عرف القرن العشرون تداولاً للعديـد مـن المـدارس والتيـارات الفكريـة والفلسـفية التـي فقدت ثقتها في مشروع الحداثة والأنوار، نظراً لما اتّسم به هذا القرن من كوارث وحروب زعزعت الإيمان في القيم التي بشّر بها فلاسفة الأنوار. فأصبحت الفلسفة نعياً لقيم الحريّة والعدالة والسلم، بعد أن كانت تتغنى بمقولات اليوتوبيا المدافعة عن النزعات الإنسانيّة.
ينشغل هذا المقال بالنظر في قراءة هابرماس للموقف النيتشوي من فكرتي الحداثة والأنوار، ضمن الفصلين الثالث والرابع من كتابه “القول الفلسفي للحداثة“. نُشر هذا الكتاب في أصله الألماني (Der philosophische Diskurs der Moderne) سنة 1985م، وترجم إلى الفرنسيّة ونشرته دار غاليمار سنة 1988م (Le discours philosophique de la modernité)، ثمّ ترجمته فاطمة الجيوشي إلى العربية سنة 1995.
تجدر الإشارة إلى أنّ هابرماس ينتمي إلى الجيل الثاني من مدرسة فرانكفورت، المنضوية تحت اسم “النظريّة النقدية”. وقد بادرت إلى مراجعة مفهوم الحداثة الغربية ونقدها، مُنشئة “قولاً فلسفيّاً في الحداثة” امتدّ من القرن الثامن عشر إلى اليوم، كما بادرت إلى تحطيم أوهام الحداثة بعد الانتهاء من تشخيص أمراضها. كان هابرماس ناقداً للمواقف الرافضة للحداثة، وقد انحاز إلى قراءة “فلاسفة ما بعد الحداثة”، بدءاً بالفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه. لقد خصّص هابرماس مؤلّفه “القول الفلسفي في الحداثة” لمراجعة جملة المواقف الفلسفية للرافضين والناقدين لفكرتي الحداثة والأنوار.
استهلّ هابرماس كتابه بالإشارة إلى محاضرته التي قدّمها سنة 1980م بمناسبة تسلّمه جائزة أدورنو، وقد كان عنوان هذه المحاضرة “الحداثة: مشروع لم ينجز”. فإذا كانت الحداثة قد فشلت، أو أنّها لم تُنجز أصلاً، فذلك يعود في نظر هابرماس إلى انكسار الحياة وتجزّئها إلى اختصاصات مستقلة معزولة، في حين يعيش الفرد العيني تجربة خالية من المعنى، لذلك يبدو هابرماس متحفّظاً على مصطلح “ما بعد الحداثة” الذي نحته الفيلسوف الفرنسي فرانسوا ليوتار انطلاقاً من مجموع الأبحاث السوسيولوجية المرتبطة بالتحديث الذي يعرفه المجتمع الصناعي المعاصر كمجتمع استهلاكي. يمكن شرح تحفّظ هابرماس على مصطلح “ما بعد الحداثة” في النقاط التالية:
أوّلاً: إذا كانت “الحداثة: مشروعاً لم يُنجز” في نظر هابرماس، فلا يمكن الحديث عن مصطلح “ما بعد الحداثة”، بل إنّ هؤلاء الذين يُسمّون أنفسهم “فلاسفة ما بعد الحداثة” ليسوا في معزل عن الحداثة نفسها.
ثانياً: لا ينبغي النظر إلى فشل مشروع الحداثة من جانبه السلبي فحسب.
ثالثاً: تقوم رؤية هابرماس على إعادة الثقة بالحداثـة عـن طريـق الكشـف عن طرق حداثية أخرى تتأسس على مفهوم “العقل التواصلي” الذي يجدّد ثقته بالعقل ويحتكم إليه في مجال الأخلاق والقانون، ويدعو إلى ظهور تنظيمات ديمقراطية وقوانين وضعية أكثر فاعليّة.
علينا أن نبحث أوّلاً في مفهومي الحداثة والأنوار، قبل المرور إلى النظر في قراءة هابرماس للنقد النيتشوي للحداثة. يبيّن معجم المفاهيم الفلسفيّة(Dictionnaire des notions philosophiques)أنّ الحداثةليست مفهوماً، ولكنّها دلالة تأويليّة تطلق على حقبة تاريخية محدّدة تميّزت بالتشريع لسلطة العقل وسيادته. تفرض الحداثة مفهوماً جديداً للإنسان، للعقل وللهويّة، يحتل مفهوم “”Modernity في الفكر المعاصر مكاناً بارزاً، فهو يشير بوجه عام إلى سيرورة الأشياء بعد أن كانت الحداثة تشير إلى جوهرها، ويفرض صورة جديدة للإنسان والعقل والهويّة، تتناقض جذرياً مع ما كان سائداً في القرون الوسطى. والحداثة هي حركة تنويريه تؤمن بالعقل، غايتها النظر إلى الحياة وإلى الإنسان بتفاؤل وحيويّة. تشمل العديد من المجالات الإنسانيّة، فتضمّ المستويات العلميّة والتقنية والاقتصادية والسياسية والأدبية والفنيّة والفلسفيّة. لا تُعدّ الحداثة مذهباً سياسياً أو نظاماً ثقافيّاً أو اجتماعياً، ولكنّها حركة تطوير وإبداع عقلانية.
لقد عاد هابرماس إلى هيغل لتحديد معنى الحداثة، ويلاحظ أنّ هذا اللفظ يستعمل للإشارة إلى حقبة تاريخيّة تُسمّى “الأزمنة الحديثة”، لذلك يكتب هابرماس: “لا بدّ لنا من الرجوع إليه (هيغل) لنفهم دلالة الصلة الداخليّة بين الحداثة والعقلانيّة دلالة ظلّت بلا إشكال حتىّ ماكس فيبر، وصارت اليوم في موضع التساؤل. وعلينا أن نعيد النظر في المفهوم الهيجلي للحداثة لنرى مدى شرعيّة ادعاء هؤلاء الذين يضعون تحليلاتهم تحت مقدّمات أخرى”[1]. إلا أنّ هيغل كان قد حكم على الحداثة بالاكتمال والانغلاق من جهة جعله الذاتيّة أمراً مطلقاً، وجعلها قادرة على التفكير في انطباقها على ذاتها، ذلك هو البعد السلبي الذي يراه هابرماس في حداثة هيغل. يكتب هابرماس: “هل تفهم الحداثة ذاتها بشكل حقيقي؟ ومنذ ذلك الحين اتخذ العقل في الحقيقة مكان المصير، ويعرف أنّ كلّ حدث يحمل قيمة أساسيّة تقرّر مسبقاً. وهكذا لا تُلبيّ فلسفة هيجل حاجة الحداثة إلى بلوغ تأسيسها الذاتي إلا بمقدار تجريد الراهن من القيمة و(…) النقد. وفي نهاية الأمر، تُجرّد الفلسفة عصرها من القيمة، وتقضي على اهتمامنا به وتنكر عليه إمكان نداء يرسله من أجل تجدّد ناقد لذاته”[2].
لقد كان نيتشه واحداً من الفلاسفة الألمان الذين فكّروا في الحداثة بشكل جذريّ وريبي، فالحداثة انبنت بالنسبة إليه على ثقة مطلقة في العقل، لكنّها أفرزت للإنسان العديد من الآلام والمآسي رغم التزامها بتحقيق سعادته ورفاهيّته. لذلك سعى نيتشه إلى تحطيم وتعرية المفاهيم التي جاءت بها الحداثة وبشّرت بها، على غرار مفهوم التطوّر، الإنسانيّة، الهويّة الثقافيّة، الهويّة الألمانية أو الأوروبية[3].
إذا كان نيتشه قد سمّى الفيلسوف “طبيباً للحضارة، فذلك من جهة قدرته على تشخيص الأمراض التي أضرّت بالحضارة وألحقت بها الفساد، بدءاً من سقراط نفسه الذي يعتبره مسؤولاً عن انحطاط الحضارة اليونانيّة وانحطاط الفكر الفلسفيّ، من جهة اهتمامه بالعقل على حساب الحياة وعلى حساب متطلّباتها الاستيتيقيّة، فقد اعتبر سقراط التراجيديا الإغريقية انحطاطاً للفنّ وللفكر وللحضارة. لقد كانت الحضارة الأوروبيّة في عصر نيتشه انعكاساً وامتداداً لعصر النهضة بصورة غير مباشرة ولعصر الأنوار والحداثة بصورة مباشرة. تشير الحداثة إلى الفترة التاريخيّة من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين، وتميّزت هذه الحقبة التاريخيّة بتوفّر جملة من الشروط الحضاريّة والعقائديّة الخاصّة، أوّلها الإيمان المفرط بالعقل والعلم والحقيقة، ومناصرة فكرة التقدّم التي راجت أكثر في ظلّ هيمنة الحركة الرأسماليّة وما انجرّ عنها من إنجازات علميّة وصناعيّة. قامت الحداثة على إثبات المعقول في مقابل التنكّر للجسد والحسّ والغريزة (اللامعقول)، لذلك عمد نيتشه في أغلب كتبه، وخاصّة فيما أبعد من الخير والشرّ، إنسانيّ مفرط في إنسانيّته، اعتبارات على غير أوانها، ولادة التراجيديا، عمد إلى نقد فكرة الحداثة والأنوار، رابطاً الأنوار نفسها بفكرتي الهيمنة والاستبداد. فإن كان التقدّم في العلوم والتكنولوجيا مثلاً مقصوداً لأجل سعادة الإنسان، فإنّهما قد حوّلا حياة الإنسان إلى مأساة. لقد كان العلم قادراً على اجتناب الألم، لكنّه كان في الوقت نفسه جالباً لأشكال أخرى من الآلام، لقد سلب الإنسان أفراحه وجعله يزداد بروداً كلّ يوم. يكتب نيتشه في إحدى شذراته المتخلفة: “إنّ نشاط العلم شبيه بنشاط العنكبوت الذي يحيك خيوط بيته، يصطاد فريسته ويمتصّ دمها”[4].
يُبدي نيتشه موقفاً سالباً من الحداثة ومن الأنوار، ومن الحضارة الأوروبيّة إجمالاً، إذ يشكو المشروع الحداثي التنويري من أزمة تواطئه مع التقنية. لقد تضخّم الإنسان الخارجيّ على حساب الإنسان الداخليّ، لقد انخسفت قيم الاقتدار تحت منظومة تكنولوجيّة لا ترى من الإنسان إلا ما ينتجه، فأصبح الفرد رهين الآلة ورهين فكرة التقدّم. فأنتجت هذه الحداثة حركة عدميّة أدّت إلى زوال كلّ القيم الحضاريّة العظيمة. لقد صارت شعوب الحداثة والأنوار سائرة نحو التفكّك الداخليّ، نظراً لفقدانها كلّ شعور بالعظمة، وكلّ إحساس بالأصل وبالزمان.
أفرزت الحضارة الأوروبية قيماً للانحطاط وللاستبداد، رغم كونها تنادي بالأنوار. فإن كان الأمر كذلك فإنّ الحداثة الأوروبيّة حسب نيتشه تسير نحو كارثة.
يشير هابرماس إلى جملة الانتقادات الموجّهة نحو الحداثة ويُلخّصها في الاتّهام القائم ضدّ عقل يتأسس على مبدأ الذاتيّة “لا يفضح كلّ الأشكال الظاهرة للقمع والاستغلال إلا ليضع مكانها السيطرة التي لا تمسّ للعقلانيّة نفسها”[5]. إنّ ما يقع فيه هذا العقل هو نسيان أشكال القمع الظاهرة، بل إنّ الأخطر من ذلك هو أنّ الأنوار جاءت لتضع مكان الاستبداد – الذي تزعم تجاوزه – أدوات أخرى للسيطرة، فحوّلت الذوات إلى مواضيع، وعزّزت تواجد أشكال متخفيّة من الهيمنة. إنّ هذه الأنماط الجديدة للهيمنة التي بثّتها الأنوار في كلّ مكان هي أنماط مخيفة تقع صناعتها بشكل متخفٍّ، ويقع انتشارها انتشاراً مخيفاً ومستهجناً[6].
2 ـ هابرماس قارئاً نيتشه: الأنوار والاستبداد
تكون الحداثة في نظر نيتشه وفي قراءة هابرماس نوعاً من الملهاة التراجيدية، الجامعة بين الضحك والبكاء، بين الأنوار والاستبداد، بين الدعوة إلى الحريّة وممارسة الهيمنة، فتكون من جهة أولى ممتلئة بالأمل الثوري، وتكون من جهة ثانية مجرّدة من أدنى قوّة على الإمساك بزمام الأمور. تصير الأنوار في هذه الحالة قوّة رجعيّة تظهر لنا في قالب ثوريّ، لذلك اعتبر نيتشه الحداثة ومنتجاتها التنويرية ضرباً من إرادة الاقتدار التي انحرفت عن هدفها الذي جاءت لأجله، فأصبحت ارتكاسيّة مرتدّة نحو عقلانيّة جوفاء لا تعي دورها ولا تنقد مفاهيمها ولا تراجع مآلاتها[7].
لعلّ ما يلوم عليه هابرماس هيغل هو عدم نقده لادّعاءات الحداثة، لذلك عمد نيتشه ضمن الجزء الثاني من اعتبارات على غير أوانها (Considérations inactuelles)[8]إلى مراجعة موقفه من التاريخ بذكر مضّاره ومساوئه، مثلما بيّن ضمن العنوان الفرعيّ “في منفعة ومضّار التاريخ”، فلا يهتمّ نيتشه بالتاريخ إلا على قدر خدمته للحياة، بل إنّ الإسراف في الاعتماد عليه يطمس شعلة الحياة فيتلاشى بريقها وجمالها[9].
إنّ جدل العقل في التاريخ وسيرورته من مرحلة الذات، مروراً بمرحلة الموضوع وصولاً إلى ما هو مطلق، هو جدل دالّ على إخفاقات ثلاثة لمشروع الأنوار، وانشطار للحداثة انطلاقاً من قواها الفاعلة والمحرّكة. يعني ذلك أنّ مشروع الأنوار كان محتوياً منذ البدء على بذرة تآكله الباطني والذاتيّ، لكونه عمل على نحت مفهوم العقل على قياس برنامج حركة الأنوار نفسها، وهو ما أنتج تنافراً بين مفهوم العقل وما سيصدر عنه من جدل تاريخيّ يحمله من المعرفة المصالحة للذات، نحو حيازة محرّرة للمطلق لم تمكّنه من تخطّي عتبات الحداثة وعثرات الأنوار[10].
إذّاك عمد نيتشه إلى مراجعة مشروع الأنوار بوضع العقل والذات على محكّ النقد المحايث، فكان مخيّراً بين أمرين: إمّا أن يتخلّى عن الحداثة قطعاً، وإمّا أن يراجع مفهوم العقل لكونه المسؤول عن فكرة الأنوار المؤديّة بدورها لا محالة إلى الاستبداد. لقد ألحق الوعي الهيغلي بالتاريخ، في نظر نيتشه، تشويهاً فظيعاً بالوعي الحديث، لاحتوائه على مضامين جوفاء، لذلك حاول نيتشه إعادة تطبيق جدل العقل على مشروع الأنوار كما فهمه أنصار المذهب التاريخي، من جهة الفضح والكشف عن الغلاف التاريخي الذي يخفي وراءه فكرة قاتمة عن الحداثة، تبرّر الاستبداد تحت اسم الأنوار[11]. بيد أنّ نيتشه لن يستعير المنهج التاريخي من هيغل إلا لإماطة الّلثام عن المضّار التي يمكن أن يجرّنا إليها جدل التاريخ، ولفضح أشكال القمع والاستبداد التي توارت وراء ثقة مطلقة في العقل. لذلك فإنّه يستبدل “العقل” بالأسطورة، تمهيداً لبحث جينيالوجيّ في التاريخ، يجعل من الأسطورة الأصل التاريخيّ الأوّلي. يتعيّن على هذا الأصل الأسطوريّ أن يحلّ مسألة التاريخ، مسألة الحداثة وكذلك مسألة استبداد الأنوار.
يرى نيتشه أنّ بناء الحداثة ليس رهين التقدّم إلى الأمام، وإنّما علينا العودة إلى الوراء، إلى الأصل الأسطوريّ. يعني أنّه يتعيّن عليه إعادة بناء المأساة الإغريقيّة (ولادة التراجيديا) التي ستقودنا حتماً إلى زمان العظمة. لا تقوم الأنوار الحقيقيّة إلا من خلال فهمنا للماضي، والتعمّق في الحضارة الإغريقيّة لإدراك معاني العلوّ والعظمة والأصل. لم تكن حداثة الأنوار في نظر نيتشه قادرة على فهم الزمان، ولا على فهم التاريخ، ولا على فهم الماضي، لذلك لم تستوعب طرق استعارة عبارات من قبيل “ولادة التراجيديا الإغريقية من رحم الموسيقى”، ولم تكن طامحة إلى فهم الماضي لأنّها عيّنته منذ البدء زماناً متروكاً. لقد كانت الرؤى الحداثيّة التنويريّة عقلانيّة أكثر من اللّزوم، لذلك أجهضت ولادة الأنوار وحلّ محلّها شبح الاستبداد المخيف. هكذا قضت الأنوار بانحلال الأسطورة وزوال العظمة، فتمّ حلّ كلّ ما هو قديم، وحُكم على الحداثة أن تكون العصر النهائيّ للتاريخ[12]. فكيف يمكن أن نحكم على الإنسان بالفناء ضمن عقلنة تاريخيّة؟
يردّ نيتشه هذا المآل المأساويّ لعقل الأنوار إلى النهم التاريخيّ، أو التخمة التاريخيّة التي غيّبت في الإنسان جانبه الفنيّ والأدبيّ والأسطوريّ والشعريّ، وركّزت في مقابل ذلك على ما هو جدليّ تاريخيّ رامية عرض الحائط كلّ ما أسّسته حضارة اليونان. لقد ضاع المعنى عندما ضاع هذا الأصل، هذا الوطن الأسطوريّ[13].
إنّ الفكر الحداثيّ هو فكر تقدّميّ غير تراجعيّ، لذلك لا يمكنه أن يكون جينيالوجيّاً، ولا يمكنه العودة إلى الأصل، ولن يتمكّن من فهم ما يقصده نيتشه بالأصول الأسطوريّة. لا تستفيق هذه الأصول الأسطوريّة إلا بالنسبة لمن يدرك معاني فلسفة المستقبل، لذلك يكتب نيتشه قائلاً: “إنّ حكم الماضي هو على الدّوام حكم عرافة، لن تدركوا معناه إلا إذا كنتم مهندسي المستقبل، والعارفين بالحاضر”[14]. يشحذ نيتشه الوعي الحديث للزمان بصور فنيّة أسطوريّة، فإذا كان المنهج التاريخي يقدّم الحداثة على أنّها معرض من اللحظات المتتالية والمتجاورة على شكل معرض للّوحات الفنيّة، فإنّ الفهم النيتشوي بالزمان مدعوّ إلى رسم دائرة “العود الأبدّي” حتّى تلتقي الحداثة مع القديم. ينبغي على نيتشه أن يُعوّل على فاغنار لينقذ جوهر الأسطورة وكذلك جوهر الدّين. تعمل الأسطورة على تفكيك مركزيّة الوعي التنويري وتطلعه على تجارب قديمة فائقة العظمة، فمثلما انتصر فاغنار على الثقافة الإسكندريّة وجعل الشعب ثائراً في وجهها، سينتصر نيتشه هو الآخر على ثقافة الأنوار وسيجعل شعب الحداثة ثائراً في وجوه الاستبداد التي طغت على حريّته تحت اسم العقل. يعيد نيتشه كتابة الأسطورة بشكل فنيّ، نظراً لوعيه بضرورة إعادة بعث الحياة في جسد المجتمع الذي أنهكته نظريّات الحداثة الزائفة وتحريكاً للقوى التي تجمّدت في زمان جدليّ متصلّب. ينفتح الشعب أسطوريّاً وفنيّاً على تجارب قديمة تكون قادرة على فضح بصمات عقل شارف على نهاية الإنسان نفسه، وأقدم على تجفيف وجوده من كلّ معنى. لذلك يلحّ نيتشه في التشديد على أن يكون هذا الشعب “فنّان المستقبل”[15].
