دراسة في قصيدة : امْرأ ة حُبُّها يُنَوِّر الوجْه للشاعر محمد الزهراوي

*محمد بوكحيل

لقد ظهر مصطلح قصيدة النثر في الأدب العربي كشكل تعبيري جديد انتهت إليه الكثير من الأشكال التجريبية التي جربها جيل شعراء النصف الأول من القرن العشرين واعتبر عند ظهوره كثورة على عمود الشعر العربي في بعده الإيقاعي خاصة،
وقد بات هذا الشكل الفني يحتل مساحة كبيرة في النتاج الشعري العالمي عامة ، وفي المشهد الشعري العربي المعاصر خاصة.
قد تسألني عمّا يجعل الكلام المنثور قصيدة ..لا أدعي ولا ينبغي لك، أن النص يكون بنية مستقلة كاملة تبرز فيها الوحدة العضوية عبر مجموعة من العناصر الهيكلية التي تؤلف النص وتضمن شعريته.
ومن المفيد التأكيد على أن مصطلح ” قصيدة النثر ” يخالف الشعر المنثور ، فقصيدة النثر شكل أدبي اكتسب رسوخا ، وتنظيرا واضحا، استقرت معه الكثير من الأطر الجمالية . أما الشعر المنثور فيختلف عنه، فهو عبارة عن كتابة الشعر دون وزن ، وهو الأساس لقصيدة النثر المعاصرة ،
إن نفي الزمان والمكان وما يرتبط بهما من مفاهيم منطقية ينتج عنه بالضرورة هدم الأسلوب والترتيب الفني وتسلسل الأفكار وترابطها لتمنح الأولوية للكلمة بشكل عام، وللاسم منها شكل خاص، لأنه دلالة على الشيء وإيحاء له في جوهره اللازمني. كما تتمتع الكلمة بكينونتها المستقلة التي لا تذعن لمنطق النحو، إذ ” لم تعد تندرج في تنظيم الجملة لكي يعبر فيها المعنى كما يعبر التيار في سلك كهربائي، فإذا هي تلمع ببريقها الخاص الكوكبي المنعزل “.
وعلى الرغم من أن النثر لا يسمح بهذه العزلة والاستقلالية للكلمة، فإن أدوات الترقيم (خطوط صغيرة وبياض وتعيين الكلمات ونقط التعجب …) وسائل تفصل الكلمات عن السياق وتطبعها بنوع من الدلالة الخاصة إلى جانب دلالتها السياقية في الجملة ،وقصيدة النثر كما يراها العارفون ذات شكل، وذات وحدة مغلقة، فهي دائرة أو شبه دائرة.
وإذا كان النثر الشعري نثر يَسْتَخْدِمُ الشعر لغايات نثرية خالصة، فإن قصيدة النثر هي شعر يَسْتَخْدِمُ النثر لغايات شعرية خالصة. صحيح ،لا ينبغي ان يكون الشكل ” هو جوهر” المسألة بل المطلوب من الشاعران يقنع القارئ بجمالية ما يكتب فمحتوى “قصيدة النثر” يعكس ثقافة شعرية واسعة وافكار فلسفية بعيدة المتناول، كما يعكس النص النثري ترسانةً ضخمة من اللغة وتناصاً انسانياً وحضارياً مع نصوص انسانية وحضارات كثيرة، فليس شاعر قصيدة النثر إذا ، مجرد شخص يخربش او شخص
العمل الأدبي الذي أتشرف بقراءة تحليلية متواضعة لبواطنه هو عبارة عن قصيدة نثرية من النوع السياسي الاجتماعي تحت عنوان: ( امْرأةٌ حُبُّها يُنَوِّر الوَجْه).
لم أكن أعتزم الخوض في قراءة أشارك بها غيري لهذه القصيدة، إلا بعد أن تجاوز انفعالي بها طاقتي على الحمل، وشد انتباهي الألق الأدبي الذي غمر النص
القصيدة :
امْرأةٌ حُبُّها يُنَوِّر الوَجْه
هِـي..
وليمَةُ أشْعاري
وتسلّلتْ إلـَيّ
بيـن غيوم الانهار.
خَطْوُها مُتّزِنٌ
وَلا أدْري
عَلى أيِّ أرْضٍ
تَقَرُّ أوْ تَرْسو
بِأيِّ الْمَرافِئِ.
بَيْضاءُ مِنْ
غَيْرِ سوءٍ..
تَـحْتَلُّ الْـجِسْمَ
والرّوحَ مِثْلَما
أنا موقِنٌ اَلرّيحُ
تَعْزِفُ ألْحانَها
وبَيْضاءُ تَماماً.
امْرأة الْكَوْنِ
الْغائِبَةُ الْحاضِرَةُ
هذِهِ بالِغَةُ
السِّحْر كظلِّ
أشْجار الّليل.
امْرأَةٌ بورٌ أسْمَعُ
لها صُراخَ نشْوَةٍ
امْرأةٌ كأنّها ماءٌ
ولَها مذاقُ
جَميعِ الْخُمورِ.
حبُّها يُنَوِّرُ الوجْه
هِيَ الّتي رَأَيْتُ
في المدينَةِ ذاتَ
عيدٍ وظَنَنْتُ
أنَها لي وحْدي
قَبْلَ أنْ تَخْتَفِيَ!
وأنا مَعَ هذهِ
الفاتِكَةِ التّائِهَةِ
أشْتَهي الْمَوْتَ
وأُحِبُّ مَعَها
جَميعَ الْكَبائِرِ.
فَهلْ ثَمّ سِواها؟
رائِعٌ مَعَها النّهْبُ.
هِيَ فـِي ذُرْوَةِ
السُّكْرِ وأثْناءَ
الصّلاةِ رُبـّما
تُحَرِّضُني على
الْفُجورِ البيض.
هِيَ الشَّقاءُ
فـِي الحقولِ
وفـِي الْمُدُنِ
كُلُّ هُـمومِها
الذّهبُ..
وأحْلامُ الليل
وأنا أتَعَذّبُ.
وكَوْنـُها كغانِيّةٍ
وإرْهابِيّةٍ تُحَرِّضُ
جوعِيَ بِحِشْمَةٍ
وَحُبٍّ إِلهِيٍّ إلـَى
أجْسادِ النِّساءِ.
كُلُّ جمالِها..
بِدايَةُ الشِّعرِ.
كُلُّ عُشاقِها
يجدِّفون صوْبَ
نهارٍ آخَرَ وهِي
تنْشُرث الأشْرِعة.
وما زمانُها إلاّ
غُرْبَةٌ وبُراح..
أنا غائِبٌ عَني
في حواريها
وفي الجَهْلِ
مِنْها منْسِيّاً.
فـي النّهارِ
أحْلُمُ أنـِّيَ
أمتَطي عُرْيَها
كما نجْمَةٍ..
وأنّها شِفاءٌ لي
وَإلى مَكانٍ
آخَرَ مِنْها أنْظُرُ.
وفي الّليْلِ ..
كأنّما الحُبَّ الذي
بيْننا خطفتْهُ
رِياحٌ ذاهِبة.
وبَقيتُ..
وحْدي مِثْلَ
غَريبٍ أو مجنونٍ
يحرثُ البحْر.

***
إن النص الذي بين أيدينا للشاعر المغربي محمد الزهراوي أبو نوفل . هو نصٌ شعري من ضرب القصيدة النثرية، قرأتُه عدة مرات فأحسستُ أنه نصٌ مكتمل الولادة، طبيعيُ الإرادة، جميل الإبداع، معبر عن ثقافة الشاعر ومعرفته الواسعة.
أن وصف المرأة في الشعر العربي عادة إلا في استثناأت نادرة، يرتكز على وصف الجسد الجميل للمرأة، فيسهب في رسْم أعضائِها رسْماً تجسيديّاً، وابراز مفاتنها {من الذراعين والساقين والثديَيْن إلى النَّحر والكشح والعجيزة والشَّعْرَ والجَيد والعين…} والنص الذي بين أيدينا خال من هذه الصفات هل هو التخلص من العاطفة أو الهروب من الواقع والخروج على العرف ؟
فعلا لقد جعل الشاعر المرأة ثوبا لقصيدته لأن المرأة رمز الحياة ، لكن دون وصف المفاتن، والجواب على السؤال هو أن لا خروج عن العرف ولا إقصاء للعاطفة، إنما المرأة هاهنا رمز لشيء معنوي غير الجسد ما تطلب التركيز عن أوصاف المحبوب و أوضاعه، والآمال الدائرة حوله كما هي وبتعابير مناسبة.
إن النص كما نرى يطرح بطلاوة ساحرة التأمل عن كثب، للواقع المعبر على الذائقة الإنسانية والعربية منها على الخصوص، في احتفاء أنيق بأنوثة امرأة، في اسلوب خالي ﻤﻥ ﺍﻻﺒﺘﺫﺍل ﻭالتغزل المصطنع .
إقرأ معي : { امْرأةٌ حُبُّها يُنَوِّر الوَجْه ،هِـي..وليمَةُ أشْعاري وتسلّلتْ إلـَيّ بيــن غيوم الانهار. خَطْوُها مُتّزِنٌ وَلا أدْري عَلى أيِّ أرْضٍ تَقَرُّ أوْ تَرْسو}.هذا المقطع الرائع يؤكد على أن من حبها يشرف وجه صاحبه هي الحرية .
ثم اقرأ معي باقي آلمقاطع :
ء تَعْزِفُ ألْحانَها وبَيْضاءُ تَماماً. امْرأة الْكَوْنِ الْغائِبَةُ الْحاضِرَةُ هذِهِ بالِغَةُ السِّحْر كضِلِّ أشْجار الّليل. امْرأَةٌ بورٌ أسْمَعُ لهل صُراخَ نشْوَةٍ امْرأةٌ كأنّها ماءٌ ولَها مذاقُ جَميعِ الْخُمورِ
ء هِيَ الّتي رَأَيْتُ فـي المدينَةِ ذاتَ عيدٍ وظَنَنْتُ أنَها لـِيَ وحْدي قَبْلَ أنْ تَخْتَفِيَ! وأنا مَعَ هذهِ الفاتِكَةِ التّائِهَةِ أشْتَهي الْمَوْتَ.
ء هِيَ فـِي ذُرْوَةِ السُّكْرِ وأثْناءَ الصّلاةِ رُبـّما حَرِّضُنـي علــى الْفُجورِ البيض.
ء وكَوْنـُها كغانِيّةٍ وإرْهابِيّةٍ تُحَرِّضُ جوعِيَ بِحِشْمَةٍ وَحُبٍّ إِلهِيٍّ إلـَى أجْسادِ النِّساءِ. كُلُّ جـمالِـها.. بِدايَةُ الشِّعرِ. كُلُّ عُشاقِها يـُجذِّفون صوْبَ نـهارٍ آخَرَ وهِي تنْشُرث الأشْرِعة.
ء وما زمانُها إلاّ غُرْبَةٌ وبُراح.. أنا غائِبٌ عَنـي فـي حَوَارِيها وفـي الجَهْلِ مِنْها منْسِيّاً. فـي النّهارِ أحْلُمُ أنـِّيَ أمتَطي عُرْيَها كمــا نجْمَةٍ.
القصيدة كما نرى مقسمة الى مقاطع مكثفة بعناية توضح حب الشاعر وعاطفة الجياشة ومن خلاله حب الانسان ورغبته في التحرر والانعتاق من القيود
فالمرأة هنا لا حُورِيًة هي بل حٌرِّيَة،:{حرية الوجود ،حرية الفكر، حرية الحركة حرية ،حرية التعامل، حرية المعتقد، حرية التعبير …} وما الى ذلك من الحريات الفردية والجماعية التي تعزز حرية الوطن.
ولاشك أن الحرية التي نريدها هي الحرية التي نحتاج اليها… ونؤمن بأنها هي جوهر تطور الأشياء وتقدمها وارتقائها واشراقها، إنها تعني الحركة باتجاه الأمام ،وما هي في حقيقتها إلا انتصار لمتطلبات العصر والمعاصرة على الوهم والحلم القاتلين .. انها القدرة على اقصاء منظومة المظالم ،والابتعاد عن ساحات الجهل، وغياهب التخلف ،وتحصل بالفعل المقنع لا بالعنف المدمر
” بَيْضاءُ مِنْ غَيْرِ سوءٍ.. تَـحْتَلُّ الْـجِسْمَ والرّوحَ مِثْلَما أنا موقِنٌ اَلرّيح تَعْزِفُ ألْحانَها وبَيْضاءُ تَماماً. ”
فالخيار الأمثل أمام ما يشهد العصر من التمايز والاختلافات المُربكة حول مفهوم الحرية، حسب اعتقادنا ،يكون في رفع سقف مفهوم الحرية أكثر، رفعه إلى حدٍ يجعله أعلى من فهم وتناول من يرغب في تفصيله على قده .
ولا شك أن مجتمعاتنا العربية الاسلامية ظلت تحكمها سياسات ثابتة بذرائع متجددة وضبابية كاتمة، ما أبقاها مسكونا بالمخاوف، تهاب الخوض الصريح في قضايا الحرية التي ظلت شعارا بلا وجود، حاضرة في خيالاتنا غائبة في واقعنا مع الاسف،
“امْرأة الْكَوْنِ الْغائِبَةُ الْحاضِرَة هذِهِ بالِغَةُ السِّحْر كضلِّ أشْجار الّليل.” ؟؟ لكن مفهوم الحرية ولو بالحدّ الأدنى حسب اعتقادنا كفيل بخلق مواقف لدى الأشخاص الذين ظلوا يلهجون بالحرية ويخشون طرق بابها، خصوصا وان مجتمعنا العربي لم يعد اليوم يواجه فقراً في تدوين و توثيق ما يحوم حوله من احداث و تصنيفها في خانة مفاهيمه الجديدة، و يستحث ذاته لإنتاج ما يحقق تطلعاته.
كنت هنا أمام قصيدة من عيون الشعر تستحق قامة أدبية عالية توليها قراءة أكثر عمقا بل وتستحق قراءة نقدية يتولاها ناقد ذا علم ودراية، يكون بحجم النص ليجيد خوض غمار بحره، ويسبر الجمال في أعماق معلقة تجيش بالمشاعر ليحدثنا عنما تألق شاعرنا برسمه، في قصيدة أحسن توظيف مفرداتها وأبدع في تراكيبها مقاطعها.
و للشاعر والقارئ معذرتنا إن قصرنا
______
*مدونة الأيام

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *