في ضواحي مدينة قصر شيرين تشمخ أطلال قصر حجري ذي أقواس وزخارف من الطراز الساساني ، سألنا الحراس فتحدثوا بانكليزية متعثرة وبضع كلمات عربية وفهمنا أنه قصر الملكة شيرين، حيث أقامت الحسناء شيرين الآرامية التي تتحدر أسرتها من منطقة حلوان العراق، عشقها كسرى أبرويز وتزوجها ودوّن الشاعر نظامي أسطورة العشق الشهيرة شعراً ووصف الحسناء شيرين بلسان شابور وزير كسرى :
إنها فتاة ملائكية.. بدر منير
تضيء الليل كقمر ساطع
سوداء العينين كماء الحياة
باسقة القوام كنخلة فضية…..
أما شفتاها السكريتان فهما عقيق نضر
هي السروة الباسقة عذبة كنهر الفرات ..
بينما يصفها كتاب الشاهنامة بأنها معشوقة فرهاد وليس كسرى ، وهي ذاتها قصة العشق البابلية (شجرة التوت أو تسيبا وبيرام ) التي وجد نصها مكتوباً باللغة الأكدية في بابل . في “شجرة التوت” ينتحر العاشقان بسبب أحداث متلاحقة تؤدي إلى سوء فهم في ربط الوقائع . تبنت المدونات الأرمينية القصة إلى تراثها ونسبتها إلى أميرة من يريفان ، وقد تكون القصة الجذر الأسطوري لقصة (روميو وجوليت) إذ نُقلت أسطورة ( شجرة التوت البابلية) إلى اللغة الأغريقية بعد غزو الاسكندر لبابل وأوردها الشاعر أوفيد باسم ( بيرامس وثيبا ) مستبدلا اسميْ العاشقَين البابليَّين تسيبا وبيرام..
كان العاشق البابلي بيرام الذي رفض والده القاضي تزويجه من حبيبته تسيبا ، على موعد للقائها وقد اتفقا على الهرب إلى نينوى تلك الليلة ، وعندما وصل الى شجرة التوت حيث موعدهما وجد بيرام لبوة يخضب الدم شدقيها ووشاح حبيبته مدمى وملقى على الارض فأيقن أن اللبوة افترست تسيبا وما تبقى منها غير منديلها الكتاني ملقىً قرب اللبوة ، وما أدرك أن اللبوة افترست للتو غزالاً صغيراً ، طعن بيرام نفسه وسقط ميتاً تحت شجرة التوت ، وعندما أمنت حبيبته خطر اللبوة عادت الى شجرة التوت فوجدت عاشقها ميتاً فانتحرت هي الأخرى وتهاوت فوقه ، امتزجت دماؤهما ودفن العاشقان تحت شجرة التوت الأبيض التي تحولت ثمارها بمرور الزمن إلى توت أحمر بعد أن روتها دماء العاشقَين.
بقيت أطلال قصر شيرين هاهنا تحرسها التلال المعشبة وحقول القمح والنخيل لتنبئ عن قصة الحب الفاجعة التي تنقلت بين مأثورات شعوب عديدة واستهوت الكتاب والشعراء والعشاق وصيغت عنها الأغاني والمسرحيات والاوبرات والملاحم الغنائية، فلا شيء يخلد في ذاكرة الناس كما تخلد قصص العشق الحزينة وأساطير العشاق .
اقتفينا طريق الحرير والأفيون من”قصر شيرين” حتى “كرمنشاه” ، كان طريق السجاد الفارسي والحج الى النجف وكربلاء أو الحج المعاكس إلى مدينة مشهد يعج بالحافلات السريعة وعلى جوانب الطرق ، ثمة مواثل عتيقة مطروقة مهدتها آلاف القوافل التي كانت تحمل التوابل والزعفران من الهند وماء الورد والفضة والخزف من نيسابور، وقوافل الشاي والفيروز والياقوت واليشب الصيني والعاج الهندي والزمرد ، وبين القرى المتناثرة على طريق كرمنشاه كانت خيام الغجر والرعاة تحرسها الغيوم والرياح والنجوم.
مضينا في طرق تظللها موجات من ضباب الفجر الشفيف وافغمت حواسنا روائح العشب البري وخفقت قربنا أسراب طيور جذلى تهاجر تحت الشمس لكأنها تمضي نحو وديان العشق وشعاب المعرفة التي رسم لها فريد الدين العطار في (منطق الطير ) خرائط الترحال الروحاني لتقتفي خفق جناح “السيمرغ” في سعيها للجمال المطلق الذي يتعذر بلوغه الا بعد مكابدات ومشقات فلا تعود من رحلتها النورانية..