم ينتصر هنيبعل على القائد الروماني سيبيون بتحوّله إلى أسطورة حيّة، على رغم هزيمته أمام هذا الأخير؟ وماذا يعني أن ننتصر، حين لا تُحسم نتيجة أي معركة أثناء حدوثها فقط، بل بعد زمن طويل أحياناً؟ فهنيبعل وغرانت وهيلا سيلاسي لم يموتوا مع معظم جنودهم، بل بقوا أحياء، ويجعلنا غوديه نرافقهم إلى سن الشيخوخة من أجل كشف ما اختبره كل واحد منهم بعد الحرب، أي تلك الهزيمة المزدوجة التي لا محال منها: هزيمة تحوُّل اللحظات الملحمية أثناء المعارك التي عاشوها إلى مجرّد أصداء يطغى عليها صراخ آلاف الشبّان الذين اقتادوهم إلى حتفهم، وهزيمة على يد الزمن الذي لا ينتصر عليه أحد.
وهذا ما يقودنا إلى السؤال الأهم الذي يطرحه الكاتب علينا في نصّه: ماذا لو أن الهزيمة لا تعني الفشل، أو أن الأمر لا يتعلّق بالنجاح أو الفشل في الحياة، بل بتعلّم الخسارة، وبقبول هذه النتيجة المحتمة؟ فطالما أننا جميعاً محكمون بالسقوط، يصبح الرهان على كيفية تقبّل هذا السقوط وعيشه في شكلٍ كلّي وحرّ، وليس على محاولة الإفلات منه العبثية. وهذا ما يسعى خلفه عاصِم ومريم اللذان يتنقّلان في الأمكنة الأكثر اكتواءً بنار الحروب، أي تحويل الهزيمة المحتمة إلى فرصة للتحرّر وعيش الحياة بشغفٍ وشهوانية، وهو ما يجعل من لقائهما أمراً ممكناً وما سيجمعهما داخل عالمٍ مجنون يختبران فيه طبعاً الهزيمة، ولكن من دون أن يفقدا استقلاليتهما.
لكتابة هذه الرواية المؤثّرة، شحذ غوديه أسلوباً يختلف عمّا اعتدناه في رواياته السابقة. أسلوب مشبع بالصور ومشحون بغنائية ملحمية، سمح له بإسقاط الحالة النفسية لكلٍّ من شخصياته الخمس بمهارة فريدة، وأيضاً بتعزيز أثر سرديته على نفس القارئ. فكلما احتدمت المعارك داخل الرواية وتسارعت أحداثها، كلما عنف وَقْعُ نثرها. وكلما ارتفعت أرقام الخسائر البشرية في المعارك المسرودة، كلما قصرت الفقرات وتحوّلت جُملها إلى طلقاتٍ نارية خاطفة، الأمر الذي يمدّ الرواية بحدّةٍ وتوترٍ شديدين. أما التساؤلات الملحّة التي تعبر جميع فصولها فتقودنا إلى تأمّلٍ عميق نستخلص فيه أن النتائج المأسوية للحرب تبقى هي نفسها، مهما اختلفت الجغرافيا أو الزمن الذي تقع فيه.
رواية قاتمة ومقلقة إذاً نختنق في أجوائها المشبعة بالبارود، ونحتكّ بالموت في كل صفحة من صفحاتها، ونشعر بالأرض تهتزّ تحت أقدامنا، تلك الأرض التي ينهب الإنسان خيراتها منذ آلاف السنين ويسقيها بأنهار من الدم، ويدمّر بلحظة ما بناه عليها على مدى قرون، من دون أن يتعلّم أمثولة تاريخه الكبرى. ولهذا يدعونا غوديه على طول نصّه إلى الإصغاء إلى هزائمنا، هنا وهناك، وعلى مر الزمن، آملاً في أن نعي جنوننا القاتل ونضع حداً له. جنونٌ لا شفاء منه إلا بواسطة الحب، وفقاً إلى الروائي: الحب الروحي والجسدي، وأيضاً حب الكلمات والشعر والفن الذي يجمع عاصِم ومريم، ويجسّده نص الرواية على أكمل وجه.
______
*الحياة