هناك عناوين تستدعي على الفور نقائضها، خصوصا إذا كانت ذات بعد جدلي يتخطى الثنائيات الساكنة، وكتاب الشاعر والكاتب الراحل ممدوح عدوان «حَيْونة الإنسان» استدعى بالضرورة أنسنة الحيوان، فهو يذكّرنا بما قيل على سبيل الاحتجاج واستنكار ما آل إليه البشر في عصرنا، وهو أن الحيوان استغرق في تطوره ملايين السنين كي يتأنسن، لكن النظم التوتالية أعادت الإنسان إلى الحيوان في أقل من نصف قرن.
ما انطلق منه ممدوح عدوان في كتابه «حيونة الإنسان» هو الدرجة القصوى من التوحش التي وصل إليها التاريخ، سواء من خلال جرائم جسدت الشر المحض، أو من خلال نظم قمعية استباحت ضحاياها حتى النخاع ، ما أفقدهم الحول والقوة بحيث لم يجدوا بدّا من التأقلم، أو ما يسميه عدوان التعود، فمن يمر لماما بسوق النحاسين يشعر بوخز الرنين الأصفر وكأنه يثقب أذنيه، لكن من يعيشون في مثل هذا المناخ يألفونه وقد يزعجهم الصمت.
وإذا كان عدوان يقدم لكتابه بما يشبه الاعتذار، لأنه شاعر وليس باحثا، فذلك على سبيل الاحتراز، والحقيقة أن الشعراء طالما ألهموا فلاسفة، ما دفع الفيلسوف مارتن هايدغر إلى الاعتراف بأن ما كتبه الشاعر الألماني رينر ريلكة هو منجم بلا قاع لمن يغرفون منه أو يستلهمونه، والشاعر هو الناقد في ذروة التطبيق، كما قال عنه ت. س. أليوت ومسوداته خير مثال على ذلك، من خلال الانتقاء والحذف واستبدال المفردات وفقا لما رآه ممدوح عدوان الذي خبر الحياة وتعامل مع أدق تفاصيلها بعقله وحواسه معا، فإن ما جرى هو تحويل الإنسان إلى حيوان، رغم القرون الطويلة من الكدح الحضاري، وحين يذكر المصادر ذات الصلة بموضوعه لا يقتفي الأكاديميين بقدر ما يستضيء بتلك المصادر وهي على الأغلب أدبية، روائية ومسرحية بالتحديد، ولو عاش الرجل الذي رحل قبل ثلاثة عشر عاما حتى أيامنا ورأى ما نرى لربما أضاف إلى أمثلته الكثير، لأن الجرائم لم تتضاعف فقط، بل تعمقت وأوغلت في الشذوذ وتفوق الحيوان البشري الذي أجريت له جراحات استأصلت ضميره على الضّباع، بحيث لم يبق خط أحمر مرسوم بالدم لم يخترقه والشاعر عدوان لم يشهد الذبح بالجملة كما شهدناه في الاعوام الأخيرة. وقد روى لي شاعر فرنسي أنه كان يحب مشهد سكاكين الستيك في مطعم كان يرتاده، لكنه بعد أن رأى السكين تقطع أكثر من خمسين عنقا بشريا في أقل من نصف ساعة أصبح نباتيا ولم يكتف بالإقلاع عن الذهاب إلى ذلك المطعم.
فالواقع الآن تجاوز حصان كاليغولا والخيال الأسود للماركيز دوساد، ما يدفعنا إلى تصديق أطروحة هربرت ماركيوز في كتاب «الحب والحضارة» فتاريخ الحضارات على ما يبدو هو تاريخ الزجر والقمع، لكن الغرائز انتهت إلى التسفيل وليس إلى التصعيد بالمعنى الذي تحدث عنه سيغموند فرويد.
ما كتبه عدوان عن التنمر والبلطجة والتأقلم مع واقع بلغ حدا من الاستنقاع يتعذر احتماله، شمل النسيج برمته ولم يقتصر على خيوطه الفظة الخشنة، فالشقيق الأكبر في الديستوبيا التي وصفها جورج اورويل في روايته 1984 أصبح سلالة تتكاثر على نحو أميبي، أو هي أشبه بالهيدرا التي إذا بتر أي عضو منها يستكمل نموه مجددا، ولأن الشاعر عدوان أحاط بالعديد من الروايات عن تاريخ التعذيب منذ ترجمته لكتاب «تاريخ التعذيب» فهو يهيج الذاكرة التي تعج بالأشباح، بحيث تستعيد تعذيب المسيو دميان كما وصفه ميشيل فوكو، وكذلك ما قدمه الراحل هادي العلوي عن التعذيب وفنونه في تاريخنا العربي.
وقد تحدّث ممدوح بالتفصيل عن حيونة الإنسان، لكن الجانب الآخر من الجحيم وليس من الفردوس هو أنسنة الحيوان، فبقدر ما تراجع البشر ألفيات إلى الكهف بدأ العلم يكشف أبعادا مسكوتا عنها عن الحيوان وما ينشر بين وقت وآخر من صور وفيديوهات عن حيوانات كالأسود والنمور لا يدهشنا فقط، بل يحدث تغييرا جذريا في تصوراتنا التقليدية عن الحيوان، فهل أصبح الإنسان الذي لا يزال على قيد آدميته بحاجة إلى محميات كتلك التي تحول دون انقراض بعض الكائنات؟ أم أنه أصبح بحاجة إلى سيرك بشري يدجن أنيابه ومخالبه.
إن ثنائية الجلاد والضحية تصبح قابلة لإعادة النظر حين ندرك أن الضحــية قابلة للتأقلم مع الظــرف الـشاذ الــذي تزج إليه، وكأن طــول فترة الاضطهــاد والإسكات القسري يفرز نوعا من الماسوشية تجـــعل الضحــــية تستمرئ الألم بل تبحث عنه، أما المفارقة فهي أن حيونة الإنسان تتزامن مع تطور تكــــنولوجي غير مسبوق، حيث كان للتعذيب نصــــيبه من التطور من خلال تحديث أدواته وتقنـــياته، كما كان للفقر أيضا نصيبه، بحيث تكـــون آخر وجبة ازدردها جائع أفريقي هي ما تبقى من أسمال على جسده الذي تحول إلى تضاريس من العظم، وكم تمنيت لو أن ممدوح عدوان حيّ لأروي له ما رأيت على إحدى الشاشات، فقد طلب أحد القتلة من زميله الذي يطلق النار على أكثر من عشرة أشخاص أن يتجنب رؤوسهم وبالتالي يضاعف عدد الرصاصات في الصدر، لأنه يريد جمع قبعاتهم غير مثقوبة وصالحة للاستخدام أو البيع.
كم تطورت الحيونة وأحرقت مراحل أيها الشاعر الصديق منذ رحلت، فنحن بلغنا حدا من شقاء الوجدان نحسد فيه من سبقونا ونجوا بموتهم من حياتنا.
_______
*القدس العربي
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
-
في تجربة القراءة*هيلاري مانتيل/ ترجمة: مصطفى ناصرإذا حاول المرء ان يسجل عناوين الكتب التي قرأها في حياته…