تواصلية هابرماس لحداثةٍ لم تكتمل بعد



*فهد الشقيران

نظرية “التواصل” للفيلسوف المعاصر الألماني (يورغن هابرماس) هي نظرية فعل ونظرية تبحث في “عمق الوعي” وتأتي كتتويج دام مخاضه طويلاً في ألمانيا خاصةً وفي أوروبا عامةً، تأتي نظرية التواصل التي لا تزال تشرح كل لحظة والكتب التي تفرد لتوضيحها وإبانة جذورها كثيرة جداً، وهو مايصعّب من مهمة شرحها “فلسفيًّا” من كافة جوانبها، فهذا العمل يحتاج إلى مبحث خاص، بيد أنني سأقارب هذه النظرية ودورها في ترتيب علاقات الثقافة المتعددة والثقافة الواحدة في سبيل صناعة مناخ كبير ملؤه التجاوب.

لقد سعى هابرماس إلى بلوغ عقلنة جديدة يسميها “العقلنة التواصلية” في مقابل “العقلنة الأداتية” التي رفضتها “مدرسة فرانكفورت” –التي يمثل هو تطوّرها وآخر كبارها- حيث رفض العقل الأداتي منذ أدرنو وهربرت ماركيوز في مؤلفاتٍ ترجمت للعربية، ليقوم الألماني هابرماس بصياغة عقلنة تواصلية تضع على رأس أولوياتها إعادة ربط صلة الفرد بالآخر الشريك دون ضغوط أو إكراه بغية تشكيل لحمة النسيج الاجتماعي وفق أنموذج إيتيقيا المناقشة، وذلك باستلهام من المنابع الأولى للعقلانية التنويرية الأصيلة كما تصورها المشروع الحداثوي بالغرب وذلك سيهيئ الانتقال من مشروع “العقلنة، إلى العقلانية” وهذا بحد ذاته أمر بالغ الدلالة.
لذا فهو وبانطلاق من مشروعه الكبير أطلق في محاضرةٍ له في أيلول من عام 1980 فكرة:(الحداثة مشروع لم ينته بعد) وذلك إبّان تكريمه لجائزة آدرنو. أخذ على عاتقه إتمام ما بدأه كانط وهيجل باستهداء من كافة النتاج الذي تلاهما، لكل ما سبق يجد هابرماس نفسه على نقيض من “ميشيل فوكو” و “جاك دريدا” كما ورد ذلك في معرض نقاشه لهما في كتابه الضخم “القول الفلسفي للحداثة” هذا المسعى جعله يتبنى الكثير من المقاربات التداولية حول اللغة كالصدق والنزاهة والدقة، فقد توصل إلى نتيجة مفادها أن لا يمكنه تأسيس نمط تواصلي جديد يعبر عن مجتمع جديد دون أن يبلغ النقد أداة التواصل الأولى ذاتها، وهي اللغة، سواء تعلق الأمر بالتواصل الذاتي أو بالتواصل البينذاتي بما هو الدعامة القاعدية لعملية التشارك الاجتماعي.
ولجهة بناء هذا التشارك يؤكد “يورغن هابرماس” على ضرورة إحداث تمييز أساس بين العمل والفعل والنشاط، ذلك أن مفهوم العمل ووفق دلالياته الحالية وبخاصةٍ تلك المنحدرة إلينا من التراث الماركسي، قد يشدنا إلى تثمين الظاهرة المادية والتقانية فقط، في حين أن مفهوم الفعل ومن ثمة النشاط يمتلك قدرة تخيلية، مجازية، تتجاوز الأفق المادي إلى أفق لغوي، منطوقي، مقولي، يحيل مباشرةً إلى مفهومٍ أشد تأثيرًا في هيكلة البناء الاجتماعي وهو التفاعل: التفاعل بين الصورة والمادة، التفاعل بين الواقع والعقل، التفاعل بين الذات والموضوع، التفاعل بين اللغة ومحيطها، لأن طرفي المعادلة أي اللغة ومحيطها لا قيمة لهما، فينومينولوجيًا إلا عبر تفاعلهما بل في تداخلهما واستغراق كل منهما في الآخر.
من هنا فإن الفعل التواصلي عند هابرماس يأخذ منحىً تجريبيًّا وفق النموذج الاسمي، صار يعرف الآن بـ(التداولية الشاملة) في مقابل (التداولية الترنسندنتالية) التي يخطّها صديقه (آبل) في طريق مواز. وهابرماس رغم تمظهراته المتعددة كفيلسوف متعدد الاهتمامات والمشارب إلا أنه بقي وفيًّا للجدل الهيجلي.
في حوارٍ أجرته مجلة (Autrement) الفرنسية (العدد 102) سنة 1988 مع يورغن هابرماس، اختصر هابرماس نظرته في “التواصلية” بقوله: “فالفعل التواصلي يقوم على الربط بين خطط مختلف الفاعلين باستعمال القوة المحفزة عقلانيًّا التي تستلزمها أفعال اللغة الإنجازية. زد على ذلك أن الفعل التواصلي لا يقبل أن يعوض بممارسات من جنس آخر مهما يكن السياق. فإذا كنا نربي على سبيل المثال أبناءنا أو ندرس طلابنا، أو كنا نسعى إلى إنعاش الروابط الاجتماعية بكيفية مشتركة، فإننا لا نستطيع رفض الانخراط في هذه الممارسة التواصلية. وهذا يعني أن إجراء الإدماج الاجتماعي وتحقيق الاتصال الثقافي والتكييف الاجتماعي أمور لا تتم إلا استنادًا إلى الفعل التواصلي”.
وضمن المجال يقترح “هابرماس” التداولية أو الفعل التواصلي بوصفه خروجًا عن المقترحات القديمة التي كانت سائدةً من أجل الفهم أو الحجاج، وهو يستطرد حين يكتب:”ألسنا هنا أمام المغالطة التطبيعية؟ إن هذه الصعوبة تمثل بالضبط السبب الذي يدفعني إلى البحث عن متابعة التحليل المتعالي ولو على نحو يختلف قليلا عما هو متعارف عليه؛ أي أن الأمر لا يتعلق بتحليل شروط إمكان المعرفة بالمعنى الكانطي أو الهوسيرلي، بل بتحليل للشروط الضرورية للفهم. فإذا نظرنا عن كثب إلى الشروط التي تكون ضرورية لكي نتفاهم عن شيء في العالم، فإننا نكتشف شيئًا مثيرًا للغاية، أي نكتشف افتراضات تداولية ذات محتوى معياري لا يمكن تلافيها أو التغاضي عنها. بمجرد ما نقبل الانخراط في الكلام، وقبل الدخول في أي صورة من صور الحجاج، يتعين علينا أن نفترض بكيفية متبادلة أننا مسئولون. وهذا يصدق أيضًا على الخطاب اليومي”.
نظرية هابرماس في الحوار والتواصل تمكّن من تطبيقها في أكثر من محاولة، من بينها حواره مع البابا السابق “بنديكتس” حول الدين والعلمنة والسياسة، ذلك الحوار كان حدَثًا مهمًا بين رمزين أحدهما ديني والآخر علماني، تشاءم “هابرماس” بعد أحداث 11 سبتمبر من إمكانية انتشار هذا المشروع التواصلي ضمن فتح مجالات “الحوار العمومي” اعتبر “هابرماس” ذلك الحدث بأنه أعنف مرحلة تضرب فيها فلسفة التواصل –بحسب “هابرماس” في لقاء معه بعد 11 سبتمبر- والذي شخّصه على أنه “عطب في التواصل”.
“هابرماس” ساهم في كتابه الضخم “القول الفلسفي للحداثة” بالتاريخ للمفاهيم وتطورات حركة الفلسفة الغربية، وبخاصةٍ مع منعطفاتها في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، نظرية التواصل جزء من مشروع “هابرماس” الذي يحاول فيها أن يكون وفيًا للجدل الهيغلي وللصرامة الكانطية، وأن يعتبر المشروع “مابعد الحداثي” هو جزء من الحداثة التي لم تكتمل، مفرقًا بين نقد العقل ونقد الفهم، أسهم بكتبه حول الحداثة وخطابها السياسي، وعن هيدغر، وفي العلم والتقنية كأيديولوجيا، ونحو نسالة ليبرالية، في فتح أسئلة كبرى هي موضع شغلٍ في ورش الفلسفة التي يعد “هابرماس” أبرز رموزها الأحياء، امتاز نص “هابرماس” بالصرامة المنهجية، والتسلسل المفهومي. تلك فكرة موجزة عن نظرية التواصل لدى “هابرماس” والتي شرحت بأقلام عربية على رأسها عمر مهيبل، وإسماعيل المصدق، وعصام عبدالله وآخرون.
_______
* كاتب وباحث سعودي.
مجلة (المجلة)

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *