“غودزيلا” يقظة “الوحش النووي” والسرد الشيق “الكلاسيكي”

خاص- ثقافات

*مهند النابلسي

هناك بموقع التجارب النووية بجزيرة “بكيني أتول”، وأثناء حدوث تجربة نووية تجريبية في العام  1954،  ينهض على أثرها وحش خرافي من أعماق المحيط الهادئ!

بهذا المشهد “التسجيلي” المثير يستهل فيلم “غودزيلا” الجديد، ثم  ننتقل للعام 1999، حيث يقوم العالمان سيرازاوا (الممثل كين واتانابي) وجراهام (سالي هوكينز) بإجراء أعمال تنقيب في منجم فلبيني ناءٍ قديم، ليكتشفا داخله هيكلا عظميا عملاقا وبيضتين ضخمتين، كما لاحظا انزلاق “مسخ غامض” خلسة للبحر. أما في اليابان فتحدث اهتزازات زلزالية “غير معهودة” في محطة “جانيرا” النووية، حيث يقوم مشرف المعمل التجريبي جو  برودي (براين كرانستون) بإرسال زوجته ساندرا(جولييت بينوش) مع فريق متخصص لمركز المفاعل بغرض فحص “المجسات”، وبينما الفريق محشور داخل المفاعل، يحدث انفجار غير متوقع مهدداً بتسريب الإشعاعات للخارج! وتفشل حينئذ ساندرا والعاملين معها من الهرب والنجاة؛ حيث ينهار المعمل الضخم بثوانٍ ويتحول إلى ركام نتيجةً لهزة أرضية قوية، ويتم اعتقال فورد بسبب دخوله منطقة “الهزة الأرضية” لمعاينة تفاصيل ما حدث.

وبعد خمسة عشر عاماً يسافر ابن ساندرا الشاب جو(آرون تايلور جونسون)؛ لكشف ملابسات الحادث الذي أودى بحياة والدته،  ويقنع أبيه فورد بمصاحبته متخلياً عن وظيفته الحالية كخبير تفكيك متفجرات في البحرية الأمريكية، وعن حياته المستقرة والآمنة في سان فرانسيسكو مع زوجته الي (إليزابيث اولسن) وابنه الصغير سام (كارلسون بولد).

55

ويتملك فورد حنين جارف لزيارة منزله القديم في المنطقة المنكوبة، ورغبة قوية  في استعادة “قرص حاسوبي” (فلوبي ديسك) يحتوي على بيانات “زلزالية” قديمة سجلت قبيل انهيار المعمل. ولكن عند وصول فورد وجو قبضت عليهما دورية حراسة واعتقلتهما في غرفة خاصة داخل أنقاض معمل الطاقة المنهار، وهناك لاحظا  قيام العاملان “شيرازاوا وجراهام” بإجراء بحوث على “مسخ وحشي ديناصوري” عملاق، قبل أن يطلق الوحش “مسخاً مجنحاً ضخماً” ليقوم بتدمير بقايا المنشأة والطيران بعيداً، ويصاب جو في أثناء الهروب لجروح بالغة تعرضه للموت، بينما ينضم الثلاثة “شيرازاوا وجراهام وفورد” للبحرية الأمريكية بقيادة الأدميرال ستينز (دافيد ستراهيري) برفقة حاملة الطائرات ساراتوغا للحاق بالمسخ الهارب والإمساك به.

ويخبر فورد لاحقاً بأن هذا المسخ الوحشي المجنح المسمى “موتو” ماهو إلا مخلوق خرافي قديم يتغذى بالإشعاعات النووية، وعندما خفت حدة الإشعاعات مع مضي الزمن وبردت قشرة الكوكب، اندس هذا المخلوق الكاسر لداخل “القشرة الأرضية” هارباً من مطاردة وحش خرافي آخر يسمى “غودزيلا”، واستفاق فجأةً كنتيجة للتجربة النووية التي أجريت في العام 1954 تحت أعماق المحيط، وكما أخفقت التجارب النووية اللاحقة في القضاء عليه…ثم اكتشف فورد بأن “موتو” كان يتواصل مع مخلوق ثالث غامض، وبعد مطاردات شيقة اكتشفت قوات خاصة أن المسخ “موتو” الهارب يتغذى من  مفاعل حطام غواصة نووية سوفيتية  ضخمة غارقة، وحدثت معركة نارية ضارية هاجمت فيها القوة البحرية الوحش “موتو” بالقرب من مطار “هونولولو” الدولي.

33

 وتزامن ذلك مع وصول الوحش الأسطوري “غودزيلا” متسبباً بتسونامي هائل أدى بدوره لدمار العاصمة”وايكيكي”، وفي نفس الوقت انبعثت “أنثى موتو جديدة” من رفات نفس المسخ  في موقع النفايات بجبل يوكا الفلبيني، وقد انطلقت هذه باتجاه “لاس فيغاس” ودمرتها، ثم استنتج العلماء بأن الوحشين المجنحين الضاريين سيلتقيان للتزاوج قريباً بمكان ما، فقامت قوات البحرية بملاحقة “غودزيلا” متوقعةً أن تتلاقى الوحوش الثلاثة بخليج “سان فرانسيسكو”، وأطلق الأدميرال “ستينتز” خطة لقتل الوحوش الثلاثة بواسطة “قذائف نووية”، مما أثار اعتراض باقي العلماء وفي مقدمتهم “واتنبي”، متوقعين قيام “غودزيلا” بتدمير وقتل “زوجي الموتو” بلا حاجة لهجوم نووي ملوث لا تحمد عقباه، وقد عبر عن ذلك بجملة ذكية: “دع الوحوش تتحارب، ولنرَ ما يحدث”! وهكذا تم تحميل قطار “برأسين نوويين”. ولاحظ “ستينتز” أن ساعة “واتنبي” القديمة التي ورثها عن والده الراحل قد توقفت مع زمن تدمير هيروشيما.

وفوجئ الجميع بقيام “الموتو” المؤنثة باستهلاك رأس نووي، بينما تمكنوا من نقل الرأس  النووي الآخر جواً لمدينة “سان فرانسيسكو” ووضعوه على قارب، فقام “الموتو” الذكر  بسرقة الرأس الآخر أيضاً، ثم بنت الأنثى “عشاً” حوله بمركز سان فرانسيسكو، وبعد أن هزم الجيش بمواجهته العسكرية الضارية مع “غودزيلا” على جسر “البوابة الذهبية” الشهير وافق الأدميرال “سنتنز” أخيراً على السماح لغودزيلا بمصارعة ” زوجي الموتو” المجنحين الشرسين. وبينما تدور معركة طاحنة بين الوحوش، يستغل فورد ذلك للتسلل مع فريق متخصص لتفكيك الرأس النووي داخل العش هابطاً بالمظلة، ثم يتحم الرأس الحربي ولا ينجح فورد وفريقه في تعطيل مفعول القنبلة الزمنية، ولتفادي الانفجار الموقوت يتم نقل الرأس النووي بالقارب لتفجيره بعيداً داخل البحر…وينجح فورد بتدمير “العش”  عازلاً الأنثى، فيما ينجح “غودزيلا” بالانفراد بالذكر  وقتله برميه بقوة كاسحة باتجاه ناطحة سحاب تنهار باتجاهه، فيما تقوم “الموتو الأنثى” بقتل أعضاء الفريق وتدمير القارب، ثم يقوم”غودزيلا” غاضباً بقتل الأنثى بواسطة “أنفاسه النووية” المرعبة، مما يؤثر على طاقته فينهار مؤقتاً!  هكذا ينجح فورد أخيراً بالذهاب بعيداً بالقارب المحمل بالرأس النووي متزامناً مع اقتراب ميعاد التفجير، وينجح بأعجوبة من النجاة بواسطة إخراجه بسرعة فائقة بواسطة طائرة يرسلها فريق الإنقاذ وذلك في اللحظات الأخيرة الحابسة للأنفاس!

11

ثم نشاهده في اللقطات الأخيرة وقد انضم لزوجته القلقة وابنه الصغير، فيما يتم الاحتفال من قبل أجهزة الإعلام ومحطات التلفزة بغودزيلا الخارق كملك للوحوش الخرافية وكمنقذ للمدينة، وبمشهد معبر نراه يستيقظ على غير المتوقع، ثم ينظر للكاميرا ويطلق “زئيرا” مجلجلا خاصاً معبراً قبل أن يعود لأعماق المحيط!

خفايا الإنتاج والتصوير والإخراج:

 

كلف هذا لشريط المذهل 160 مليون دولار، وفي العام 2004 أكد “يوشيميتسو يانو ” مخرج فيلم “غودزيلا مقابل هيدورال” المنتج بالعام 1971، بأنه حصل على حقوق الملكية الفكرية من شركة “توهو” اليابانية لإنتاج هذه النسخة العصرية من “غودزيلا” بإمكانات الـ “ثري دي والآي ماكس”، وبكاميرا المصورالسينمائي الشهير “بيتر اندرسون”، كما أكدت الشركة المنتجة بأنها ستنتج الفيلم الجديد مطابقاً للنسخة الكلاسيكية الشهيرة بالعام 1954 وليس طبقاً لنسخة عام 1998، وبأن المخلوق الخرافي سيشبه “العظاية” الضخمة.

تكمن المفارقة اللافتة هنا بأن “غودزيلا” الذكي هنا يحارب وحوشا ضارية همجية (مثله) ويتغلب عليها لمصلحة استمرارالحضارة الإنسانية!

صرح المخرج البريطاني اللامع “جاريث ادواردز” بأنه سيخرج  هذاالفيلم بطريقة مختلفة تماماً عن نسخة العام 1998، وبأنه سيكون مدهشاً وكأنه يسرد لنا قصة “كارثة طبيعية” بأبعاد إنسانية عاطفية، وبأنه سيبدو في المحصلة كفيلم وثائقي (تحريكي) يتحدث عن مخلوقات وحشية (كأنها ديناصورات ما قبل التاريخ)، وبأسلوب يضاهي أفلام “الكوارث الطبيعية” مع إضافة أبعاد درامية وعاطفية جاذبة مصوراً قوى الطبيعة المرعبة التي لا يقوى الإنسان عليها.

وبالفعل نجح بإخراج فيلم شيق وحابس للأنفاس ومصور بطريقة “كلاسيكية” غير معهودة بأفلام الفانتازيا والخيال العلمي، حاملاً بصمات السينما القديمة الجذابة!

يخفي الفيلم حقيقة أن تجربة “التفجير النووي” بأعماق  المحيط الباسيفيكي بالعام 1954 كان هدفها الحقيقي يتلخص بالقضاء على الوحش النووي القابع بأعماق المحيط، بل أنه يتلاعب في ذكاء المشاهدين بالتركيز على مزايا التجربة النووية ومن ضمنها “خلق وحش” نووي قادر على حماية البشرية من احتمالات هجوم كائنات “كابوسية” شريرة مجنحة وكاسحة، كما يقدم الشريط تجربة فذة جديدة لمفهوم “اللابطولة” أكثر من النمط التقليدي المعهود “للبطل والشرير”، حيث تنتصر الطبيعة الجامحة بالصراع  الضاري، وهي تتمثل هنا بالوحش الخارق “الطيب” غودزيلا.

44

يضاهي الشريط رؤيا “سبيلبرغ” بفيلم “الفك المفترس” حيث لا يظهر الوحش إلا بعد مرور حوالي ساعة من بداية العرض، وقد زاد ذلك من زخم التشويق والانتظار. ويركز الفيلم على كون “غودزيلا” نتيجة جانبية لتجربة نووية رائدة، ويقوم باستخدام الإيحاء المعبر لعرض الكارثة النووية التي حدثت بمحطة الطاقة النووية. وهذه باعتقادي تبدو كتداعيات نفسية إيحائية للجرح النووي الياباني المزمن، ابتداءً من كارثتي”هيروشيما وناجازاكي” وانتهاءً بكارثة “فوكوشيما” قبل سنوات (في العام2011) والتي حدثت كنتيجة لتسونامي ضرب شواطىء اليابان، والغريب أن ستة جنرالات من أصل سبعة جنرالات أمريكيين أكدوا لاحقاً بأنه لم تكن هناك ضرورة للهجوم النووي لإيقاف الحرب كما ادعى الرئيس ترومان في حينه، وقد ثبت لاحقاً “بالوثائق السرية الدالة” أن الهجوم النووي الضاري على اليابان كان يهدف أيضاً لتوجيه رسالة قاسية “لستالين والاتحاد السوفيتي والعالم أجمع” والتلويح “بالعصا النووية الغليظة”، وقد تبين بالفعل وجود خطط استراتيجية معتمدة لقصف أهداف عديدة في الاتحاد السوفيتي للقضاء عليه كقوة عالمية منافسة!

تم الاشتغال بعناية فائقة على صورة وحركات الوحش “غودزيلا”؛ فطوله يتجاوز ال110 متر، وحركاته مستوحاة من مزيج لحركات “الدب والدراجون الأسطوري والكومودور المتوحش”، كما يحمل سلوكه خليطاً من سلوكيات “الكلاب الوحشية والنسور الكاسرة”، وتم دمج كل هذه المكونات لتنتج بالمجمل السلوك والوجه الوحشي لغودزيلا الخارق، كما تتكامل هنا المؤثرات الخاصة الخيالية لتكون الشخصية الوحشية المميزة، مع زئير معبر استغرق إعداده ستة أشهر بحيث يتم سماعه من حوالي خمسة كيلومترات (ثلاثة اميال)! تم التصوير بالعام 2013 باستديوهات أمريكية خاصة و”بفانكوفر” الكندية، واستخدمت عربات قتالية خاصة و200 جندي ككمبارس لتصوير المشاهد الحربية، وصورت مشاهد في مركز المؤتمرات كبديل لمشاهد “هونوللو”، وصورت مشاهد بكل من سان فرانسيسكو والفلبين وطوكيو وجزرهاواي في هونوللو،  كما تم حشد أكثر من ألفي شخص بساحة مكشوفة في هاواي لتصوير بعض المشاهد الخاصة،  وأكثر من مئتي شخص بساحل “وايكيكي”.

22

استخدم الفيلم مؤثرات صوتية معبرة لحوالي عشرين لحناً مؤثراً خاصاً لأكثر من ساعة كاملة، وقام مايسترو الموسيقى التصويرية الشهير “ألكسندر ديسبلا” بتصميم الموسيقى التعبيرية،  وهو نفسه المصمم الصوتي لأفلام “كلمة الملك وحالة بنجامين بوتون وفيلمي هاري بوترالشهيرين”، وتراوحت أسماء الألحان مابين: غودزيلا، محطة الطاقة، في الغابة، مطاردة غودزيلا، البوابة الذهبية، دخول العش، نصرغودزيلا ثم اللحن الأخيرالمعبر”العودة للمحيط”!

نفس ذري ناري وزئير نووي!

 

تلقى هذا الشريط مراجعات نقدية إيجابية، مع التأكيد على الإيقاع البطيء التدريجي للفيلم، وطول فترة الانتظار قبل ظهور “غودزيلا” ووصف بعض النقاد له بأنه “دراما بشرية مدمجة مع قوة وحشية كاسرة لتحقيق مجد ناري  بأنفاس نووية خارقة وزئير وحشي”! كما هيأ المخرج ادوارد لظهورالهيبة الوحشية لغودزيلا، وجعله يزأر بيأس تجاه الكامير وكأنه يوجه لنا رسالة غامضة أعطت للوحش كاريزما وربما حضرتنا لجزء جديد مرتقب! أما عن أسلوب السرد السينمائي فهو يضاهي نمط “سبيلبرغ” بفيلمي “الفك المفترس والجو راسيك بارك”، ويتطابق لحد ما مع منهجية فيلم “لقاءآت من  البعد الثالث”، ونجد هنا التوازن المدهش ما بين السرد الدرامي الشيق  وفانتازيا أفلام التحريك خاصةً في مشاهد معارك الوحوش الضارية، كما نلحظ مشاهد ساحرة كسقوط المطر فوق جسر سان فرانسيسكو، وكارثة القطار في صحراء نيفادا، وبدت براعة التشويق الانسيابي  لجعلنا نتوقع دائماً حدوث شيء ما، كما أظهر “الذكاء والوعي” بشخصية غودزيلا الجديدة، ونجح بتصوير حالات الذعر بواقعية حتى بالنسبة لتراكض الكومبارس، وأظهر “الشفقة والتعاطف” الإنساني متطرقاً لثيمة “غياب الأب”، ومع التنويه لغياب الدور النسائي المحوري ربما بقصد. وفي المحصلة فقد تجاوز المخرج قدراته الإبداعية وحقق فيلماً لافتاً أفضل من نسخة العام 1998، وكالعادة فجمهورنا العربي لم يعِ الكثير من المغزى الإبداعي وانغمس بلا حماس بالشكل “التحريكي” السطحي لهذ الشريط السينمائي العبقري، كما لاحظت أن الكثير من كتاب السينما لا يتعمقون كثيراً بمغازي وثيمات أفلام الخيال العلمي ويصفونها بالإبهار والسطحية و”البعد التجاري الصرف” والتسلية، كذلك فبعضهم لا يقدرون الجهد الهائل المبذول لتحقيق هذه الأفلام والذي يشمل كافة الأوجه “السينمائية والتقنية والتصويرية والصوتية والمونتاجية” ناهيك عن براعة “التمثيل والاخراج”، كذلك تتضمن معظم هذه الأفلام الباذخة الانتاج رسائل ومضامين صريحة وخفية لا يفضل إغفالها بالتعميم واللامبالاة؛ لذا فقد لجأت هنا بقصد للخوض في الكثير من التفاصيل والخفايا بغرض توعية المهتمين والمثقفين والنقاد السينمائيين المتعمقين.

___
*ناقد سينمائي 

 

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *