*د. خزعل الماجدي
يشير كمال أبو ديب مترجم كتاب الاستشراق لـ«إدوارد سعيد» في مقدمته التي وضعها للترجمة العربية إشارة سريعة لعلاقة هذا الكاتب بأعمال المفكر الفرنسي ميشيل فوكو (Michel Foucault)، باعتباره جزءاً من ثورة جديدة في الدراسات الإنسانية تضرب جذورها في الماركسية والثورة الألسنية والبنيوية، وما يكاد يكون مدرسة جديدة من – التاريخ الجديد – تنتسب بعمق إلى أعمال ميشيل فوكو بشكل خاص.(1)
ويؤكد مؤلف الكتاب ما ذهب إليه مترجمه حين يصرح في مقدمته بأنه استخدم (مفهوم ميشيل فوكو للإنشاء الكتابي، كما يصفه في كتابيه، علم آثار المعرفة وأدب وعاقب ذا فائدة هنا لتحديد هوية الشرق).(2)
وقد وجدنا أن هذه الإشارات العابرة ليست عابرة، كما أراد المترجم والمؤلف أن يصورها، بل هي في حقيقة الأمر روح الكتاب ومنهجه وهي سر عبقريته.. فقد تلقف إدوارد سعيد المنهج البنيوي الأبستمولوجي الذي شيده، ميشيل فوكو عبر أكثر من ربع قرن، متوغلاً من بنية الثقافة الغربية وإظهار مشكلاتها واختناقاتها، وطبقه على حقل لم يخطر على بال البنيويين الكبار، هو حقل الاستشراق، فقد مرت الثورة التي أحدثها المنهج البنيوي في حقل الدراسات الإنسانية على جميع مفردات هذا الحقل (الأنثربولوجيا، تأريخ المعرفة، علم النفس، الماركسية، الاقتصاد، الاجتماع، وقبل كل هذا اللغة)، ولم يخطر في بال أحد أن المنهج البنيوي، وتحديداً المنهج البنيوي الأبستمولوجي، الذي أقامه فوكو، يصلح تماماً لفحص المشهد الاستشراقي الذي يمتد لألف سنة تقريباً، وهكذا يكون إدوارد سعيد قد قام بجهد عظيم وجبار عندما أخذ من الغرب منهجاً جديداً حاكم به الغرب نفسه في علاقته مع الآخر، هكذا نرى تدفق النتائج المدهشة التي يزخر بها الكتاب. لقد أمسك إدوارد سعيد ما يشبه المصباح (الذي أخذه من فوكو) وكشف لنا مجاهيل العصاب والعنف والمركزية التي يحفل بها تاريخ الاستشراق، وقد استعمل هذا المصباح بمهارة فائقة لم يكن يصلح لها إلا إدوارد سعيد نفسه بحكم توغله في معرفة هذه المناهج الحديثة، بل وعده أحد أسمائها المهمة من جهة وكونه عربياً فلسطينياً وقع عليه مثل هذا الحيف الاستشراقي ورآه متجذراً في صلب الثقافة الغربية. لقد حاولنا في بحثنا هذا تتبع وإضاءة هذا الجانب، وهذا المنهج على قدر ما عرفناه عن فوكو من ناحية، وعن كتاب الاستشراق من ناحية أخرى، وسيكون من الصعب وصول هذا البحث لكماله ومثاليته بحكم تشعب وتغلغل المنهج في المادة البحثية، ولكن إثباتها وتوضيحها كانا من أهم غايات هذا البحث متجنبين التأثيرات الأخرى على مؤلف هذا الكتاب ونقده بصورة شاملة، كما أننا نرجو أن لا يتبادر إلى الذهن أن في بحثنا هذا ما ينقصه من جهد مؤلف كتاب الاستشراق، بل بالعكس، فنحن نرى إن الاختيار الذكي للمنهج والموسوعية الكبيرة للكتاب والأداء اللغوي والتعبيري العالي لنسيج أفكار الكتاب، والصدمة التي أحدثها الكتاب للمستشرقين أولاً، ولعامة القراء الغربيين والشرقيين ثانياً، هي صلب جهد وعبقرية إدوارد سعيد.
منهج إدوارد سعيد:
إن اعتبار حقل الاستشراق واحداً من العلوم الإنسانية التي أنتجها الغرب هو الذي مكن سعيد من تعيين المكان الذي سيعمل فيه، مثل محقق شرطة يستطيع أن يستجوب تاريخ هذا الحقل ويستنطقه ويُظِهر جرائمه ومحاولات تخفيه وسلاح جرائمه والطريقة التي ارتكبت بها الجرائم. وكان يحتاج إلى منهج جديد نشط يلاحق به هذا التاريخ ويعريه، وهكذا وجد سعيد ضالته في منهج فوكو، لأنه انتبه إلى إن هذا المنهج كشف تعسف الغرب إزاء نفسه فَلِم لا يستطيع كشف هذا التعسف تجاه الآخر. يتمسك إدوارد سعيد بمنهج واضح وثابت في البحث عن قوى ومنظومات الاستشراق عبر مسرد تاريخي/ نقدي واسع، ويجهد نفسه كثيراً في اشتقاق الآليات أو الكيفيات التي كان الاستشراق وما زال يعمل بها باعتباره صيغة العلاقة التي رسمها الغرب مع الشرق، وينجح سعيد في رصف الأمثلة واشتقاق قوانين هذه الآليات.. ويبدو لنا الاستشراق في نهاية كتابه أمراً مفزعاً حقاً.. وأول من سيفزع منه هو المستشرق أو الباحث الغربي، الذي سيرى بأنه قد مارس بوعي أو بلا وعي قسراً تعسفياً نحو الشرق كان ينبعث دائماً من الشعور الباطني بالتفوق والسيادة، بل التعصب الغربي نحو الشرق، ويتلخص منهج سعيد بالكلمات الثلاث التي وضعها تحت عنوان الكتاب الرئيسي، وهي (المعرفة. السلطة. الإنشاء)، وهذه مفردات فوكوية اعتاد ميشيل فوكو استعمالها في منهج بحثه البنيوي في تاريخ المعرفة.
يرى إدوارد سعيد أن الغرب حدد الشرق موضعاً للدراسة، أي أنه صنعه في (نص)، وهذا يعني معرفته، ثم تحويل هذا النص إلى خطاب (إنشاء)، حيث تتبنى المؤسسة النص ويأخذ طابع الإجماع صفته بحيث يكون الخطاب بديلاً عن الواقع الذي يعاينه، وذلك عن طريق دمج هذه النصوص بالخبرة الواقعية، وحصر هذا الواقع في خطاب (إنشاء)، وهذا يعني أن الشرق تحول إلى عينة.. يمكن تشكيلها وفق عدة خطابات (إنشاءات)، وبذلك سيتم توصيفه وتشخيصه، وبالتالي إعطاءه ماهية غريبة ثم السيطرة عليه وهضمه وتمثله وإفراغ محتواه في الفم الغربي. وبذلك سيكتسب الغرب مزيداً من القوة ووضوح الهوية بوضع نفسه موضع التضاد مع الشرق (باعتباره ذاتاً بديلة أو حتى سرية تحت أرضية) كما يقول إدوارد سعيد. الاستشراق إذن معرفة بالشرق تحولت إلى سلطة لكي يصبح الشرقي أكثر شرقية، ولكي يصبح الغربي أكثر غربية، ويرى سعيد بأن الاستشراق جعل الشرق مسرحاً غريباً بمعنى وضع دراما شاملة يكتبها الغرب عن الشرق، ثم يجعل الشرق يمثلها فإن عصى فيجبره بالقوة والثمن أن يستمتع الغرب برؤية مسرحيته تُمثَّل. يقول إدوارد سعيد: (إن الشرق الذي تمت دراسته كان، بشكل عام، كوناً نصياً، فقد جاء وقع الشرق عبر الكتب والمخطوطات لا عبر مصنعات محاكية مثل النحت والخزفيات، كما كان انطباع اليونان عن عصر النهضة).(3) وهذا (الشرق النصي) يتحول فيما بعد بوساطة (المعرفة الخابرة) إلى (إنشاءات أو خطابات) متعددة عرقية، فقه لغوية، دينية، فلسفية، وجميعها تنطلق من التعامل وفق المركز والمحيط أو المتفوق والمتدني. ومن هنا بالضبط يبدأ العنف الغربي، كما يرى فوكو (إن الخطاب هو العنف الذي نمارسه على الأشياء)، من اكتمال معرفته بالشرق وعدم فهم أبناء الشرق لأنفسهم ولهذه المعرفة. هذه المفارقة تولد إحساساً بالقوة، ثم بالسلطة لدى الغربي وتجعله متنفذاً. يقول سعيد: (إن الاستشراق يغدو ممارسة لقوة ذات اتجاهات ثلاثة، على الشرق، على المستشرق، وعلى المستهلك الغربي للاستشراق).(4) وواضح لنا أن الاتجاه الأول للقوة نحو الشرق هو العنف والاتجاه الثاني نحو المستهلك الغربي للاستشراق هو تهيئته بالقوة لحكم الشرق والسيطرة عليه، وهذان الاتجاهان هما وجها السلطة الإمبراطورية الغاشمة حيث تمتد يدها الأولى إلى الخارج والثانية إلى الداخل، أما اتجاه القوة الثاني المركزي فهو المعرفة، معرفة المستشرق وفكه لألغاز هذه الشاسعة المخيضة (المشرق) التي يصبح المستشرق فيها (بطلاً) لأنه اجتاز ودجن غرائبها وحيواناتها. وهكذا تنتج المعرفة سلطة الإذلال للشرق وسلطة التفوق للغرب. والمعرفة هنا غاشمة مدمرة.. يقودها العنف لتدمير الشرق والغرب معاً في آخر الشوط لأنها ضد التوجه الإنساني الحقيقي.
ويكشف سعيد عبر أمثلة تمسخ أغلب أعلام المستشرقين الغربيين عبر نصوصهم عن هذه القضية بدءاً من (دربيلو) في القرن السابع عشر وحتى السير (توماس أرنولد) في النصف الثاني من القرن العشرين، وينتج خلال ذلك تطور آلية (المعرفة/ السلطة) من أشكالها البدائية البسيطة حتى تحويلها إلى أشكال استشراقية محكمة ذات طابع نظري وأشكال استعمارية غازية ذات طابع تطبيقي، وكأنه يقول إن الاستعمار هو الشكل العملي للاستشراق. وبذلك يوقع إدوارد سعيد جميع المستشرقين في الفخ. ويكشف لهم (حتى الموضوعي منهم مثل هاملتون جب وماسينيون) بأنهم جزء من نظام معرفي/ سلطوي استخدمه الغرب عبر أجيال وقرون طويلة لإخضاع الشرق للغرب، وبذلك يفضح فوكو مركزية الغرب الشديدة وعقدته التفوقية. يبدو الشرق غامضاً سديمياً لوحده أو عندما نعتمد على ما يقدمه لنا بنفسه، ولكن الشرق يصبح مفهوماً ومعرفاً عندما يتناوله المستشرق، ولذلك (كان المستشرق الحديث، في نظر نفسه، بطلاً، ينقذ الشرق من مطاوي الإبهام، والاغتراب والغرابة، الذي كان هو نفسه يميزها تمييزاً سليماً وقد أعادت أبحاثه بناء لغات الشرق الضائعة وعاداته، بل وحتى عقلياته.(5) إن الشرق أخرس وأعمى لا نستطيع أن نفهم منه شيئاً.. إنه معوق.. لكن المستشرق وحده هو الذي يستنطق هذا الشرق ويقول لنا ماذا ينظر وكيف يستمع.. وليبقى الشرق على عوقه لينتج لهم (للغربيين) هذه المعجبات إذا كان المستشرق هو الذي يقوم بالتحدث نيابة عنه يقول لنا ما يجول بخاطره، وهكذا (يثقل الشرق بعقلانية المستشرق وتصبح مبادئه مبادئه، فمن كونه قصياً يغدو في المتناول، ومن كونه غير قادرُ على الوقوف بنفسه، يصير تعليمياً، نافعاً، ومن كونه ضائعاً، يوجد، حتى إذا كانت أجزاؤه المفقودة قد أسقطت من خلال هذه العملية).(6) لا يمكن للشرق أن يأتي كما هو للغرب، وأن يتلاحق مع الغرب باعتباره معرفة إنسانية أخرى.. كلا.. يجب أن (يطوع/ يمنتج/ يعاد تركيبه/ يُكيف/ يحور) حتى يكون مؤهلاً للدخول إلى الرواق العلمي الغربي، لقد استطاع إدوارد سعيد أن يحاكم الغرب وفق هذه الطريقة أو الآلية التي نجح في إثباتها بطريقة مذهلة.. ولذلك لا يمكننا أن نطالب إدوارد سعيد وهو يخوض في هذا المنهج الأبستمولوجي بتقييم الاستشراق معيارياً، وإظهار فضله أو ما حققه للشرق من مكاسب كما طالب بذلك برنارد لويس وأوليج جرابر(7) في ردّهما على إدوارد سعيد وكتابه لأن المؤلف كان بصدد تنفيذ منهجه حتى النهاية وكان هذا كتاباً علمياً وليس كتاباً معيارياً أو ذوقياً أو إنشائياً حتى يستغرق بسرد (فضاءل ورذائل) المستشرقين، بل كان يجب أن يبذل جهداً منهجياً قاسياً منضبطاً لكي يحكم على أداته البحثية ويظهر ضعف منطق برنارد لويس ولعدم فهمه لمنطق الكتاب المعرفي عندما يقول (ولا شك أنه كان بعض المستشرقين ممن خدموا موضوعياً أو ذاتياً السيطرة الإمبراطورية أو استفادوا منها.. لكن هذا ليس إلا عبثاً لا مكان له كتفسير للمشروع الاستشراقي ككل، وإذا كان البحث عن القوة من خلال المعرفة هو الواقع الوحيد، أو حتى الأكثر بروزاً، فلماذا بدأت دراسة اللغة العربية والإسلام في أوروبا قبل قرون من انسحاب العرب من أرض أوروبا الغربية والشرقية وشروع الأوربيون في هجومهم المضاد؟ ولماذا ازدهرت هذه الدراسات في دول أوروبية لم تحصل قط على نصيب في السيطرة على العالم العربي، ورغم ذلك قامت بإسهام يضارع مساهمة الإنجليز والفرنسيين، بل ويفوقه حسب إجماع معظم الباحثين؟ ولماذا بذل الباحثون الغربيون كل هذا الجهد لفتح مغاليق واكتشاف آثار حضارة الشرق الأوسط القديمة التي تعرضت منذ وقت طويل للنسيان في البلاد التي قامت بها؟(8). ونرى أن جواب هذا السؤال موجود في ثنايا كتاب الاستشراق ويتلخص في غنى وازدهار المركزية الغربية نفسها حين تمتص التراث الشرقي وتعيد بناءه وفق ما تراه، وقد يجيب قول كارل ياسبيرز على إدوارد سعيد حين يقول بـ(إن المصدر الوحيد للسلطة وجوهرها هو أننا دون أن تكون لنا غاية معينة قبل الشروع بأي عمل نشعر بأننا مركز الوجود، وبأننا مطمئنون في عالمنا، ومن هذا المركز وحده نحس بأننا موجهون في كل ما نشرع فيه في العالم، وبأن جميع الأهداف الخاصة التي لا تكون البتة غايات في نفسها تستمد اتجاهها منه).(9) يرى إدوارد سعيد أن الاستشراق كان يتطور ويغتني ويتحول من استشراق شعبي إلى استشراق علمي جامعي، ومن استشراق سردي إلى استشراق رؤيوي، وكان يتنازل عن طرائق بالية في كثير من الأحيان لكي يبدو مقنعاً مع الوقت، ولكي يزيد من إحكام هيمنته على الشرق حتى ليبدو لنا أن النهاية الرسمية للاستشراق في عام 1973 (أي بعد قرن كامل من البداية الرسمية. أول مؤتمر للاستشراق 1873) هي نوع من تجديد الحيوية ودخول الاستشراق في مسالك غير مباشرة.. وقد يكون كتاب الاستشراق نوعاً من الإشارة الحمراء بوجه الاستشراق إذ فضح بناه الموجهة ونوعاً من المعالجة النفسية له في الوقت نفسه، وقد يعيد الغرب النظر في الاستشراق وتحويله إلى مدارس بحوث ودراسات شرقية تعمل جهات إعلامية واستخباراتية وعسكرية على تنظيم مادتها وفق الموجهات التي تريدها لإدامة السيطرة على الشرق، وهكذا كان الاستشراق مولداً للسلطة على الشرق فيما مضى ومحافظاً عليها الآن وفي المستقبل.
مازوخية الغرب وساديته: