الكتابة والمشي


هيثم حسين

لا يكتفي المشي بكونه نشاطا جسديّا، ولا باعتباره رياضة نافعة فقط، بل ينهض بمهامّ وأدوار ذهنيّة أيضا، وإن كان بطريقة غير مباشرة، ذلك أنّ الماشي يرتحل أثناء سيره في طريقه إلى عوالمه الذهنيّة، ويستعيد شريط الواقع والماضي، يمنحه ذلك الراحة والمجال للتفكير في مخطّطاته، والبدء بخطواته الأولى فيها أيضا.

المشي يدوزن إيقاع جسد الإنسان، يضبط خطواته، يرتّب تنفّسه ويساعده على ترتيب أفكاره، ينبّهه إلى بعض الأمور التي ربّما يكون غافلا عنها في زحمة تنقّلاته بوساطة النقل، يساعده على اكتشاف محيطه ومساراته أكثر، يمنحه سكينة ويدفعه إلى اقتطاع وقت للاستراحة بعده. باقتفاء أثر العلاقة بين المشي والكتابة، تمكن ملاحظة أنّ كثيرا من الأدباء والكتّاب مدمنون على المشي كعادة لا غنى عنها، ويغدو الارتباط أكثر فعالية وتأثيرا حين يكتشفون أنّ ساعات المشي تقوم بتصفية أذهانهم، وترتيب أفكارهم، بحيث تمنحهم طاقة إيجابيّة للمباشرة بمشاريع جديدة، أو استكمال مشاريع معلّقة.
يساعد المشي الكاتب على حبك خيوط عمله، واستعادة تفاصيله، تفسح له مجالا واسعا من فضاء التخييل والتذكّر، ويكون نسج العمل في الخيال الخطوة الأولى لنقله إلى الورق، والاشتغال عليه بدقّة، بحيث يتحلّى المشي بطاقة التجديد، فالنشاط الجسديّ ينعكس على الذهنيّ بإيجابيّة، ويضع عربة الكتابة في دربها الصحيح، ذلك أنّ الاحتكاك بالعالم الخارجيّ يجلو خباياه، والتمعّن فيه بهدوء يقوم بتظهير صوره المعتمة.
يقرن بول أوستر في سيرته “حكاية الشتاء” بين الكتابة والمشي، ويعتقد أنّه لكي تؤدّي عملك عليك أن تمشي. وأنّ المشي هو ما يوجد لك الكلمات وهو ما يتيح لك سماع إيقاعات الكلمات فيما تكتبها في ذهنك. كما يرى أنّ الكتابة تبدأ في الجسد، هي موسيقى الجسد، حتّى وإن كان للكلمات معنى فإن موسيقى الكلمات تكون حيثما تبدأ المعاني. ويجد أنّه يجلس إلى مكتبه كي يدوّن الكلمات، ولكن في ذهنه أنه لا يزال يمشي، دائما يمشي، وما يسمعه هو إيقاع قلبه، أي خفقان قلبه.
ونجد الفرنسيّ جان ماري غوستاف لوكليزيو يقول إنّ السير هو النشاط الوحيد الطبيعيّ لدى الإنسان. ودون أن نتحدّث عن البعد الرياضيّ، فإنّ السير نشاط يحرّك كلّ العضلات. أمّا في حالة السير في المدينة، فإنّ العقل هو الذي يعمل، إضافة إلى العضلات، فأنت تراقب السيارات.. التي نحن طريدتها بمعنى ما.
بهذا المعنى، تكون كلّ كتابة مشيا في عالم مختلف، ويغدو المشي كتابة بطريقة جديدة، كتابة تصبو إلى التكامل بين الجسد والفكر. وقد يكون الكاتب مشّاء في خيالاته وكتاباته، مشّاء ينسج تفاصيل حكايته على دروب السعادة التي تمنحها إيّاه سياحته الجسدية والفكريّة أثناء إبحاره في عالميْ الواقع، والورق.
__________
العرب

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *