خليل حاوي قيامة مؤجّلة

*خيري منصور 

تزامن رحيل خليل حاوي انتحارا مع ذلك الاجتياح الذي استباح العرب من الماء إلى الماء ومن الدم إلى الدم عام 1982، حيث اصطاد قلبه وكان يصغي كما يقول محمود درويش عنه إلى موجته الخصوصية وهي موت وحرية، وتناغما مع تقاليد ثقافية عربية أصبحت راسخة بقي خليل حاوي هاجعا في قبره ومجلد أعماله الكاملة يراوح بين التناسي والنسيان، فالثقافة العربية التي أفرزت أمثالا من طراز «كلب حي خير من أسد ميت» لا بد أن تسقط في براغماتية بهيمية لا يكبحها حتى الموت، ولأن الأسود لا تنبح والكلاب لا تزأر مهما بلغت هذه الحفلة التنكرية من تبادل الأدوار، فقد ظل حاوي ساهرا ومتفرغا للشعر في سريره الصخري حيث المساحة تمتد من ضهور الشوير إلى أقاصي القيامة.

وهذه ليست المرة الأولى التي تطرق فيها الكاتبة والناقدة ريتــــــا عوض بوابة خلـــــيل حاوي، فهي تلمــــيذته منذ أن كانت في الجامعة الأمريكــــية وسبق لها أن أصدرت كتابا مبكرا عن «الأسطورة وجدلية العابر والأبدي» كان لخليل حاوي منه نصيب.

في كتابها الذي تضمن حوارات خليل حاوي الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر كان لا بد لها أن تجد في تحقيب الحوارات زمنيا ما يشبه البوصلة النقدية، حيث يتطور وعي الشاعر وبالتالي إدراكه لشروط مهنته التي وصفها مالك حداد بالعسيرة، وبالفعل يقدم لنا هذا التحقيب رسما بيانيا لحاوي شاعرا وأكاديميا وناقدا، وكما تقول عوض نقلا عن بول فاليري وأودن فإن كل شاعر ناقد بالضرورة، والنقد العربي في تلك الآونة كان شديد الانفعالية، حيث المناخات كلها بدءا من السياسي حتى الثقافي كانت مشبعة بالنزوع نحو التجريب، لذلك اختزل خليل حاوي إلى ناطق شعري باسم القومية ومشروع نهضتها، والحقيقة ليست كذلك، فالميتافيزياء من صلب هاجسه ومن استراح في كوخه التوأمان اِلأبديان، أصغى إلى أصوات لم يصغ اليها آخرون ممن استغرقهم ضجيج المقهى والسجالات العقيمة.

إن قبر خليل حاوي جماعي بامتياز، لأن فيه أشلاء أمة فقدت (الشدّة) عن حرف الميم وتحولت في فترة ما إلى أمَةَ، والإماء لا يفرقن بين الأبناء سواء كانوا شعراء أو قارعي طبول أو سقائين.

في حواراته المتدرجة خلال عدة عقود يجيب خليل حاوي على أسئلة يعاد إنتاجها لكنه لا يعيد إنتاج إجاباته، ولأنه غرّد طويلا خارج السرب ولم ينعق مُنذرا العرب بالزوال، اقترنت أطروحاته بالقيامة، وهي قيامة قومية مؤجّلة، تشترط الافتداء والإيثار وسط هذه الكثافة من الاستعداء والإثرة.

Khalil-Hawi

لقد ضاق حاوي بعصره وهجاه لأن الفكرة تولد فيه بغيا ثم تقضي العمر في لفق البكارة، هكذا قال عمن ولدوا بوجوه مستعارة، وكان هاجس الزمن لدى حاوي عميقا ومصعدا من الوجدان إلى الإدراك كما تجسد في قصيدة الكهف، فهو عرف قسوة الانتظار وربما عقمه عندما استطالت الدقائق ومطّت أرجلها كأنها عصور، فالعقارب في الساعات كلها لا تدور.

لقد بذلت جهدا لاقتطاع عبارات من سياقاتها في معظم هذه الحوارات لكن بلا طائل، فالشاعر الذي لم ينقطع عن كونه مفكرا لم يترك المهمة كلها للقلب، لهذا يصعب اقتطاع أو اجتزاء إجاباته، وإن كانت بمجملها تكشف عن وعي مفارق بقدر ما تفتضح حقبة رمادية وهوية ممزقة قصاصاتها في مهب الريح، فالكوزموبوليتية التي تمددت نحو شرق المتوسط في أيامه صدرت بعد عقود من رحيله بطبعة جديدة هي العولمة، بحيث أصبح على الواضح ذي الملامح المحفورة بإزميل التاريخ أن يعتذر للمسخ.

ولدي حكاية لن أدخرها في هذه المناسبة، رواها لي الراحل سامي الجندي في بيروت، قال إنه عندما قدم أوراق اعتماده للجنرال ديغول شاهد في الإليزيه صورة لمثقف لا يعرفه، وبعد ذلك عرف أنه أطلق النار على رأسه عندما شاهد أول نازي يسحق العشب في باريس ببسطاره. فكم هو عدد القصور العربية التي علّقت صورة حاوي على جدرانها؟ أم أنه وأمثاله لا تقوى على حملهم الجدران الآيلة للسقوط؟

في حواراته كما في مقالاته ومقارباته النقدية بشّر خليل حاوي بقيامة قد لا تكون وشيكة وقد يسبقها سقوط ما تبقى من ثقافة متآكلة. أهمية إصدار كتاب عن حاوي في هذه الآونة التي شهدت انعطاب البوصلة الشعرية والقومية تتجاوز التذكير به إلى استدعائه كاحتياطي حضاري ووطني حيث نفتقد في هذه الليلة الطويلة الظلماء أصغر نجم في السماء وليس البدر فقط!

_________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *