مزحة نوبل، أم جدّية رهان ثقافي؟

*عادل آيت آزكاغ

بصرف النظر عن عمره المديد، وتاريخه الحافل، وتأثيره القديم على أجيال متعاقبة، وكونه أيقونة الغناء الأميركي ذات البصمات الإبداعية الابتكارية المجددة في الموسيقى والكتابة الشعرية الغنائية، التي تمس تجربتها أبعادا إنسانية وجمالية، قيل عنها فريدة وعميقة.. ومع كامل التقدير لإبداعات ديلان وفن بوب المحترم، إلا أن تمثيليته الدالة عليه، ورغبة الاعتراف والاحتفاء به، هما في مكان آخر خارج النوع الأدبي الشعري الصرف، كان أجدر بنوبل أن تستحدثه، ويكون خاصا بالفن الذي تعد الموسيقى واحدة من أشكاله المختلفة وألوانه العديدة؛ لكنه الآن شاغر في أجندتها، ووعت فعلا بفراغه، لهذا حاولت أن تملأه اليوم بأي طريقة، فجاء ديلان الذي رأته سبيلا سالكا وصالحا لتغطيته، كأنها تستدرك به شيئا محجوبا في كيانها، وتريد ردّ الاعتبار إليه على طريقتها، إلا أنه في واقع الأمر لم يملأ سوى مكان غيره، ولم يحمل اسمه لنوبل شيئا ما عدا إشارته على المكان ذاته، الخاوي في عرشها الذي أصبح الآن محطّ سؤال ومراجعة وإعادة نظر أكثر من أي وقت مضى.

على هذا النحو يلوح مَظْهرها اليوم، رغم ارثها الثقيل، ورغم بريقها وجاذبيتها واستثارتها وأهميتها وشعبيتها وتاريخها العريق، مع ما تخلقه من ضجيج إعلامي وملاحقات ثقافية عالمية، وما توقظه من قلق الانتظارات وتثيره من مشاعر مختلطة تبرع في صناعتها في نفوس المتابعين لها، والطامحين الحالمين بها، مِمّن شدّوا أعينهم إليها وعلّقوا آمالهم عليها في كل دورة.. رغم كل شيء يبدو لك مهما ممّا يخدمها ويلعب في صالحها، إلا أن جائزة نوبل مع كامل الاحترام والأسف، انحرفت عن مسارها الحقيقي وفقدت كل معنى يليق بجوهرها، بمثل ما أفرغت من كل قيمة قمينة بروح صاحبها ورسالته. لقد خذلت نوبل هذه المرة نوبل نفسه ناثر بذرتها وساقيها.

أما الأدب فقد كان دائما أكبر منها، كما كان الفكر أكبر من أن تستوعبه؛ لهذا كان الأديب والفيلسوف الفرنسي الوجودي، جان بول سارتر، محقا حين رفضها، ربما ليبرهن على أنه أكثر تأثيرا من أن تحتويه جائزة غير جدية بما فيه الكفاية، ولو قبلها فهو من سيخدمها وليس هي.. وأيا كانت أسبابه، فإن عيبا واحدا هو ما يجمعها، هذا العيب هو الذي كان سارتر على دراية ووعي به، عندما تجسّد عنده على منوالٍ معينٍ أدركه مبكرا زمنئذ، وبعض معالمه لا تزال تبزغ من تلقاء ذاتها في وقتنا الذي يضطرب فيه الشارع الثقافي العالمي، الأعمى تماما عمّا بنى عليه سارتر موقفه منها وتبثه لديه، هو بلا ريب ما بدا في نظره عبثا ما، يجول خلف صرامتها الظاهرة التي مثلت مزحة فوز ديلان وجها غريبا من أحد وجوهه العجيبة العتيقة..!

هكذا بالتالي، شكل إعلان فوز بوب ديلان، كشفاً عن مزحة القرن الواحد والعشرين لأعرق مؤسسة عالمية مانحة لأرفع جائزة أدبية، أتت هذه السنة مفاجأة صاعقة خيّبت آمال جمهور عريض، وضعته في حيص- بيص، وشك مريب حول مدى مصداقيتها وأحقية ديلان وأهليته الأدبية الفعلية للظفر بها، رغم أنه ليس منتسباً لمدرسة الممارسين للعبة الأدبية من بابها المهني الاحترافي، الشيء الذي استبعد ما آل إليه مصير الجائزة الذي جاء خارج كل توقع طبعاً. كما كان الفنان بوب نفسه خارج كل منافسة محتملة لأساطين الكتابة الشعرية والأدبية الجادين، الذين كرسوا تاريخهم الإبداعي لخدمة الأدب بصرامة، وشقّ فيافيه فناً وكتابةً بمهارة عالية.. كل هذا وذاك، يدعونا إلى طرح تساؤلات كالآتي:

إلى أي مدى تستجيب إبداعات الظافر بها لسؤال الأدب الرّفيع؟ أم أن نوبل بهذا الاختيار إنما تعبث فقط؟ أم ترى أنها تنتصر إلى ما يطلق عليه في تقاليد المدونة النقدية الحديثة والنظرية الأدبية المعاصرة، بـ”الآداب الملحقة”( Paralittératures Les)؟ التي طاولها التهميش كما لحق أصحابها، من الاهتمام النقدي الرّسمي الأكاديمي كما لو كانت مختلف مؤلفاتهم من أشعار وخطابات أدبية مدونة “غير نَصِّيَّة non- textes”، ما دام أصحابها يأتون إلى الممارسة الأدبية ويقتحمون ميادينها، ليس من الباب المؤدي إليه، ولكن من نافذته المطلة على الشارع، راغبة ربما في أن تنتقل بهذه الآداب الملحقة، أو المُهَمّشة، إلى محكّ رهانات النقد الثقافي وآفاقه التي فتح مَبْحثها المجال، ليتسع ويشمل جميع الإنتاجات الفنية والأدبية الشفوية – المكتوبة التي كانت مستبعدة لأسباب أيديولوجية، لتصبح من ثَمَّ، مواضيع صالحة لاشتغال علمي وبحثي يستحق الدراسة والمتابعة الأكاديميتين.

فهل يعد إذن، منح الجائزة لديلان، سعياً من لجنة تحكيم فرع آداب نوبل إلى نقض مركزية الأنواع الأدبية والأسماء المكرسة، لتثبت على أنها أكثر جدية مما نعتقد ونتصور؟ أم أن الأمر كله مجرد مزحة يراهن فيها رعاة نوبل على خرق المألوف والعادة، لصنع الحدث وخلق الاستثناء الثقافي الجاذب للأنظار، لكي تتخذه مِحْرَارًا ترفع به من درجات إثارة الجائزة، لتنفتح على إمكانات أخرى للتجريب، تقيس من خلالها حرارتها ومدى فعالياتها وكيف يمكن لها أن تزيد من قدرتها ليمتدّ تأثيرها بانوراميا، ليغدو أعمّ وأشمل على أكثر من صعيد، وفي نطاق شعبي واسع؟
___
*ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *