فيلم “نهاية العالم فقط”: عودة رجل “ميت”

*محمد الخضيري

إنه غريب عنهم بقدر انتمائه إليهم منذ طفولته الأولى. وإن الحياةَ “الأم”، انقطع الحبل السري معها إلى غير رجعة.

لا توجد عودة كاملة للّذي رحل. الذي ترك حياته السابقة وأقاربه، وفرّ بعيداً إلى مكان آخر.  حينما يعود يكون مثقلا بذاكرته، وبغير قليل من الندم، ويظل على مسافة مع الأماكن والأشياء، وبخاصة مع الأشخاص دون هدنة ممكنة. لربما، هو هذا حال بطل فيلم “نهاية العالم فقط” للكندي كزافيي دولان.

فيلم المخرج الشاب، الذي نحت اسمه في الصخر، بباقة من الأفلام الإشكالية لا يخرج عن أسلوبيته وعوالمه السردية، وكتابته البصرية. ويؤكد مرة أخرى، عبر هذا الإنتاج الفرنسي الكندي، عن قدرة مذهلة على تَمَثُّل الأسرة، وعوالمها، ودراميتها التي تنزلق كثيرا نحو  السخرية وهي في أقصى حالات القسوة.

إنها بهارات خاصة بالفنان، لكنه في كل فيلم يجدد مادته. هنا في “نهاية العالم فقط“، نرى الكاتب المسرحي الشاب لويس، يعود إلى بلدته الصغيرة ليخبر أمه وأخته وأخاه بأنه مصاب بمرض عضال وسيرحل. هذا النبأ الذي يُعلَنُ عنه في بداية الفيلم، يصير العقدة الأساسية التي ينتظر المشاهد أن تشكل اللحظة الحاسمة في الفيلم وتقلب نظامه الحكائي وسيكولوجية شخصياته. لكن ما يحدث، هو أن الطريق إلى الخبر الفادح هي الأهم. أنه ليس مهماً إلى هذا الحد. نكتشف شيئا فشيئا العائلة وشخصياتها. الأم المهووسة بذكريات زواجها وشبه المجنونة. الأخت، التي كبرت دون حضور لأخيها تعيش هذا البُعد بشكل إشكالي وتتمرد على العائلة، فالأخ، جُرْحٌ في قلبها. أما الأخ الأكبر العامل فصامت وغاضب حد العنف اللفظي. في حين تصير زوجته (تؤدي دورها ببراعة الممثلة الفرنسية ماريون كوتيار)، تصير شاهدا على سوء الفهم العميق الذي يقع بين الأخ وإخوته.

إنها الشاهدة على التحلل البطيء للجسد واليأس الذي يطاوله في صمت، دون أن يجرؤ على إخبار إخوته به.

وداع الأم

كيف يمكن أن يحدث غير هذا الجفاء والمسافة بين البطل والعائلة. فالكاتب المسرحي هرب إلى العاصمة منذ 12 سنة، وانقطعت علاقته تماما بالأسرة. ما عدا من خلال بطاقات المعايدة التي يرسلها لهم في كل المناسبات. بطاقات بريدية تقريرية، كأنها لإخفاء هذا الشرخ الكبير، لكن أفراد الأسرة يحفظونها كتمائم.

نفهم لاحقاً أن المسرحي مثليّ، وأنه فر من مدينته لكي يعيش حياته كما يشاء. وبينما يعتقد هؤلاء أنه يحتقرهم ويعتبر نفسه متعلماً وأفضل منهم، يُقدِّمُ بـ”تقشف” كبير إشارات، عبر مشاهد تستعيد طفولته ومراهقته، تظهر أن هناك سوء فهم، منذ البداية. إنه غريب عنهم بقدر انتمائه إليهم منذ طفولته الأولى. وأن الحياةَ “الأم”،  انقطع الحبل السري معها إلى غير رجعة.

لا توجد المثلية في صلب الفيلم. ليس مثل الفيلم السابق لدولان “توم في المزرعة” 2013، الذي يحكي قصة شاب مثليّ يحضر جنازة عشيقه في الكيبيك، ويخفي عن أمه علاقتها بسبب تهديدات أخ الميت، وهو الفيلم الذي يجعل من المثلية الجزء الأساسي من حبكته. في “نهاية العالم فقط” يركز المخرج، على هذه العلاقة الباردة التي تفرق بين البطل وأفراد عائلته أكثر مما تجمعه بهم.
وبينما تحاول الأم (ناتالي باي) أن تضع أسسا للسلام بين الأخ وإخوته، في “نهاية العالم فقط” تنتصب عوائق خفية. وكل واحد من أفراد الأسرة يلجأ إلى سلوكات مدمرة، للتخفيف عن وحدته، وغضبه. فتلجأ أخته إلى تدخين الحشيش، في حين يصير أخوه الأكبر متوتراً وعنيفاً.

لا يقدم دولان أي علامات تشير إلى المكان الذي تدور فيه وقائع هذه القصة التي تحدث في “فضاء مغلق”. هو البيت العائلي فقط، وكأن المخرج يرغب في أن يخبرنا بأن القصة قد تقع في كل مكان ومع أي أحد. إننا هنا مجدداً مع شكل مسرحي أصيل (كما في “توم في المزرعة” الذي يقتبس عملاً مسرحياً)  يجعل من الأمكنة المغلقة مُحَرِّكا لكتابة سينمائية تترك للشخصيات أن تفصح عن نفسها كما تشاء، ولا تقودها في ردود أفعالها إلا سيكولوجياها، لا ضغط المحيط.

036c0b01-aaa1-4899-9d03-b6086651734b

 

روح قتالية

 ولو أن بعض الإشارات من قبيل طاقم الممثلين ومكان التصوير تدل على أن القصة تحدث في فرنسا، إلا أن لا واحدة من الشخصيات أو الصور التي تمر عبر الفيلم تقولها صراحة. كل ما نعرفه هو أن الأسرة من أصول متواضعة وأنها تعيش في بلدة منعزلة. عائلة من العمال، تقاوم للبقاء فقط. وتتضامن في ما بينها، ولو أن كل واحد منها تلقى الكثير من الضربات في مشواره. عائلة من الملاكمين الذين يخسرون بشرف. لكن هذه الروح القتالية هي التي تجعل لسانهم ينطق بالمرارة، فيتشاجرون باستمرار، لأتفه سبب. تبدو العلاقة أكثر توتراً بين الأخوين. الرجلان ينتميان إلى عالمين مختلفين. فإن كان أحدهما يعيش في العاصمة وتكتب الجرائد عن موهبته، يحس الآخر (أدّاه الممثل الفرنسي فانسون كاسيل) بنفسه عالقاً في البلدة، وفي وضعه كعامل عادي، لا يتحدث “مثل الكتب”. خلف هذا الصراع، تتبدد العدائية، ليظهر العامل العنيف هشاً مثل الآخرين. يبدو كأنه يغرق، من أجل سعادة الآخرين، وهو يجبر أخاه على إخفاء السر إلى آخر لحظة. يبدو شهيداً آخر لحياة بائسة تفرض نفسها عليهم بلا شفقة.

بين النور والعتمة

يقع الجزء الأكبر من الفيلم داخل المنزل. داخل هذا الفضاء تظهر مجدداً قدرة  كزافيي دولان على الكتابة البصرية، التي تطبع أعماله. الإضاءة خفيفة للغاية، وتجعلنا نقترب من السر دون أن نكتشفه حقيقة. أحيانا كثيرة لا تظهر الوجوه كاملة. إنها مجتزأة. كل شيء بلون وضوء “قديمين”. كأنها عودة إلى عالم قديم، حيث كل شيء متعب ويتداعى على مهل. إنه تداع  يصل إلى الشخصيات. يمسك  كزافيي دولان بها من خلال اللقطات المكبرة Close-up وفي كل مشهد يوجد البطل لويس، أو إحدى الشخصيات، وهي تعطي ظهرها للكاميرا. نحن في حواريات، تلتقط زواية الرؤية، وبعضاً من وجهة نظر الشخصيات. نخترق جسدها، ونعبر إلى هذا الآخر الذي يقف قبالتها. الكاميرا المحمولة، وتقنيات التلوين، التي تذكِّر أحياناً، بالفيديو كليب وبالإعلانات التلفزيونية، تجعل الشخصيات مُفَارِقة. إنها سر لا يمكن العبور إليه. وبقدر ما تنتمي إلى “الكيتش” في بعض الأحيان، بملابسها وتسريحات شعرها وطريقتها في الحديث، إلا أنها شخصيات تقدم عبر تعبيرية مدهشة فكرة عن هذا القاسم المشترك الذي بين كل العائلات في العالم. إنها مجبولة بالندم على ما لن تعيشه. وكأنها صدى لما دونه جون بول سارتر في  كتابه “الكلمات”: “كنت صبياً. ذلك الوحش الذي يصنعه البالغون من ندمهم”.  لويس بطل الفيلم، مصنوع من أخطاء وندم العائلة. ينظر إليهم في صمت. بالقليل من الكلمات. يراقب كأنه في مختبر للكائنات. يسأل، يبتسم، وحتى حين ينزعج، لا يعبر عن انزعاجه. ما عدا في مرات قليلة وبشكل محتشم. دور يليق بوجه النجم الفرنسي غاسبار أوليال الذي صار من أبرز الممثلين في المشهد السينمائي الفرنسي، منذ اكتشافه جماهيرياً عبر فيلم سان لوران، الذي حصل بفضله على جائزة سيزار عن أحسن دور رجالي. فبملامحه الحزينة، المترددة، أدى دور الكاتب الذي على شفير نهاية العالم، عالمه، ببراعة. برودة وجهه المنهك، كأنها تدل على أنه خطا خطوة إلى العالم الآخر. ابتسامته المقتضبة، كأنها تحية من شبح إلى الأحياء. تجري أحداث الفيلم في يوم. يوم واحد فقط يقال فيه كل شيء، بينما يظل السرّ عالقاً على شفتي الرجل. إلى حين.
_____
*ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *