السيرة الذاتية التي كتبها كولن ويلسون العام 2003 ونشرها العام 2004 بعنوان: حلم غاية ٍما والتي قدمت الكاتبة لطفية الدليمي ترجمة لها مؤخراً ليست الأولى في سلسلة ما كتب عن حياته، فقد نشر كتاباً عن المرحلة الأولى من حياته بعنوان (رحلة نحو البداية) العام 1969 واصفاً إياها في العنوان الجانبي بأنها سيرة ذاتية ذهنية، لكن هذه السيرة المترجمة تعبر عن مسيرة شاقة بجانبيها الحياتي والفكري، ضمها الكاتب لتكون حسب وصفه حلماً راوده منذ قراءاته الأولى وأحداث حياته المبكرة. الفنان الفيلسوف كما يفضل أن يدعى بإشارة المترجمة التي كتبت فصولاً دراسية مهمة تمهد للسيرة ولم تقصر جهدها على ترجمة الكتاب يسترجع سيرته بأسلوب قصصي وتعليقات قصيرة واستشهادات كثيرة من قراءاته الثرية.
مؤشرات البداية
لقد بدأ كولن ويلسون الكتابة وهو في العشرينيات، وتفاجأ هو نفسه بأصداء كتابه الأول (اللامنتمي) الذي سيكون واحدة من الإشارات الدالة عليه وسوف تسم عمله اللاحق، وترتكب ما يشبه الجناية بحق مؤلفاته الأخرى. يتوقف اهتمام قرائه ونقاده غالباً عند أطروحته هذه: اللامنتمي كشخصية رافضة تقبع في جوهر الأعمال الأدبية. ويعترف كولن ويلسون أنه استقى العنوان من كتاب لألبير كامو. واللامنتمي يعني له عند كامو البطل السلبي اللافاعل والمكتفي بالتدخين والكسول، وهي صفة يلصقها منتقداً بسارتر وكامو اللذين شغف بهما أولاً في فترة انبهاره بالوجودية المدرسية أو التقليدية التي تمثلت في كتاباتهما.
إن اللامنتمي أو الخارج عن السياق – وهو عنوان كتاب تال له – موجود في أعمال كتاب متعددين مثل: سارتر وهمنغواي وهرمان هسه ودستويفسكي ووليام جيمس ولورنس وكافكا حتى فان كوخ، ليستخلص- كمن يلم أجزاء صورة ممزقة – ملامح البطل التراجيدي المعذب بأفكاره. إنه اللامنتمي أو الخارج بالمعنى الحرفي للمصطلح الذي يعبر عنه عنوان الكتاب ووصف الشخصيات، وهو بطل إشكالي معذب بوعيه الذي يجعله مختلفاً، وبعقل حر تماماً لا يصنفه منتسباً لعصره ومجتمعه. ورغم أن كولن ويلسون سيتخطى تلك الأطروحة ويطور منظوره الفلسفي بوجودية (جديدة) مختلفة عن عدمية سارتر، سيظل اللامنتمي أشبه بصورة نمطية عنه، وقد شاعت تلك الصورة عربياً، لأسباب تذكرها المترجمة لطفية الدليميٍ في دراستها المعمقة لأدب كولن ويلسون، وتراها ملخصة بالسياق الذي ترجم فيه الكتاب للعربية في أجواء الخمسينيات والستينيات الأيديولوجية، وما شهدته المجتمعات العربية من هزات وثورات صبغت قراءة اللامنتمي بالنزعة الثورية المتمردة معاً.
القراءات المختزِلة!
بعض القراءات العربية كررت ما قيل عن كولن ويلسون في الأوساط الإنجلوسكسونية من أنه يعيد إنتاج قراءاته الكثيرة، حتى وصفه كاتب عربي بأنه (مِقراء بلا معدة) وهو تجنٍّ يلخص كولن ويلسون بطريقة فجة. وسيرته الماثلة للقراءة توضح مدى انسجام تفكيره وسيرورته بخط متصل من الوعي يرصده هو نفسه وإن تعددت جوانبه، حتى وصف بالهيدرا الويلسنية نسبة إلى حيوان الهيدرا الخرافي ذي الرؤوس السبعة التي كلما قطع منها رأس ظهر آخر بحسب الميثولوجيا الإغريقية كما تشرح المترجمة، وتختار خمس رؤوس تمثل أبرز اهتمامات ويلسون وهي اللامنتمي – الروائي، المنظّر الأدبي، الباحث في الخوارق، الباحث في الجريمة، المؤرخ والأنثروبولوجي. وتتوقف عند بعض رؤوس ويلسون المتعددة، كالجنس والفلسفة والأديان والمسرح والموسيقى. لكن كتابات ويلسون هي اللافتة بوضعها الكتابي أي في علم القراءة، فهو غزير التأليف فاقت أعماله وكتبه المائة وفي سنة واحدة يصدر ثلاثة كتب أحياناً، كما أصدر وهو في العشرينيات ثلاثة كتب، ورابعاً وهو في الثلاثين. حماسته للقراءة ستكون ذات حضور مركزي في سيرته. فهو يقول في سيرته إن الكتاب هو مصدر الإدهاش الوحيد بالنسبة له.
في التفاصيل يكمن المتمرد!
على دراجة وبعد أن يستيقظ من نوم مقلق في كيس تحت شجرة في حديقة، يخف للذهاب إلى المتحف البريطاني، ليجلس في المكتبة نهارات طويلة متصلة، ويكتب أعماله فيما يمضي في قراءاته بالحماسة نفسها. فقيراً معدماً يقضي سنوات طويلة من صباه وشبابه. متشرداً صعلوكاً في وصفه لنفسه، ويعمل في مهن شاقة وهروبه من واحدة لأخرى: عاملاً في مزرعة أو في محل لكيِّ الثياب أو مصنع بلاستيكي أو ورشة سيارات، وعامل بناء وبائعاً متجولاً وكاتب حسابات وغيرها من المهن التي ينفق أجرها الضئيل في رحلاته إلى فرنسا ومغامراته النسائية وصعلكته، ثم يخبر القارئ بصراحة متناهية عن ولعه الفيتيشي بقطع الثياب النسائية وصداقاته وقسوة والده وحمل أمه وزواجهما غير المتكافئ، لكنه لا يسرد تلك الوقائع بحس فضائحي كما يتم في بعض السير الذاتية لجذب القراء أو الإثارة والشهرة، بل ليرينا أثرها في تكوينه الفكري، كعلاقته بالمراهِقة التي يلتقيها صدفة، ومحاولته الانتحار وهو في السادسة عشرة، وقيادة سيارته في طريق ثلجي متجمد، وحياة والدته العاطفية، وعقاب والده المفرط له، وهروبه من المنزل. في كل ذلك يستل كولن ويلسون خيطاً ينمو سردياً، ليكون بالتفاصيل المستعادة بمتعة ورشاقة أسلوبية مرتكزاً لفكرة ما. فالقيادة في أخطار الانزلاق في الطريق المتجمد تهبه فكرة التركيز وصولاً للذرويّة التي آمن بها، أما محاولته الانتحار بشرب الأسيد في مختبر مدرسته، فألهمته فكرة وجود شخصيتين تتنازعان رغبات الإنسان وقراراته واختياراته. ولكنه سينصاع لحكمة جاءته من قراءاته أيضاً: إنك لابد لتعيش أن تغير حياتك، ولا تكف عن ذلك. وهذا يفسر بدايته كاتباً للكوميكس ثم التأمل فالروايات والمضي في طرق متعددة قد لا يربط بينها رابط أحياناً، فكتاب في التصوف وآخر في الباراسايكولوجي وثالث في المسرح وهكذا.. وعلى مستوى الحياة كان كولن ويلسون يمجد التغيير ويقول في أكثر من مكان إنك لكي تعيش لا بد أن تغير حياتك وأن تغير أفكارك أيضاً. حين يعود من رحلته الأميركية الشهيرة محاضراً ومناقشاً يحس بضياع نشاطه وصعوبة عودته ثانية لحيويته. بل لقد عاد مفلساً بسبب ما جنى منه الضريبيون لكنه يذكر حسنة كبيرة للرحلة الأميركية الأولى هذه وهي أنها جعلته يفكر بمعنى تغيير الحياة، وبهذا يخالف وجودية سارتر وعدمية كامو، فهو لا يرى مثلهما أن الحياة عبثية وعدمية ولا تستحق أن تعاش، بل يرى فيها ما أسماه بروست اللحظة الذهبية تلك التي تتفتح فيها الحياة فجأة وتصبح قابلة للحب. ذلك ما كانت تثيره فيه من شعور حفلات أعياد الميلاد خاصة ثم النزهات والخروج للطبيعة في العطلات ويصف إحدى تلك اللحظات البروستية بالقول إنه اكتشف جمال الكون وتعقد الحياة معاً ووجود ما يجعلها أكثر جمالاً.. ويكرر ذلك حين يستذكر محاولة انتحاره وهو في السادسة عشرة فقد اكتشف ما كان قد اكتشفه سارتر حين تطوع في قوات المقاومة الفرنسية ضد النازية وأدرك أن الموت ممكن ومحتمل، ولكن تلك كانت فرصة لهما معاً: سارتر وويلسون لرؤية الحياة من جديد..
عدة أنفس.. عدة شخصيات
التغير الذي ينشده كولن ويلسون يتكامل في دائرة حياتية موحدة تبدأ بنظرته للشخصية، فيتساءل: «هل نمتلك جميعنا عدة أنفس وعديداً من الشخصيات»؟
ويجيب على تساؤله بالقول: «بدا لي أننا جميعاً نرتقي ابتداءً من طفولتنا وتكون لنا خلال ذلك الارتقاء التطوري سلسلة من الأنفس.. وأن دوافعنا البيولوجية هي ما يدفعنا إلى الارتقاء عبر سلّم الأنفس..»، ولعل هذا ما يفسر أيضاً إفصاحه عن أنه كان في بداية حياته الدراسية ومراهقته وفتوته يحلم بأن يكون عالماً كآينشتاين، مثلاً، وأن تكون له على الأخص شهرة لم يكن المال كما يقول من طموحاته حتى وهو يكتب اللامنتمي لكن فشله في الرياضيات وإعادة المواد الدراسية ستكون سبباً في خذلانه، ولكن ذلك الولع بالعلم كسبب لمعرفة أو وسيلة لها ظلت تلازمه، وصارت جزءاً من منظومة أفكاره وبنيته الثقافية وتعبيره عنها، فإذا استشهد بنص شعري لإزرا باوند نجده بعد حين يحلل سيكولوجيا دوافع النشوة والرغبة، أو يحلل التغيرات البيئية وأثرها على الفكر ونمط الحياة البشرية.
الهوس بالكتب
لقد وصف كولن ويلسون نفسه بأنه شخص مهووس بالكتب. وذلك ينعكس في مؤلَّفه (الكتب في حياتي) الذي أراد أن يذكر فيه عشرين كتاباً فقط كان لها أثر في تكوينه الثقافي، لكنه وجد نفسه أمام مائة كتاب. ويعترف بأنه بدأ حياته تطهرياً مثالياً يتقزز من أحاديث زملائه الصبيان والمراهقين عن الجنس ببذاءة، لكنه سيتحول إلى كائن شبقي مهووس برصد انعكاسات العامل الجنسي في النفس. وقراءاته أيضاً سينالها مبدأ التغير، فمن القصص المثيرة والحكايات سيجد نفسه مغرماً بكتب الأديان والفلسفات القديمة، فيقرأ الغيتا والمهابهارتا ليخرج منها ببعض ظلال التصوف التي كتبها في أكثر من مؤلف له. وثمة انعطافة كبيرة صوب الفلسفة التي لم ينل جراء تحولاته وتبسيطه لفرضياتها ما كان يطمح له من مقارباته الفلسفية فلم تعترف به المدارس الفلسفية أو المناهج ولم تؤخذ أطروحاته بما تستحق رغم تعارضاته الكبيرة والجريئة مع أفكار كبار الفلاسفة المكرسين ليس سارتر إلا واحداً منهم. وهو بذلك الإقصاء من صف الفلاسفة يؤكد تمرده الذي لازمه طوال حياته ولعله الشيء الوحيد الذي لم يخضع لمبدأ التغير الذي يدعو له.
لقد قيل إن كولن ويلسون قد أنزل الفلسفة من عليائها أو برجها العاجي وجعلها تمشي على الأرض وحاول رغم موسوعيته التي يستخف بها بعض نقاده، أن يبني رؤيته للحياة في اللامنتمي وما بعده وكذلك في رواياته وسيرته وسائر أعماله.
ولعل أطرف ما نلاحظ في هذا الشأن أن كولن ويلسون لم يغير مزاجه المتمرد وهو يكتب سيرته فختمها منهياً كتابه بالقول: «وفي الوقت الذي أدون هذه الكلمات في 3 كانون الأول 2003 أشعر تماماً أن هذا هو الموضع الملائم للغاية لإنهاء سيرتي الذاتية. فالساعة الآن هي الرابعة عصرَ يومٍ شتوي، وصار لزاماً عليّ اصطحاب كلابي في جولتها اليومية المعتادة».
ضدَّ التغيير
لم ينل، جراء تحولاته وتبسيطه لفرضيات الفلسفة، ما كان يطمح له من مقارباته الفلسفية فلم تعترف به المدارس الفلسفية أو المناهج ولم تؤخذ أطروحاته بما تستحق، رغم تعارضاته الكبيرة والجريئة مع أفكار كبار الفلاسفة المكرسين، وليس سارتر إلا واحداً منهم. وهو بذلك الإقصاء من صف الفلاسفة يؤكد تمرده الذي لازمه طوال حياته، ولعله الشيء الوحيد الذي لم يخضع لمبدأ التغير الذي يدعو إليه.
درس
كانت تجربتي في ترجمة كتاب (حلمُ غايةٍ ما Dreaming To Some Purpose) – السيرة الذاتية للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون، تجربة فريدة إلى أبعد الحدود المتصوّرة: فقد وفّرت لي فرصة مثالية لتذوّق متعة المكابدة الجميلة في الاستغراق مع النصوص المكتوبة بنبض الحياة اليومية والمُحمّلة بحمولة فلسفية وسيكولوجية لطالما عهدناها في الأعمال المنشورة للكاتب. وأعترفُ بوضوح أن عملي في ترجمة هذا الكتاب أعاد هيكلة الكثير من المفاهيم لديّ، كما شذّب البعض الآخر منها، ولعلّ الحصيلة الأكبر التي خرجتُ منها بعد إنجاز ترجمتي للكتاب هي تأكيد قناعتي الراسخة في ضرورة أن نقرأ أعمال أي كاتب بعقلٍ منفتح ومروءة مترفّقة بعيداً عن المواضعات السائدة عنه والتي تستند في الكثير منها على خلفيات أيديولوجية أو تهميشية لا تمت إلى الفعل الإبداعي الخالص بأية صلة. ولا ينبغي التصوّر أن الغربيين في معزل عن هذا الأمر الذي يبدو في معظم جزئياته غير مقتصر على جغرافية حضارية دون غيرها لكونه أمراً يختصّ بالطبيعة التنافسية التي تَسِمُ الفعاليات الإنسانية في عالمنا الحاضر.
من جانب آخر فإن الموضوعة الرئيسة لسيرة ويلسون الذاتية هي «الكفاح في مقابل الوهن والخذلان والاندفاع في الحياة بعزيمة شُجاعة والحفاظ على روح النزعة التفاؤلية المتوهجة والاستعداد الدائم للحفاظ على اتقاد تلك الشعلة المنعشة للروح برغم كل المُعيقات التي تواجهها وتدفعها للانكفاء المُذلّ». وأحسب أن هذا الدرس المعرفي – الحياتي – الفلسفي – السايكولوجي المركّب هو الخلاصة الرائعة لما يمكن أن نتعلمه من وراء قراءة هذه السيرة الغنية المفعمة بالألق والروح الوثّابة.
________
*الاتحاد الثقافي