دين الحبّ

خاص- ثقافات

يحيى القيسي*

 

كلّما قرأ الناس هذا التعبير المختصر، الدقيق والعميق، أو سمعوا به، تذكروا على الفور قصيدة شيخ المتصوفة الأكبر ابن عربي التي ربما تكون أوّل من ذكره صراحة، فيما تبنّاه الرجل فعلاً عبر مسيرته، ورسّخ له في كتاباته، فالدين في حقيقته الإيمان بفكرة ما أو حتى نقيضها، وقد أشار القرآن بوضوح إلى ذلك الدين المضاد ” دين الكفر ” حينما ذكر الكافرين وأنّ لهم دينهم ” ولكم دين “.

لهذا فإنّ ” دين الحب ” هو جوهر كلّ الديانات السماوية، ومقصدها، وهو أن يفتح المرء قلبه على المحبة دون إنكار للآخرين، وأن يحسن لكلّ ما حوله من البشر والشجر والحجر، لكنّ ما حصل أن معظم أتباع كلّ ديانة انقضّوا عليها منذ البدء وحولوها إلى مصالح ذاتية، وتوجهات سلطوية للسيطرة على الناس البسطاء، وجعلوا من أنفسهم ممثلين لله على الأرض يمنحون من يشاؤون صكوك الغفران، وقصور الجنان، ويحرمون منها آخرين، ويردون بهم في قعر الجحيم وألسنة النيران.

لقد فشل البشر عبر مسيرتهم الطويلة في استيعاب الطاقة النورانية الهائلة القادمة من “دين الحب” وتمثلاته في المودة والرحمة والسكينة والسلام واليسر وكلّ مكارم الأخلاق، واختاروا الطريق الأكثر شراسة والمعبّد بالجثث وثقافة الموت، بل وحاولوا اغتيال كلّ من سعى إلى التبشير بهذه الثقافة من أنبيائهم والمصلحين، ولهذا فإنّ ما يطفو على السطح غالباً الجانب الجاف للطقوس الدينية الظاهرية، فيما يسكن الخواء جلّ قلوب العابدين، وهذا الأمر ينكشف عند أول مواجهة حقيقية بين هذا العابد الظاهري والمجتمع، لا سيما فيما يتعلق بالمعاملات، حيث تتفشى على السطح وعورة الأخلاق، ونضب المشاعر، والقسوة على الذات.

لم تكن المشكلة إذن أبدا في أصل الديانات والتعاليم المصاحبة لها، فالله محبّة كما في تعاليم نبي الله عيسى، وكتب على نفسه الرحمة كما أكدّ ذلك تعالى في قرآنه، ولن يكون غير ذلك، لكن العرب كمثال حيّ ساهموا في تحويل هذه التعاليم العالية والتي تصلح لكلّ البشر في أنحاء الكون ” الناس ” إلى دين قبلي صحراوي يسعى للسلطة، ” منكم أمير ومنّا أمير ” وإلى دولة سياسية تسوس الناس بالسياط، وتقسم العالم إلى فسطاطين ” دار الإسلام ” و ” دار الكفر ” وقد راح ضحية ذلك عدد كبير من أتباع رسالتين سماويتين هما اليهودية والمسيحية، فتم إدخالهما بالفسطاط الثاني قسراً دون تمحيص للآيات القرآنية التي تشير صراحة إلى غير ذلك.

وكبديل للدين السياسي الذي يتعامل بالقهر والإجبار إضافة إلى تركيزه على الجانب الظاهري كما أسلفت انشغل المتصوفة بالتركيز على تهذيب النفس بالأخلاق، وتصفيتها مما يعلق بها من الكدر والأمراض كالحقد والغش والغضب والغيرة والحسد والكيد، وتزويدها بالطاقات البديلة كالتسامح والمحبة والرقة والاخلاق والزهد، وهي صفات تجعل المرء صافياً من كل شائبة، وقلبه قابلا لكلّ صورة كما أشار الشيخ الأكبر ” فمَرْعًى لغِزْلاَنٍ وديرٌ لرُهْبانِ، وبَيْتٌ لأوثانٍ وكعبة  طائفٍ، وألواحُ توراة،  ومصحفُ قرآنِ…”.

رغم ذلك فقد دفع المتصوفة ثمن هذا الدين المنفتح على العالم كله، والذي يعلي من شأن الحياة والإنسان، فتم قتل السهرودي، وصلب الحلاج، واتهام ذو النون المصري بالزندقة، وسجن أبو الحسن سمنون بن حمزة، واغتيال شمس التبريزي، ناهيك بالطبع عن حرق كتب المتصوفة ومنعها الذي هو مستمر منذ سالف الأزمان حتى يومنا هذا في بعض البلدان العربية بكل أسف، وهذا الغياب للجانب الروحي أعطى المجال للنموذج التكفيري بالتسّيد في المشهد شعاره ” جئناكم بالذبح” وهو بلا شك نقيض لثقافة المودة وإعمار الأرض بالخير والسلام.

” دين الحب ” مطلب حقيقي اليوم لكل التائهين والباحثين عن مرساة للحياة الطبيعية، وهو يساهم بلا شكّ إن تم تبنيه في البنى التعليمية الأساسية على الأقل، وفي المنابر الدينية في دخول الناس بيوتهم آمنين من كل خوف، وفي جعل الحياة أكثر احتمالاً، والكون كله أكثر جمالا، فيما تفوح روائح الأزهار من  الحدائق ندية ومفعمة بالبهجة دون أن تلوثها أدخنة الحرائق وغبار الأبنية التي تقصف من عل فوق رؤوس الخلائق…!

_________

 *رئيس تحرير ثقافات وروائي من الأردن

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *