تمثل قيم الحرية منذ فجر التاريخ حتى الآن، قيمة كبيرة في الوجدان الإنساني، بما تمثله من رؤى،تختزل معاني الانطلاق والإبداع، وفتح الباب واسعاً لكلمة الحق والصدق، وإفساح المجال لحرية التعبير، التي تجعل الحياة الاجتماعية حافلة بالطرح القويم، والنقاش الحر الذي يسهم في إمداد المجتمعات، بالأفكار النيرة،والنقد البناء الحصيف، والجدلية الواعية، بما يثري النقاشات والحوارات التي تفرز الرؤى الى البناء الذي تنشده الأمم رائعاً وقوياً، وقد اعتبرت الحرية في كثير من الفلسفات، ليست حقاً فقط، بل واجباً، لتتحقق الحياة الكريمة،وتتعزز كلمة الصدق والحق، بما لا تخرج هذه القيمة الكبيرة عن المصداقية،وعن حرية الآخرين وحقوقهم وكرامتهم، ويعتبر كتاب (الحرية) للفيلسوف البريطاني آيزايا بيرلن من أهم النصوص الفلسفية في القرن العشرين عن موضع الحرية،ويتميز هذا النص ـ كما يقول المترجم ـ بأمور، منها أن هذه النسخة محققة وكاملة للكتاب وقد اعتنى بها هنري هاردي محقق كتبه والوصي على تراثه العلمي وكاتب سيرته،ويرى بيرلن في هذا الكتاب، أنه ركز أولاً على التغييرات التي أصابت فكرة الحرية أثناء الصراعات الإيديولوجية في هذا القرن.ثانياً على المعنى الذي أعطي لها في كتابات المؤرخين، وعلماء الاجتماع، والكتب الذين تفحصوا الافتراضات المسبقة ومناهج التاريخ والسوسيولوجيا، وثالثاً على أهمية مفهومين رئيسين للحرية في تاريخ الأفكار، ورابعاً على الدور الذي لعبه مثال الحرية الفردية في وجهة واحد من أشد المدافعين وإخلاصاً لها، جون ستيوارت، وأخيرا على العلاقة بين المعرفة والحرية.
وفي حالة الحرية الاجتماعية والسياسية تظهر مشكلة، كما يقول بيرلن، لا تختلف كلية عن مشكلة الحتمية الاجتماعية والتاريخية.
ونحن نفترض الحاجة إلى مساحة للاختيار الحر، مساحة يتعارض غيابها أو نقصها مع وجود كل ما يمكن تسميته حرية سياسية أو اجتماعية.وتعد الحرية «الايجابية» المدركة بوصفها إجابة من سؤال، «من الذي يحكمني؟»، هدفاً شمولياً صالحاً.
لا أعرف لماذا طلب مني أن أشكك بها،أو بالافتراض الإضافي بان الحكم الذاتي الديمقراطي حاجة بشرية جوهرية، شيئاً ثميناً في حد ذاته، بغض النظر عن اصطدامه بمزاعم الحرية السلبية من كونستانت مثلاً: من دونها يصبح من السهل جداً تحطيم الحرية السلبية، أو من ميل، الذي يعتقد أنها وسيلة لا غنى عنها ـ لكنها تظل مجرد وسيلة ـ لبلوغ السعادة أستطيع فقط تكرار حقيقة أن تشويه فكرة الحرية الإيجابية وحرفها إلى نقيضها حدثت فعلاً، ومثلت ردحاً من الزمن واحدة من أكثر الظواهر شيوعاً وتثبيطاً للعزائم.
ولا أرغب أيضاً،كما يقول آيزايا بيرلن، بإنكار حقيقية أن الطرق الجديدة التي يمكن عبرها أن تقلص الحرية بالمعنيين الإيجابي والسلبي، أو قلصت فعلاً،قد ظهرت منذ القرن التاسع عشر.
وفي عصر توسع الإنتاجية الاقتصادية، توجد طرق متعددة لتقليص النوعين من الحرية كليهما مثلاً عبر السماح بوضع (أو تشجيع لتقليص) تحرم فيه جماعات وأمم بأكملها بصورة مطردة من الفوائد التي سمح بمراكمتها حصراً في أيدي جماعات وأمم أخرى، الأغنياء والأقوياء وأنتج عن ترتيبات اجتماعية سببت ارتفاع الأسوار حول البشر،وإغلاق الأبواب أما تطور الأفراد والطبقات، حدث ذلك جراء سياسات اجتماعية واقتصادية كانت متحيزة بشكل سافر حيناً، ومموهة أحياناً، بأدوات السياسات التعليمية وبوسائل التأثير في الرأي، والتشريعات في مجال الأخلاق، وبإجراءات مماثلة، أعاقت حرية البشر وقلصتها في بعض الأوقات بالقدر ذاته من الفاعلية التي ميزت أساليب القمع المباشر -العبودية والسجن- الأكثر صراحة وقسوة، التي رفع ضدها المدافعون عن الحرية أصواتهم أصلاً.ومن ثم، حين يؤكد ناقد آخر من نقادي، ديفيد سبيتز، أن الحدود لا تقع بين الحرية الإيجابية والسلبية، بل بين «تلك التي يرجح عند تحديدها أن تشجع تركيبة معقدة من حريات معينة وقيود ملازمة، تلك القيم، التي تعد إنسانية بوضوح لا لبس فيه وفقاً لنظرية بيرلن»، ويعلن في مسار مراجعته المثيرة والموحية، أن القضية تعتمد على وجهة النظر الفردية تجاه الطبيعة البشرية، أو الأهداف الإنسانية (التي يختلف عليها البشر)، لا أعترض عليه.
ينبثق الصدام بين الحاجة إلى الحفاظ على الحرية الموجودة لدى بعض الأهل لتقرير نوع التعليم الذي يريدونه لأطفالهم؛ والحاجة إلى تشجيع الأهداف الاجتماعية الأخرى، والحاجة إلى إيجاد الظروف الملائمة التي توفر فيها الفرص للمحرومين منها لممارسة تلك الحقوق (حرية الاختيار) التي يملكونها قانونياً، لكنهم لا يستطيعون ممارستها من دون هذه الفرص.
يجب تحويل الحريات عديمة النفع إلى حريات قابلة للاستخدام، لكنها ليست متطابقة مع الظروف الضرورية لإمكانية استخدامها ونفعها.
لا يُعد هذا مجرد تمييز متحذلق، لأننا إذا تجاهلناه، ستنخفض مرتبة معنى حرية الاختيار وقيمته.
يميل البشر إلى نسيان الحرية نفسها، في غمرة حماستهم لخلق الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تكون فيها الحرية ذات قيمة حقيقية؛ وإذا تذكروها، يرجح أن يبعدوها عن الطريق لإفساح المجال لتلك القيم الأخرى التي ينشغل بها المصلحون أو الثوريون.
ومع أن الحرية كما آيزايا بيرلن، يجب أن نكرر ونتذكر، ربما تكون عديمة النفع فعليّاً إذا لم تدعم بما يكفي من الأمان المادي والصحة والمعرفة في مجتمع يفتقد المساواة والعدالة والثقة المتبادلة، إلا أن العكس قد يكون كارثياً.إن تلبية الاحتياجات المادة والتعليم والمساواة والأمن، للأطفال في المدارس أو العلمانيين في النظام الثيوقراطي، يختلف عن توسيع نطاق الحرية.نحن نعيش في عالم يتميز بأنظمة ( يمينية ويسارية ) فعلت، وتسعى إلى فعل، هذا بالضبط، وحين يطلقون عليه اسم حرية، فإنها تماثل في خداعها حرية الفقير المعدم الذي يملك حقاً قانونيّاً في شراء وسائل الترف والرفاهية التي تفوق قدرته المادية. وفي الحقيقة، فإن الأمور التي صمم الحدث المتخيل في فصل « المفتش الكبير «في رواية دوستويفسكي».
الأخوة كارامازوف «لإظهارها أن الأبوية (البطركية) يمكن أن توفر الظروف الملائمة للحرية، لكن مع كبت الحرية ذاتها.
إذا رغبنا في العيش في ضوء العقل، يجب أن نتبع قواعد أو مبادئ؛ فهذا هو معنى العقلانية.وحين تتعارض هذه القواعد أو المبادئ في الحالات الملموسة المتعينة، فإن العقلانية تعني إتباع مسار السلوك الأقل إعاقة للنمط العام للحياة التي نؤمن بها. ولا يمكن الوصول للسياسة الصحيحة بأسلوب آلي أو استنباطي: إذاً لا توجد قواعد صارمة وملزمة نسترشد بها، وكثيراً ما تفتقد الشروط الوضوح، ونعجز عن تحليل المبادئ أو التعبير عنها بشكل كامل.
فالمعنى الجوهري للحرية كما يؤكد بيرلن، هو التحرر من الأغلال، من السجن، من الاستعباد للآخرين.
أما الباقي فهو امتداد لهذا المعنى، أو استعارة مجازية. إن الكفاح من أجل الحرية هو السعي إلى إزالة العقبات، والنضال في سبيل الحرية الشخصية هو المسعى لكبح التدخل، والاستغلال، والاستعباد من أشخاص يريدون الوصول إلى غاياتهم هم، لا غاياتي أنا.
الحرية متزامنة، في معناها السياسي على الأقل، مع غياب التنمر أو الهيمنة.
ومع ذلك، ليست القيمة الوحيدة التي يمكن، أو يجب، أن تقرر السلوك.
فضلاً عن أن النظر إلى الحرية بوصفها غاية أمر مبالغ في التعميم.
أود القول مرة أخرى لنقّادي إن القضية ليست بين الحرية السلبية بصفتها قيمة مطلقة وبين قيم أخرى أدنى مرتبة.
بل هي أكثر تعقيداً وأشد إيلاماً.
ربما تجهض حريةٌ حريةً أخرى، أو قد تعرقل حرية أو تفشل في إيجاد الظروف في إيجاد الظروف التي تجعل حريات أخرى، أو درجة أكبر من الحرية، أو حرية أشخاص آخرين، ممكنة؛ ربما تتصادم الحرية الإيجابية والسلبية، وقد لا تنسجم حرية الفرد أو الجماعة انسجاماً كاملاً مع درجة تامة من المساهمة في الحياة المشتركة، بمطالبها المنادية بالتعاون والتضامن والإخاء.
لكن تكمن في ما وراء ذلك كله قضية أكثر حدة: الحاجة الماسة إلى تلبية مطالب القيم الأخرى النهائية: العدالة، والسعادة، والحب، وتحقق الطاقات لإبداع أشياء وتجارب وأفكار جديدة، واكتشاف الحقيقة.لا نكسب شيئاً من ربط الحرية، بمعنييها، مع هذه القيم، أو مع ظروف الحرية، أو من خلط أنواع الحرية أحدها مع الآخر. وحقيقة أن الأمثلة المقدمة على الحرية السلبية (ولاسيما حيث تتزامن مع السلطات والحقوق ) ـ مثلاً حرية الأهل أو مديري المدارس في تقرير تعليم الأطفال، أو أرباب العمل في استغلال أو طرد عمالهم، أو أصحاب العبيد في التخلص من عبيدهم، أو الجلاد في تعذيب ضحاياه- قد تكون في حالات عديدة غير مرغوبة كليّاً، ويجب تقليصها أو كبتها في أي مجتمع عاقل أو لائق، لا تجعلها حريات حقيقية بدرجة أقل؛ ولا تبرر تلك الحقيقة لنا إعادة صياغة تعريف الحرية التي مثلت دوماً بوصفها خيراً مطلقاً دون حدود- تؤدي دوماً إلى أفضل النتائج الممكنة، ويرجح دائماً أن تشجع ذاتي «الأسمى»، وتتناغم دائماً مع القوانين الصحيحة لطبيعتي «الحقيقية» أو مجتمعي..الخ، كما حصل في عدد من التفاسير والشروح الكلاسيكية للحرية، من الرواقية إلى المبادئ الاجتماعية الحالية، على حساب إبهام الاختلافات العميقة.إذا أردنا عدم التضحية بالوضوح في الفكر أو العقلانية في الفعل كما يشير بيرلن، يجب أن نعطي هذه الفوارق المميزة أهمية حاسمة. قد تتصادم الحرية الفردية، أو لا تتصادم، مع التنظيم الديمقراطي،أو الحرية الإيجابية لتحقيق الذات مع الحرية السلبية لعدم التدخل.إن التشديد على الحرية السلبية يترك عادةً مزيداً من السبل ليسلكها الأفراد أو الجماعات، بينما تفتح الحرية الإيجابية عادة عدداً أقل من السبل، لكن مع أسباب أفضل أو موارد أكبر للسير عليها، وقد تتصادم الاثنتان أو لا تتصادمان.