المشاؤون

*د. حسن مدن

ارتباط المشي بالتَّفكير عادة موغلة في القدم، فالكثير من النظريات والفلسفات الكبرى وضعها أصحابها وهم يمشون، وحين تلمع في الذهن فكرة، فإن أول ما يفعله صاحبها إذا كان جالساً هو النهوض والمشي حتى ولو لبضع خطوات في مكتبه أو غرفته، كأنه يعلن انتصاره أو يحتفي بظفره بها، ربما لأن الوقوف على قدمين بظهر مستقيم ورأس مرفوعة فعل حرية. وليس مصادفة أنَّ واحدةً منْ أهمِّ المدارس في الفلسفة اليونانية القديمة كانت تسمى بالمشّائين؛ وهم من أتباع الفيلسوف أرسطو، وتقوم على تقديم المناقشات الفلسفية أثناء السير بين الأشجار وفي الحديقة، لأنهم كانوا يعتقدون أن هضم الأفكار واستيعابها يكون فعالاً أثناء المشي. ويقال إن أصحاب هذه المدرسة اقتدوا في ذلك بمعلمهم أرسطو الذي كان يعلم تلاميذه ماشياً.

لكن مصادر أخرى تُرجع نشوء هذه المدرسة إلى ما قبل ذلك، حيث يقال إنها تأسست في أثينا في عام 335 ق م، واستمرت صامدة بنفس أسلوبها وطريقتها ما يقارب الألف عام، حيث كان أتباعها يشكِّلون أفكارهم ويصوغون خلاصاتهم الفلسفيَّة وهم يمشون، ويقال إنَّهم كانوا يمشون مثنى أو ثلاثا، وأحياناً يكون ذلك في ساحة داخليّة ليست كبيرة يقطعونها ذهابا وإيابا، وهم يتجاذبون الأفكار التي تشغل بالهم. ومن أشهر زعماء هذه المدرسة « إيفسيوس» وهو عالم نبات يوناني شهير، وستراتو لامبساكوسي أحد فلاسفة المادة . و«أندرونيكوس الروديسي» الذي وثق ونشر معظم مؤلفات أرسطو . و« الكسندر الأفروديسي» الذي شرح المنطق الرياضي الأرسطي في نهاية القرن الثاني قبل الميلاد.

walk_by_the_beach_v7zww1
بيْد أنَّ المشي المنفرد، أي أن تمشي وحيدا، ينطوي على مغزى عميق، ذلك أنّه يقترح عليك مزاجاً منعشاً بالحريَّة، الحريَّة الدَّاخليَّة في المقام الأوَّل التي هي عصب التَّفكير الحرّ. المشي في الفضاء المفتوح الممتدّ بجوار البحر أو في إحدى الحدائق أو الغابات هو ما يهب الماشي الشّعور بجماليّة ذلك الفضاء المتناهي في الكبر، ويستحثُّ الحواسَّ كلَّها على التَّنبّه الشَّديد واليقظة. حين تمشي وحيداً تحقق قدراً من الانفصال عمن حولك، ما يمنح ذهنك حرية الانطلاق والتأمل، فيستدعي الأفكار ويوقظ ما هو غافٍ من ذكريات، حيث يتحول «المنولوج» الداخلي إلى ما يشبه «الديالوغ» مع الذات ، تكون فيه أنت نفسك السائل وأنت المجيب، تطرح على نفسك السؤال ثم تطلق العنان لأصوات متعددة في ذهنك كي تقدم عليه الأجوبة المختلفة، تماماً كما نفعل في وضع الاحتمالات.

كان الشاعر وولت ويتمان يجتاز مسافات طويلة سيرا على قدميه، وكتب النقاد يقولون إن القراء يحسون بخفقات قلبه السائر في قصائده اللاهثة المليئة بالتعاويذ. ومن أجمل ما كتب تشارلز «ديكنز» مقالة بعنوان «نزهات ليلية»، وذلك بعد أربع سنوات من معاناته من أرقٍ حاد كان يدفعه إلى مغادرة البيت والتجول في شوارع لندن ليلاً، وفي هذه المقالة شرح العلاقة بين أرقه وبين الحال التي يسميها حال «التشرد» مضطراً إلى المشي الطويل في الظلمة وتحت المطر، ينتابه الاحساس بالأسى والوحدة. وثمة كاتب بريطاني آخر هو هنري جيمس كان مولعاً بالمشي سيراً على قدميه مسافة أميال عدة في لندن .

Sand Footprint
وهذه ليست سوى أمثلة عادت إليها «جويس كارول أوتس» الكاتبة المولعة برياضة الركض وهي تشرح العلاقة بين «رياضة» الكتابة ورياضة المشي أو الركض. ومن وجهة نظرها فإنه لا شيء أكثر إبهاجاً وإنعاشاً للمخيلة من الركض. يحدث ذلك لأن العلق يحلق مع الجسد في الركض، كأن اللغة التي هي أداة الكاتب في التعبير تزهر مع نبض الدماغ بتوافق مع أقدامنا واهتزاز أذرعتنا. ولو دققنا في حال هذه الكاتبة بالذات لأيقنا إنها تركض عبر عالم ومشاهد مدينة روايتها، كأن فعاليتي الكتابة والمشي الحر تمتصان ما في داخل الكاتب من طاقات التوتر التي إن لم تجد سبيلها إلى الكتابة، أخذته إلى شيء من الجنون.

يمكن الذهاب في شرح الفكرة أكثر، لو لاحظنا ذلك التناظر بين الركض والحلم، فالعقل الحالم يتمتع بمقدرة هائلة على حرية الحركة والتحليق، ففي المشي، والركض خاصة، شيء من هذا التحليق، والكاتب الماهر هو، بالضرورة، كاتب محلق، تقذف به المخيلة إلى عوالم وفضاءات غامضة لا يراها سواه، وعنده، لهذا السبب، شيء من لياقة الرياضي ومهارته وعدم استكانته للكسل، وللكسل الذهني خاصةً.

ويحدث أحيانا أنْ تصادفك في يوم واحد كميّة هائلة من سوء الحظِّ تكون فوق طاقتك أو قدرتك على التَّحمل: في مثل هذه الحال عليك بالذّهاب للمشي وحيدا، ففي هذا التَّوحُّد مع الذَّات فرصة للتَّأمُّل والتَّفكير وإعادة تقييم الأمور بعقل بارد، ففي المشي بالذات «تكمن قوَّة شافيّة» بتعبير باتريك زوسكيد الذي شرح ذلك في روايته (الحمامة) ملاحظاً أنَّ الرَّتابة في تحريك قدم بعد الأخرى بإيقاعٍ متَّزن من التَّلويح بالذِّراعين على الجانبين، والتَّسارع في تردُّد النَّفس والنَّشاط الخفيف في النَّبض، والتَّوظيف الضَّروري للعينين لتحديد الاتّجاه والمحافظة على التَّوازن، كلُّها أشياء تضطر الرّوح والجسد للتَّوحُّد بطريقة حتميّة، «وتترك الرّوح حتى لوْ كانت في أشدِّ حالاتها غياباً وتثاقلاً تنمو وتتَّسع»، والمشي الذي نحن بصدد الحديث عنه هنا هو مشي الهوينى، وليس المشي السّريع الذي يمارسه هواة الرِّياضة، فهذا الأخير وظيفة قائمة بذاتها – المشي منْ أجل المشي – أما مشي (المشّائين) فهو ذاك الذي يحقِّق متعة استنفار الحواس كافّة. هذا النَّوع من المشي إذا ما كان منتظماً وفي مكان بعينه يخلق بينك وبين (الممشى) اليوميّ علاقة جديرة هي الأخرى بالملاحظة؛ لأنَّ العادة تقيم صلة بينك وبين الأشياء القائمة في المكان الذي اخترته ساحة لمشيك، وبدون سابق تخطيط تقوم كلَّ يومٍ بفحص هذه الأشياء وملاحظة ما طرأ عليها منْ تغيُّر، ثمَّ أنَّ هذا المشي في المكان ذاته، سيستدرجك مع الوقت حتى منْ دون أنْ تكون راغبا في ذلك لمراقبة منْ يأتون كلَّ يومٍ إلى المكان نفسه وفي الميعاد نفسه مثلك للمشي، وستكتشف دونما سابق تخطيط أنَّكم جميعا أعضاء في جمعيَّة اختياريَّة اسمها جمعيَّة المشّائين.

وأذكر أنَّني لاحظت أنَّ أحد المناضلين القدامى حين يريد أنْ يتحدَّث في أمر مهم، يقف على رجليه ويذرع الغرفة ذهاباً وإياباً، وهو يوجه كلامه للجالسين أمامه، ولما استرعى سلوكه هذا اهتمامي مرّات، سألته عن سبب هذه العادة، فأجاب إنّها تشكَّلت لديه في سنوات سجنه الطَّويل، فكان إذا استغرق في تفكير في مسألة من المسائل، شعر بالرَّغبة في أنْ يذرع أرجاء زنزانته مشياً، حيثُ كان المشي، ولو في مساحة أمتار معدودة، هي مساحة الزِّنزانة الصَّغيرة، يخلق لديه شعوراً بالرَاحة، يساعده على هدوء التّفكير، ولمْ يستطع التَّخلُّص من هذه العادة رغم مضيّ عقود على خروجه من السِّجن آخر مرّة، فاقترن التَّفكير العميق عنده بالمشي.

___
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *