*جورج كدر-روتردام/هولندا
باحث إشكالي، أثارت أطروحاته التاريخية ردود فعل عاصفة في الأوساط الثقافية والفكرية، فهو كان من الباحثين الجدليين القلائل الذين رفضوا الرواية التوراتية التي كرّسها المستشرقون عن تاريخ فلسطين، وقدّم رواية مختلفة تلاقي اليوم الكثير من السجال بشأنها.
من عمله الضخم “فلسطين المتخيلة” الذي صدر في مجلدين عن دار الفكر بدمشق عام 2007، وحتى عمله الأضخم “إسرائيل المتخيلة” الذي بدأ مؤخرا بالصدور تباعا عن دار رياض نجيب الريس في بيروت في أربعة مجلدات؛ يزعزع المفكر العراقي فاضل الربيعي المرويات التاريخية المتعارف عليها حول مدينة القدس وفلسطين، مستندا في بحوثه إلى التوراة بنسختها العبرية لا العربية، ويحاول تعرية الأطروحات التي تعمل الحكومة الإسرائيلية على ترويجها حول “يهودية الدولة”، وإظهار زيفها.
الجزيرة نت التقت الربيعي في منزله بهولندا، وحاورته حول قراري منظمة اليونسكو الأخيرين حول مدينة القدس، اللذين أثارا الكثير من الجدل، إضافة إلى الحديث عن مشروعه المتعلق بتصحيح تاريخ فلسطين وإسرائيل، كما يسميه.
كيف تنظر إلى قرار اليونسكو بشأن القدس بوصفه صادرا عن أهم المنظمات الدولية؟
دون أدنى شك، يمكن اعتبار قرار اليونسكو انعطافة تاريخية في عمل هذه المنظمة الدولية؛ إذ لم يحدث في أي وقت سابق أن اتخذت المنظمة قرارا جريئا بهذا الحجم، بما يترتب عليه من احتمال أن تتسع دائرة الصدام مع إسرائيل، لكن هذا القرار من منظور تاريخي يتخذ أهمية خاصة، لأنه قرار يعيد صياغة “رد تاريخي” على منظومة كاملة من الأفكار الاستشراقية حول القدس.
وفي هذا السياق، سوف يتعين على كتاب تاريخ وعلماء آثار ومنقبين أن يعيدوا النظر في الرواية التاريخية عن العلاقة بين القدس وأورشليم، وسوف يتضح في ضوء هذا القرار أن المنظمة الدولية (اليونسكو) كانت شجاعة في الفصل بين “القدس” و”أورشليم” فإحداهما حقيقة، هي القدس، وأخرى لا وجود لها إلا في المخيال الاستشراقي، وهي أورشليم. وهذا هو مضمون القرار وجوهره؛ فهو ينفي أي ترابط تاريخي بين اليهود والقدس.
لكن القرار لم ينف ذلك، وما نفاه تحديدا يتعلق بالمسجد الأقصى ومحيطه؟
نعم، لكن القرار يتضمن في سياق الفقرة الخاصة بالمسجد الأقصى تأكيداً قاطعاً بعدم وجود أي رابط تاريخي بين اليهود وحائط البراق، الذي يسمى “حائط المبكى”، وحسب المعتقدات اليهودية فإن جبل الهيكل في هذا المكان، وهذا الحائط جزء من أسوار الهيكل، وهذا في حد ذاته نسف لأي ترابط زائف بين التاريخ اليهودي ومدينة القدس. والغريب أن حائط المبكى هذا لا وجود لأي إشارة إليه في التوراة، هناك فقط في سفر حزقيال إشارة إلى أن اليهود كانوا يبكون عند حائط الإله تموز.
ولكن السؤال المحرج والمثير الذي يتوجب طرحه بقوة هو: لماذا لم ينشر النص الحرفي للقرار وحيثياته حتى على موقع اليونيسكو؟ وعلى كل حال سواء نشر أم لم ينشر، فالقرار اتخذ ومرتين متتاليتين، وهذا يعني أمرين أساسيين:
الأول: أن التيار التوراتي في علم الآثار والدراسات التاريخية الذي كرّس أكذوبة أن القدس هي نفسها أورشليم سوف يصطدم بجدار صعب من الحقائق التي يصعب تخطيها، ومن بين هذه الحقائق أنه لا دلائل تاريخية تؤكد أن القدس هي ذاتها أورشليم، حتى من داخل النص التوراتي نفسه، لأن التوراة في النص العبري تتحدث عن مدينة دينية اسمها أورشليم، وعن مكان آخر بجغرافية أخرى اسمه جبل قدس، وهذا أمر يشبه تماما أن يصف أحد الجغرافيين مدينة مكة، وفي مكان آخر في وصفه يتحدث عن جبل أحد، وبكل تأكيد فجبل أحد ليس مكة، هذا هو الوضع عينه في التوراة، فهي تتحدث عن مدينة دينية وعن مكان آخر بجغرافية مختلفة، وتقول عنه إنه “جبل” وليس مدينة.
ومن الملفت للانتباه أن التيار التوراتي تجاهل بعناد وطوال مئتي عام، أن نصوص التوراة تتحدث بوضوح عن أن هيكل الرب بُني في الجبل، حتى أن الجماعات اليمينية المتطرفة في إسرائيل المؤمنة بحرفية ما ورد في التوراة شكّلت منظمة تعرف باسم “أمناء جبل الهيكل”، لأنها تؤمن بأن الجبل -كما ورد في التوراة- يضم هيكل الرب، لكن التيار التوراتي استمر في عناده العجيب، متجاهلاً كل هذه الحقائق، وهو الذي عمل على تبرير الحفريات داخل المسجد الأقصى، بحجة البحث عن الهيكل، فإذا كان الهيكل في الجبل، فلماذا يحفرون تحت قبة الصخرة؟
أما الأمر الثاني: فإن هذا القرار سوف يفتح الباب على مصراعيه أمام دراسات تاريخية نقدية جديدة، تعيد النظر في كامل الرواية التوارتية؛ فجغرافية التوراة لا تنطبق على جغرافية فلسطين بأي صورة من الصور.
كنتَ من أوائل الباحثين الذي اجتهدوا في نقد الرواية التوراتية، وصدرت لك مجموعة أعمال، أحدها عنوانه “القدس ليست أورشليم”، فماذا أردت من وراء بحثك؟
دعني أولا أتحدث عن “القدس ليست أورشليم”؛ فهو يلخص أطروحتي النظرية في سائر مؤلفاتي في هذا الحقل، ما يقوله الكتاب هو التالي: إن الرواية الاستشراقية الغربية التي كرّست منظومة من الأفكار الزائفة والخاطئة عن تاريخ فلسطين، بلغت الآن الشوط الأخير من انهيارها، لأنها بدأت تتآكل وتتمزق، بفعل تناقضاتها الداخلية؛ فهي رواية تقوم على الشيء ونقيضه.
على سبيل المثال، عندما تتحدث كتب المؤرخين الاستشراقيين، وحتى طائفة كبيرة من علماء الآثار التوراتيين، عن خروج إبراهيم من أور الكسديم، وتعتبر هذه المدينة هي أور الكلدانيين، وأن إبراهيم خرج من بلاد ما بين النهرين إلى مصر ثم فلسطين، هذه الرواية تحمل في أحشائها تناقضاً غير قابل للحل، فخروج إبراهيم كما يؤرخ له بين 1900 و1800 قبل الميلاد، وفي هذا العصر لم يكن هناك شعب اسمه “شعب كلداني”، ولم تكن هناك مدينة كلدانية، لأن هذا الشعب سوف يظهر بعد ألف عام؛ فكيف يخرج إبراهيم في مدينة كلدانية لم يعرفها المؤرخون والآثاريون إلا بعد ألف عام؟
التناقض الثاني أن هذه الرواية اخترعت مملكة إمبراطورية هي الأكبر في تاريخ البشرية، لأنها تمتد من الفرات إلى النيل، ولكن التاريخ لا يعرف مثل هذه الإمبراطورية، ولا يوجد أي أثر يدل عليها، وإذا كانت تمتد من العراق إلى مصر، فأين ذهبت حضارة ما بين النهرين، وأين اختفت حضارة مصر؟ هذا تناقض لم تستطع الرواية التوراتية تقديم أي حل له.
التناقض الثالث غير القابل للحل أيضا، أن هذه الإمبراطورية المزعومة بنتها قبيلة صغيرة اسمها بنو إسرائيل، وهذا لا وجود له في التاريخ، لأن تاريخ البشرية لا يعرف قبيلة صغيرة افترست إمبراطوريتين عظيمتين في مصر وبلاد ما بين النهرين، بسهولة ودون قتال وحروب.
والآن التناقض الرابع الذي وقعت فيه هذه الرواية، ولم تتمكن من تقديم أي حل أو تفسير له، هو أنها رسخت الفكرة الزائفة القائلة إن القدس هي أورشليم، دون أن تقدم أي دليل لا من النص التوراتي ولا من الحفريات الأركيولوجية المستمرة منذ سبعين عاما حتى اليوم.
فالنص التوراتي لا يتضمن إشارة أو كلمة أو تلميحاً إلى أن القدس هي أورشليم، والحفريات التي قام بها علماء الآثار الإسرائيليون، وآخرهم إسرائيل فلنكشتاين، وهو رجل مختص في العصر البرونزي، أعلنوا نتائج أبحاثهم، وأكدوا أنه لا وجود لأي أثر عبري في فلسطين يدل على الرواية التوراتية، ولذلك آن الأوان أن تقوم الجامعات العربية بإعادة نظر جذري في المنهاج التعليمي الخاص بالتاريخ، وإلغاء كل المواد الاستشراقية الخاصة بالرواية التوراتية حول القدس وفلسطين.
صدر لك مؤخرا كتاب “بنو إسرائيل وموسى لم يخرجوا من مصر”، هل هو جزء من المشروع الذي تعمل عليه؟
صحيح، وهذا الكتاب هو الجزء الأول من عمل ضخم أنجزته، وسيصدر تباعا عن دار رياض نجيب الريس في بيروت، بعنوان “إسرائيل المتخيلة” في مجلدين، وكل مجلد يضم خمسة كتب، كما ستصدر بالتزامن مع الطبعة العربية طبعة باللغتين الإنجليزية والعبرية في هولندا.
في هذا المؤلف أقوم بإعادة بناء التاريخ الرسمي لمملكة إسرائيل القديمة، بهدف تقديم رواية دقيقة تفصل بين جغرافية التوراة وفلسطين، وتضع حدا للتلاعب بهذه الجغرافية، وفي قلب هذا العمل أفرد مكانة خاصة للفصل بين القدس وأورشليم، وهو كتاب ضمن المجلد بعنوان “اكتشاف أورشليم”، والذي سأقدم فيه كل الأدلة من النقوش المسندية والتاريخ اليمني القديم، ومن النص التوراتي باللغة العبرية بأنه لا صلة على الإطلاق، لا جغرافية ولا تاريخية، بين مدينة القدس وأورشليم.
أنت اليوم تركز على الجانب التاريخي من موضوع القدس، وهذا بالضبط ما أثار إسرائيل وحلفاءها من قرار اليونسكو، حيث عدّوه قراراً يمس الوجود التاريخي لليهود في فلسطين، في حين أن بعض الإعلام العربي يحول القرار إلى مجرد قرار سياسي لا أهمية له، كيف ذلك؟