لقد عمل نيتشه على إعادة ولادة التراجيديا من روح الموسيقى، لكنّه تخلّى فيما بعد عن غنائيّات فاغنار، ساعياً إلى إنشاء موسيقى ذات أصول ديونيزية لا تمتّ إلى الرومانسيّة الألمانيّة بأيّة صلة. اعتبر نيتشه ديونيزوس إله المستقبل، وجعل من الشعر مربّياً للبشريّة، إيماناً بأنّ الميثولوجيا الجديدة قادرة على إحياء أخلاق الشعوب، وعلى تعزيز إرادة الاقتدار لديه[16]. يكتب هابرماس: ” … في عصر بدأت فيه الأنوار تشكّ بذاتها يمكن لعبادة ديونيزوس، التي كانت تصون حيويّة تقاليد دينيّة قديمة، ليونان أوربيدوس، ونقد السفسطائيّة، أن تمثّل جاذبيّة ما، غير أنّه وفقاً لرأي فرانك السبب الرئيسي لإعادة التقييم هو أنّ بإمكان ديونيزوس الإله الآتي إحياء أمل بالخلاص. (…) غير أنّ ديونيزوس سيعود ذات يوم، يبعثه السرّ المقدّس ويخلّصه من الجنون، وبهذا يتميّز عن كلّ آلهة اليونان بوصفه إلهاً غائباً بُشّر بعودته”[17].
لماذا العودة إلى اليونان إن كان نيتشه يعتبر العودة إلى الأصول تؤدّي إلى البربريّة في كلّ مكان؟ لا يمكن لنيتشه أن يستعيد التراث اليونانيّ في معنى العودة إلى الأصول، فنيتشه ليس مفكّر أصول، لأنّه فيلسوف النسيان لا فيلسوف الذّاكرة. فالنسيان هو الأفق الذي يصبح فيه الحديث ممكناً عن “الإنسان التراجيديّ”. لا تعدّ العودة إلى اليونان تمجيداً لهم أو تأريخاً لنموذجهم وإنّما هي استحضار لممارساتهم الفنيّة والفكريّة من جهة المحاكاة لأصل فقده الإنسان الغربيّ الحديث. يعود نيتشه إلى اليونان المجازيّ لا إلى اليونان التاريخيّ، لذلك تعتبر ولادة التراجيديا عودة تأويليّة ترسم لنا نموذجاً مخصوصاً من البشر، عرفوا كيف يتحمّلون سخرية الأقدار وعبثيّة الوجود.
لقد تأوّل نيتشه أصل التراجيديا الإغريقيّة انطلاقاً من ثنائيّة الأبولوني والدّيونيزوسي، ويتعلّق الأمر بشرح كيف يعيش اليونان حدسهم الأبولوني والدّيونيزوسي. إنّ أبولون وديونيزوس هما إلهان أودع فيهما الإغريق أعمق معتقداتهم الجماليّة، ويمثّلان صراعاً بين غريزتين اثنتين: الحلم والنشوة. تنتظم الفرجة التراجيديّة حسب تدرّج ثلاثيّ: البطل التراجيديّ والمتفرّجون والجوقة (الكورس)، ويشكّلون كلاً واحداً. تعبّر هذه الوحدة عن عبقريّة التراجيديا الإغريقية وعن عظمتها، ويحاكي هذا التناسق انسجام عناصر الطّبيعة، لذلك تتماهى شخصيّة الفنّان التراجيديّ كليّاً مع وحدة الوجود الأزليّ، ويتحرّر من الذاتيّ ومن الفرديّ ليصبح شخصيّة دون ذات، فينجو من الإرادة الفرديّة المتغطرسة بفضل ظهورها على نحو فنيّ[18].
أدرك نيتشه أنّ أسطورة ديونيزوس هي الكفيلة بإحياء شعب أفقدته الأنوار حتى أشكاله البدائيّة للتديّن، وجرّته وراء صراع الفرديّات الناجم عن ضياع خلفيّة التضامن الاجتماعي حتّى في طقوسه المسرفة[19]. يلاحظ هابرماس تقارباً بين صورة ديونيزوس الإله الغائب الذي يبشّر بمجيئه، والإله المسيحي المخلّص للبشريّة. بيد أنّه يُدرك أنّ عودة نيتشه لديونيزوس ليست لها غاية أخرى غير العمل على تحرير الشعوب من سلطة الأنوار من جهة النظر في إمكانيّة تحقّق الوعود المسيحيّة. يدين كورس المأساة الإغريقية بنقده للحداثة، فيعيد النظر في ذاتيّة الأنوار التي فرضت بشكل استبداديّ، ليخلّصها من عزلتها ومن ضيقها، وتصبح منفتحة على إمكانات تحرّر أصليّة[20].
لقد تخلّى نيتشه عن فاغنار لكونه قد “تكثّفت فيه الحداثة حقّا”، ولكونه “يشارك الرومانسيين أفق تحقّق العصر الحديث”[21]. لا ينقد نيتشه الحداثة وفق مثال تحريريّ، لكنّه يجعل العقل المتمركز على الذات في مواجهة مع مطلق آخر للعقل، هو الفنّ الإغريقيّ نفسه، من جهة كونه عقلاً مرحاً تخلّص من ضرورات المعرفة ومن كلّ أشكال الالتزامات النفعيّة أو الأخلاقيّة. ينبغي إلغاء الفرديّة التي فرضتها حداثة الأنوار من خلال الاتحاد بالطبيعة. لذلك فإنّ “إنسان الحداثة الذي فقد الأسطورة لا يمكنه أن ينتظر من الميثولوجيا الجديدة إلا شكلاً من الانعتاق يُلغي كلّ الوساطات”[22]. إنّ عدميّة عصر الأنوار راجعة في تقدير نيتشه إلى غياب الآلهة، لذلك يبشّر شعب الحداثة بقدوم هذا الإله الغائب “ديونيزوس”.
لمّا كان مفهوم الحداثة متأسّساً على نظريّة في السلطة، بدءاً بسلطة العقل نفسها، فإنّ نيتشه يُدين هذا المفهوم وينقده كاشفاً تضليله للعقل. غير أنّ النقد النيتشوي للحداثة يستعير اقتدارات فنيّة تجعل من النقد ممكناً بصورة إيحائيّة، لأنّه “لا يعترف بالملكة النقديّة للتقييم، التي شحذها الاحتكاك بالفنّ الحديث بمثابة لحظة للعقل الذي يبقى مرتبطاً -على الأقلّ بالإجراء بسير التبرير القائم على الحجّة- بالمعرفة الموضعة (objectivante) وبالوعي الأخلاقيّ”[23]. لذلك تصطدم رغبة نيتشه بإزالة التضليل الذي يحوم حول فكرة الحداثة والذي أنتجته نظريّة استبداديّة بمعضلة نقد العقل. يقع حلّ هذه المعضلة بالعودة إلى التراجيديا الإغريقية، أي باختبار العلم من منظور الفنّان. هاهنا يقترح نيتشه إمكانيّة النظر إلى العلم فنيّاً من خلال نظرة تحرّكها وسائل العلم. غير أنّه يشترط أن تكون هذه المنظوريّة تشاؤميّة ريبية، ولا تستند إلى أرضيّة ميتافيزيقيّة أو رومانسيّة[24].
خاتمة:
إذا كان هيغل قد رأى في الحداثة وفي الدّولة الحديثة الشكل الأقصى لتحقّق “الروح المطلق”، فإنّ نيتشه اعتبر الحداثة تكريساً لهيمنة جوفاء، واعتبر الدّولة “آخر الأصنام” لكونها الصنم الذي ابتدعه الإنسان الأخير. لذلك فإنّ المؤمنين بهذا الصّنم هم “الفائضون عن اللزوم”، الذين يظنون أنّ السّعادة جالسة على العرش، فيتسلّقون الواحد فوق الآخر بغرض الوصول إلى السلطة. إنّ الشعب والدّولة ضدّان لا يجتمعان في نظر نيتشه، فعندما توجد الدّولة يختفي الشعب. هكذا ابتلعت الدّولة الحديثة الشعب، فصار الإنسان الحديث لا هو بالسّعيد، ولا هو بمانح السّعادة. قادته دولة الثقافة، دولة الحداثة، نحو التفكّك والانحطاط، نحو إرادة منحطّة فصار يتجرّع السمّ في وجود الدّولة. تعبّر الدّولة الحديثة عن إرادة النفي وقوى الارتكاس، لذلك كان يشبّهها دوماً بكلب منافق.
لذلك لم ينفكّ نيتشه عن نقد الدّيمقراطيّة الحديثة، من جهة كونها نتاجاً من نتاجات الأنوار، فكانت تعني بالنسبة إليه “موتاً تبتلى به الدّولة الأرستقراطيّة” وتعكس انحطاطاً للممارسة السياسيّة.
إنّ اقتران الأنوار بالاستبداد ضمن قراءة نيتشه للحداثة، هو اقتران فاضح لمدى انحطاط القيم التي نادى بها فلاسفة الأنوار، وتأكيد على أنّ الثقة المطلقة في العقل والعقلانيات، قد جرّدت الإنسان من قيم أخرى أكثر عمقاً وأكثر حميميّة لا يمكن أن يقدّمها له النموذج العلمي مهما بلغ أقصى درجات النجاعة. لذلك يشدّد نيتشه على ضرورة العودة إلى المثال الفنيّ الإغريقيّ ليستلهم منه دواء لإنسان أنهكته فكرة الحداثة وانطلت عليه حيلة الأنوار.
* نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون، العدد الثامن، 2016، إصدارات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.
[1]- هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطمة الجيوشي، دمشق، منشورات وزارة الثقافة، دراسات فلسفيّة، 1995، ص 12
[2]- هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، ص 70
[3]- Jacques Le Rider, « Nietzsche a pensé la modernité de manière radicalement sceptique », Dossier, « Pourquoi lire Nietzsche aujourd’hui », Magazine Littéraire, Nietzsche contre le nihilisme, N° 383 Janvier 2000, P.27.
[4]- Nietzsche, Œuvres Complètes, Fragments posthumes, Tome XIV, Début 1888-début Janvier 1989. La philosophie à l’époque tragique des Grecs, suivi de Sur l’avenir de nos établissements d’enseignement, Textes et variantes établis par G. Colli et M. Montinari, Traduits de l’allemand par Jean-Louis Backes, Michel Haar et Marc B. de Launay, paris, Gallimard, 1990, 14, [83], p.61. (الترجمة من عندنا)
[5]- هابرماس، القول الفلسفيّ للحداثة، ص 91
-[6]هابرماس، القول الفلسفيّ للحداثة، ص 91
[7]- هابرماس، القول الفلسفيّ للحداثة، ص 91
[8]- Nietzsche, Œuvres philosophiques complètes, Considérations inactuelles, II, « De l’utilité et des inconvénients de l’histoire pour la vie », Textes et variantes établis par G. Colli et M. Montinari, Traduits de l’allemand par Pierre Rusch, Paris, Gallimard, 1990.
[9]- راجع، فوزية ضيف الله، “من فينومينولوجيا الذاكرة إلى جينيالوجيا النسيان”، يتفكّرون، الهويّة والذاكرة ومسارات الاعتراف، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، العدد الرابع، صيف 2014، ص 82
-[10] هابرماس، القول الفلسفيّ للحداثة، ص ص 140ـ141
[11]- هابرماس، القول الفلسفيّ للحداثة، ص 141
[12]- هابرماس، المصدر نفسه، ص ص 141-142
[13]- Nietzsche, La Naissance de la Tragédie, in Œuvres Complètes, Tome 1, Trad. Ph. Lacoue-Labarthe, Paris, 1977, p.147.
[14]- Nietzsche, Considérations inactuelles II, p.303.
[15]- Nietzsche, La Naissance de la Tragédie, P.69.
-[16]هابرماس، المصدر نفسه، ص ص 144-145
-[17] هابرماس، المصدر نفسه، ص 150
[18]- Nietzsche, La Naissance de la tragédie, § 2 et §3, pp.46-50.
-[19] هابرماس، المصدر نفسه، ص ص 150-151
[20]- هابرماس، المصدر نفسه، ص ص.151-152
[21]- هابرماس، المصدر نفسه، ص 152
[22]- هابرماس، المصدر نفسه، ص 154
-[23]هابرماس، المصدر نفسه، ص 158
-[24]هابرماس، المصدر نفسه، ص ص 151-152
________
*مؤمنون بلا حدود