أجملُ المطارح تلك التي تطرقُ عتباتِها في اللحظة التي تعتقدُ فيها أنه لم يعُد في هذا العالَم المنهَك ما يمكن أن يُدهشَك أو يسحبَك إلى أتون مفاتنه. ومع الاعتراف بأنّ هذا الاعتقاد اليائس والمستسلِم – و«الآثم» في الغالب – قد يجعلُ النّفسَ كسولةً ويعمي العينَ عن اقتناص ضياءات الكشف، على وهَنِها، فإنه لم يكن ليخطر في بالي وأنا أرتادُ حديقةً أنيقةً أن تفردَ رياحٌ رخيّةٌ أشرعةَ الأيام المطوّيات، لتقودني إلى إعادة تأمّل الحزن، في مختلف حقبه وطبائعه، كذكرى تصحّ ترجمتها والتعبير عنها في رمز فيّاض في المعاني. نعم، فالحزن يكاد يكون السمة الألصق بالإنسانية والأخلق بها مقارنةً بالعواطف البشرية الأخرى، فهو الجانب الشفيف من الحياة الأكثر غورًا والأبعد مدى، في مقابل السعادة باعتبارها أثرًا عابرًا، ضحلاً، ماضيًا باستعجال. إن الحزن، بمعنى من المعاني، هو هبة الوجود الذي يُتاح لنا أحيانًا أن نتضوّأ به أكثر مما يملأنا حسرةً وندبًا.
في جميع الأحوال، لم أتوقّع أو أتخيّل أبدًا أن حزنًا رائقًا يُمكن أن ينبع من أكثر اللحظات المتضوِّعة بجمال مُسبَل.
كان ذلك في نهار لندني، شمسُه منشرحة على غير المعهود، حين انحرفت قدماي من شارع هادئ، في قلب العاصمة البريطانية، إلى طريق فرعي، تستقرّ على أحد جانبيه بيوتٌ ساكنة، فيما ارتفع على الجانب الآخر سورٌ، انشقّ في جزء منه عن فتحة تبيّن أنها تقود إلى حديقة «هولاند بارك»، إحدى تُحف لندن التي تعكس تجسيدًا متكاملاً لهندسة الحديقة الإنجليزية ذات المشهدية الخلابة التي تبدو كأنها مقتطفة من أعمال فنية تصوغ الطبيعة في أكثر تجلّياتها ترفًا وأنفة.
يقينًا أسرت الحديقة بكائناتها الجذلى حواسي، مع أنني من ذلك الصنف الإنساني الذي يُؤخذ أقل بالطبيعة، أنا المفتونة بتشكيلات الحجر – كوثيقة تاريخية – أكثر من لوحات الشجر. وكان يمكن جدًا يومها أن أقنع بطين الأرض الفائض بكل أشكال الخلْق لولا الانعطافة التي قادت قدمي إلى ركن في الحديقة، لامستُ فيه تجربةً مدهشةً. ففي مساحة مستطيلة، استقرت أحواضٌ معتنى بها من الورود التي نثرت عطرها في الجو بخفر. على طول حدود المستطيل، توزّعت مجموعةٌ من المقاعد الخشبية، التي تتيح لزوّار الحديقة الجلوس للقراءة أو لتأمل الفتنة الفارهة التي تحاصر البصر أينما تجوّل. من بعيد، لم يبدُ أن ثمة ما يميّز هذه المقاعد الخشبية عن مثيلتها في الحدائق والطرقات، وإن أسبغت على المكان المترفّع، المزدان بطواويس تنشر «أناها» المتضخمة في الزوايا، بعض التواضع. لكن نظرةً قريبةً إلى المقاعد أيقظت مشاعر متضاربة في داخلي. عيون قلبي اتّسعت، وروحي، المستسلمة للرخاوة، سرعان ما غاصت في حزن شائخ.
حملت المقاعد الخشبية نقوشًا لأسماء أناس رحلوا عن الدنيا، كانوا يومًا آباء وأمهات، أبناء وبنات، عُشّاقا ينحازون للحياة والورود وعناق الأيدي في الطرقات واستراحات الرؤوس التي أعياها الفكر والهموم العادية على الأكتاف المطمئِنة، هي أسماء «نكرات» في ظاهرها، قد لا تعكس حجم الحياة التي اختزنتها أو جسّدتها، لكنها يقينا كانت جزءا من عالم صغير، عالم له معنى، ومعنى كبير، للأحياء الذين خلفوهم وراءهم. بعض أصحاب هذه الأسماء خطفهم الموت مبكرا، كشاب، حرص أحبّته الذين كرّسوا له مقعدًا في الحديقة أن يذكروا أنه كان في الثامنة والعشرين من العمر حين مات، مؤكّدين في نقش محفور على عدد من ألواح المقعد بأنه كان رقيقًا وشجاعًا، كما كان محِبًّا ومحبوبًا. وكأن كل هذه الصفات العذبة لم تكفِ لتبيان شدّة الحزن وثقل الخسارة برحيله، إنما كان عليهم بأن يضيفوا، ربما كعبرة أو لمزيد من التفجُّع، بأنّ الشاب الذي قُطف في أوج تفتُّحه سُرقت منه الحياة قبل الأوان على يد سائق ثمِل. غير أن العدد الأكبر من المقاعد خُصِّصت لأسماء امتدّ بأصحابها العمر ليراكموا ذكريات حُفرت في نفوس أحيائهم، كأم نصب لها أبناؤها مقعدًا يذكِّر العابرين الذين قد يختارون الجلوس عليه أن المرأة المحفور اسمها على ظهر المقعد كانت في حياتها تحبّ الزهور ورفقة الناس. بهذا المقياس، مقياس عشق الزهور والرفقة الطيبة، فإن حياتها حتما كانت ثرية. أيا كانت أسباب الرحيل وأزمنته، فإن «الأحياء» لم يجدوا أبلغَ من مقعد خشبي في حديقة مفروشة بكل صياغات الحياة والجمال ليحرسوا ذكرى «غُيّابهم».
بينما كنتُ أقرأ أسماء الراحلين على المقاعد التي اصطفت طوليًا كأضرحة مشرعة، متصالحة مع الحياة، فيما ظهورها تنتصب كشواهد، تحمل كتابات مختصرة، وإن كانت غير محايدة، عن الحب بكل أوجهه، أطلّت علي من ألبوم ذكرياتي وجوه أحبّة رافقوني في بعض محطات العُمر قبل أن يفترقوا عني، بعضهم بالموت، آخرون بالهجر، وبعضهم بالتساقط من مخزون الوجود بحكم استحقاقات الزمان أو بالنسيان الأقسى من كل طرائق الموت. في رحيلهم نقصتُ، هذا مؤكد.
جلستُ على مقعد، مستندةً إلى اسم فقيدة، كانت في يوم ما طرفًا في حياة مليئة، متأملةً الكلمات المحفورة بأسى. لو قُدِّر لي، لوزّعتُ عشرات المقاعد، بل المئات منها، في حدائق الأرض وطرقاتها وشواطئها، أهديها لأرواح الأحبة والرفاق الذين تساقطت أطيافهم من أيامي تباعًا، للأصدقاء الذين هرموا قهرًا، وللأصدقاء الذين هزلوا وانكمشوا مرضًا قبل أن يفنوا، وللأصدقاء الذين انطفأوا مجازًا، ولنقشتُ تحت اسم كل واحد منهم شطرًا في قصيدة أو جملة متوهجة في حكاية، بأقل قدر من الاستعارات الجوفاء. لو كان بيدي لزرعتُ مقاعد حتى لأولئك الذين خانوا أنفسهم قبل أن يخونونا، فأداروا ظهورهم للأفكار العظمى التي كانت من شأنها – على سذاجتها الجميلة – أن تغيّر العالم. لو قيض لي، لغرستُ مليون مقعد ومقعد، وحفرتُ عليها الضحكات، الصادرة من القلب، والدمعات المذروفة من قلب القلب، والحكايات المذيلة أطرافها ببقايا القهوة المندلقة من الأكواب الورقية التي تقاسمتها مع الصحب في اللقاءات التي جمعتنا على المقاعد المباحة في ساحات المدن، وحتى مع الغرباء الذين يكونون كرماء مع غرباء مثلهم في نثر القصص الشخصية الدافئة على مقاعد المطارات الباردة.
لو كنت أملك، لغرستُ مقعدًا في حديقة لكل روح جميلة، فقط لأنها في زمان ما، في عصر ما، عاشت الحياة كما يجدر بعيْش الحياة أن يكون.
__________