أولاً: سرَّتني ردود الفعل التي جاءت على خبر قرب إطلاق موقع “ضفة ثالثة” الثقافي. فالمثبّطات في الواقع العربي، وفي المحيط الذي يحتكُّ فيه المرء، كثيرة، والارتهان لها يُقعد الواحد منا في بيته، لا يُبارحه. ولكن، ما إن نُشر هذا الخبر حتى انهالت التمنيات والتبريكات والتشمير عن اليد، من المشرق العربي، الغارق في الدم والحمأ الطائفي والتفتيت الاجتماعي، إلى المغرب العربي المحظوظ أكثر على هذا الصعيد، لولا الاحتراب المجنون، والمجاني، بين الليبيين، ونافخي أكيار الحروب من وراء البحار.
ثانياً: أكّدت لي ردود الفعل هذه، التي لم تأتني، بهذا الكمّ، على أيّ عمل شخصي (أدبي أو غيره) قمت به، أن المشروع هو الذي استثار الردود التي تلقيتها عبر وسائط التواصل المهنية والاجتماعية المختلفة. وهذا يعني أن هناك من لا يزال يهتم بهذا الشأن (الثقافة) الذي جعلته الأحداث المصيرية الهائلة التي مرَّت بها منطقتنا، ولا تزال، يبدو ترفاً، ونافلاً. فمن تعنيه بضاعة المثقفين البائرة هذه؟ وأيّ أهميةٍ لها بين الأرواح التي تُحصد، والبلدان التي تدمَّر، بالجملة؟
ثالثاً: فاجأتني غلبة الإيجابي على السلبي. والأخير أقرب الى التشكّك بقدرة أيّ عمل الآن على إنقاذ أروحنا وبلادنا الشقيّة.. وهو شكّ له وجاهته. كنت أظن أن الموقف الثاني هو الذي سنُقابل به: الإحساس بعدم الجدوى، والحذر من الدعاوى الكبيرة والوعود الوردية والريبة في مطلقيها. فاجأني الإيجابي الذي يعرف حجم الكارثة، ويعيه، ولكنه يعتبر الثقافة قادرةً على المجابهة، أو على الأقل، تمنح هذا الأمل. أنا شخصياً لست أقلَّ يأساً من أكثر اليائسين. ولست أقلَّ تشكّكاً من أكثر المتشككين. هذا جانبٌ قوي وأصيل فيّ. ولكن، هناك جانب المقاتل العنيد، المحشور في الزاوية، ولا يملك سوى كلماته. وهي ليست قليلة. لأنَّ الحبَّ كلمة. والحرية كلمة. والايمان كلمة. والعدل كلمة. والجمال كلمة. هذه كلماتٌ بقدر ما هي مشاعرُ وأفعالٌ وإرادات، وحولها كلّها دارت البشرية وداخت.
رابعاً: لا تصدر ردود الأفعال المرحِّبة من باب الطوبى والنيّات الحسنة حيال الثقافة، بل قل حيال موقعٍ ثقافي، فلا أحد منا يقلّل من حجم الخراب وتقطيع الأوصال، المادي والمعنوي، الذي تتعرّض له بلدان مركزية عربية، كان لها إسهامها التاريخي في الثقافة العربية. الكلُّ يعرف ماذا يعني أن تجعل بلداناً كهذه تتشرّد على الأرصفة ومخيمات اللجوء، وتركض وراء الخبز الحاف، المُذلّ. النتيجة الأولى جعل أي شيء يعلو على اللقمة والسقف والأمن ليس ترفاً فقط، بل كفراً. فماذا يعني أن تتحدّث عن قصيدة النثر، والتجهيز، والفرق الموسيقية التجريبية، والسينما البديلة، فيما الأوّلي، الجوهري، غائب: البلد، الحياة، التحقّق الإنساني من أي نوع أو درجة؟
ولكن، ما الذي علينا فعله، نحن الذين لا نحسن إلا الكتابة، الرسم، الغناء، الرقص؟ أين نذهب بأقلامنا (كيبورداتنا!!)، لوحاتنا، أصواتنا، أقدامنا؟
خامساً: من دون دعاوى كبيرة، ووعود ساذجة، وإيمان لا يطاوله الشكُّ من بين يديه، ولا مِنْ خلفه، نفهم هذا المشروع الثقافي (المنبثق من “العربي الجديد”، ولكن بهيئة تحرير خاصة به). لا طوبى، ولا تكبير للحجم ولا ادّعاء فارغ. نحن، ببساطة، نتحدّث عن موقع ثقافي. عن منبر ثقافي. وليس عن جامعة دولٍ عربية جديدة. يطمح هذا الموقع الثقافي إلى أن يُحدث فرقاً في المجال الثقافي العربي، أولاً وقبل أي شيء، وأن يُراهن، مع كثيرين، على الثقافة، باعتبارها، حقاً، المشترك الأهم بين عرب اليوم. ويرى الثقافة، حقاً أيضاً، المنجز الأكثر أهميةً لعرب القرن العشرين ومطالع الواحد والعشرين. لقد بدّدنا ثرواتنا. دمَّرنا ما بنيناه. قطَّعنا أوصال مجتمعاتنا. كتمنا أنفاس مواطنينا. هذه إنجازاتٌ مسجلةٌ باسمنا، ولكن بالمقابل، بقليلٍ من الحرية والموارد والمواهب الفردية، استطعنا أن نصنع شعراً ورواية وتشكيلاً وموسيقى وسينما تكاد تكون معجزةً قياساً بظروفنا التي وسمها الطغيان والقمع والفساد والأمية وسوق الناس إلى الكهوف بالسيف.
غداً، أي يوم الثلاثاء، لناظره قريب.
انتظروا “ضفة ثالثة”.
_________
*العربي الجديد