قبل أن يحتفي العالم الاثنواغرافي بعامه الأول بعد المئة بأيام قليلة، توفي كلود ليفي ستروس، «شيخ الأكاديميين» ليس في فرنسا فقط، وإنما في أنحاء العالم بأسره، يعتبر عملاق الفكر الفرنسي، المعروف عالمياً بكونه «سيد» الآنثروبولوجيا الحديثة.
فيلسوف التكوين، رائد البنيوية التي غطت العالم في دراساتها للأساطير، ورائد البحث في المجال الايكولوجي، عاملاً على إعادة الاعتبار إلى العقلية البدائية، بنظرة – أحياناً – أخلاقية.
«بين الفلسفة والعلم (…)، نتاجه غير القابل للانفكاك، ينبع من تأمل مجتمعنا ووظيفته. هناك مقاربة ايكولوجية للعالم والأفراد، قبل الحرف»، حسبما كتب دينيس برتوليه في سيرته الذاتية.
شبح أهيف، عوينات مثلومة، شعر أبيض، نظرة واضحة ونافذة، يملك كلود ليفي – ستروس وجوداً عظيم الشأن وكفاءة مرموقة. بخجله المخوف، هذا المولع بالموسيقى ومجنون الأوبرا، الشغوف بالحضارة اليابانية، «كان» يحيا في باريس، في بناية أحاط عنوانها بسرية تامة. مهموم نوعاً ما بالأجيال القادمة، لم يكتب مذكراته، وإنما أسر بها إلى ديدييه اريبون الذي خطها في كتابه: «من قريب ومن بعيد»، الذي يشكل جملة الحوارات الصحافية التي أجراها معه طوال أكثر من عقد ونيف.
في أحد حواراته النادرة التي ترجع إلى السنوات الأخيرة، وتحديداً العام 2005، قال هذا المنقب الفطن ورجل زمنه، المنجذب في سن متأخرة إلى البوذية: «نتجه نحو حضارة جديدة على الصعيد العالمي، حيث تتبدى الاختلافات – من اللازم على أقل تقدير أن نتمناها (…). نحن في عالم لا أنتمي إليه أبداً. العالم الذي أعرفه، العالم الذي أحبه، كان يبلغ ملياراً ونصف مليار من السكان. العالم الحالي يبلغ ستة مليارات نسمة. أنه ليس عالمي».
وفي حواره الحالي الذي أجراه الباحث الفرنسي ديدييه اريبون معه، المنشور في مجلة «لونوفيل أوبزرفاتور» (الجمعة 4 مايو 1984)، يسرد تجربته البحثية من خلال جزء من سيرته الحياتية – العلمية… هنا ترجمة الحوار.
* ذكرت في مقدمة كتابك «كلام معطى»، مطبوعات بلون، 1984، أن كتبك ومقالاتك جرت خطوطها الأولى خلال المحاضرات. لماذا نقطة العبور الإلزامية تلك؟
** لا أحب أن أتكلم ولا أن أكتب. لم أجبر أبداً على الكتابة، غير أنني حينما كنت أكاديمياً، أجبرت على الكلام. المحاضرة مناسبة لتوضيح الملف. وذات مرة ألفيت أن هذا العمل يتمم طريق الكتابة. المحاضرة، بطريقة ما، وسيلة لإجباري على الكتابة.
* في الوقت نفسه الذي صدر لك «كلام معطى»، أعادت دار نشر بلون إصدار: «مدارات حزينة». إذا كتبته اليوم، هل سيكون مختلفاً عن سابقه؟
** كتبت «مدارات حزينة» في أربعة أشهر. ولا أعرف كيف، حتى أنني قلت في نفسي لما أعدت قراءته أنني إذا كنت ذا عقلية صارمة سأعيد كتابته كله، غير أنه سيفقد عفويته التي في بعض المقاييس، ستغفر أخطاءه. ثم وعلى وجه الخصوص لست في السن نفسها المناسبة، وكذا في «مدارات حزينة» هناك حمية تنقصني حالياً.
* بعد ثلاثين عاماً على صدوره، ينعى بعض المعلقين «نهاية العلوم الإنسانية». كيف تنظر إلى هذا الرأي؟
** هذا من قبيل العبث. كل شيء عبث كما شهرة العلوم الاجتماعية قبل عشرين عاماً. أنها صرعات باريسية، ويجب عدم الاعتداد بها.
صرعة البنيوية
* حينما كتبت في مقدمة «نظرة بعيدة» أن البنيوية أصبحت صرعة قديمة، أكان هذا بفعل المرارة؟
** من دون أدنى مرارة. على العكس، كانت هذه المرحلة مرحلة الصرعات الساخطة التي تأسست على سوء الفهم. أفضل عدم الكلام عن البنيوية، عن الاستعانة بها بشتى الطرق. كانت هناك مرحلة قام الجمهور المثقف، الجاهل بالعلوم الاجتماعية، باكتشافها خلالها. اليوم، هذا الجمهور في حاجة إلى أي يبتهج بشيء آخر،ولكن هذا الشأن لا يمنعنا من متابعة عملنا، عملنا مثلما كنا نحققه من قبل ومثلما سنحققه مستقبلاً.
* من جهة أخرى، هل يمكن اعتبار التلقيح البيني Interfecondation بين التاريخ والاثنولوجيا الذي أشرت إليه العام الفائت في «ندوة مارك بلوخ» في السوربون، علامة حيوية العلوم الاجتماعية؟
** نشرت في عام 1948 مقالاً عن «التاريخ والاثنولوجيا»، أنهيته بالقول، إن هذين العلمين لا يمكن أن يتحقق أيهما من دون الآخر. حينما اتهموني بعد ذاك بإهمال التاريخ، كانت تلك تهمة مزيفة. ليس هناك فقط الاثنولوجي الذي يمكن أن يقدم المساعدة إلى المؤرخ، وإنما هناك أيضاً المؤرخ الذي يساعده بصورة ملحوظة. يتمثل ما وددت أن أبينه في هذه الندوة المقامة بالسوربون، أن الاثنولوجيين يهتمون بالتاريخ مثلما حققه مؤرخو مدرسة الحوليات، تاريخ الفترات الطويلة، تاريخ العقليات، إلخ، ولكن أيضاً التاريخ الذي يسطر المظاهر اليومية، أي «التاريخ الصغير»، بما أن دراساتنا حول القرابة قادتنا إلى نوع من الاهتمام المهووس بمسائل البنوة، المصاهرات الزواجية، العائلات الملكية في أعلى طبقات النبالة، والتي لا يود المؤرخون الاهتمام بها. وجدنا نقاطاً مشتركة من الممكن أن تبين العديد من مظاهر التنظيم الاجتماعي ووظائف المجتمع الذي نحلله.
مستقبل الاثنولوجيا
* محاضراتك الأولى في الكوليج دو فرانس، في عام 1959، تحمل عنوان «مستقبل الاثنولوجيا». إذا وجب أن تحررها اليوم، ماذا تقول؟
** أعتقد أنني سأقول إلى حد كبير الشيء نفسه. الاثنولوجيا تقابل مشكلتين ودورين. في بادئ الأمر، المواد التي يعمل الاثنولوجيون عليها تلاشت بصورة سريعة وتزايدت سرعتها خلال الأعوام الأخيرة. من اللازم مضاعفة الجهود لكي نتحصل على ما يمكن التحصل عليه قبل أن يتلاشى كل شيء. ولكن ما يتلاشى في منظور الاثنولوجي لا يتلاشى في المطلق. شيئاً بعد شيء تقترب الشعوب محل الدراسة من الاستقلال السياسي، وبالتالي تمتلك السيطرة على مصيرها. ما يقوم الاثنولوجيون بعمله يمضي إذن من بين يدي علماء «النيء»، وما يتلاشى كاثنولوجياً ينمو من جديد تحت شكل جديد: تاريخ الأفكار، الآركيولوجيا، التاريخ الديني، الذي تمارسه هذه الشعوب داخلياً. النقطة الأخرى التي بلغتها تتبدى لي أكثر فأكثر حقيقية. الاثنولوجيا وجدت نفسها في بداية تاريخها أمام تشكيلة من الثقافات المختلفة عن ثقافات الملاحظ، ولكنها جاهزة لعمل السيطرة الكولونيالية. يتبدى لي أن هذه الحالة تنزع إلى تعميم كل المجتمعات بما أن حضارتها تتجه نحو ضرب من النموذج الأحادي الشكل، وهو النموذج الذي فرضه الغرب، وبالتالي تنبني الاختلافات في قلب هذا المزيج المعقد الضخم. وفي كل مكان، حيث يشعر الفرد بكونه غريباً عن نفسه أو غريباً عن ثقافته، يجد الاثنولوجي عملاً عليه أن يتمه.
* نوهت إلى الكولونيالية. إنها من المسائل السياسية النادرة التي تكلمت عنها في كتاباتك.
** من الصعب على الاثنولوجي أن يتكلم عن الكولونيالية، لأنه إذا لم توجد الكولونيالية لم يوجد الاثنولوجي. من الحقيقي.. هذا ما جرى بالنسبة لفرنسا ولكن أيضا بالنسبة للاثنولوجيا على وجه العموم، التي نشأت كعلم أنجلو–سكسوني في القرن التاسع عشر. في خطوات الكولونيالي، اكتشف الاثنولوجيون القيم التي لا يمكن إهمالها بالنسبة له، وإنما هي ضرورية بالنسبة للاثنولوجيين، وبهذين المعنيين المختلفين، لأنهما عنصران ضروريان للإرث الإنساني، ولأن كل مجتمع يمتلك جمالاً خاصاً بها. وهكذا وجدنا أنفسنا في هذه الوضعية العجيبة: من الواجب أن نوجد المدمر لكل ما يربطنا بالثمن. وكاثنولوجي، أجد أنه من الصعب عليّ الكلام عن الكولونيالية بصورة أحادية الجانب.
* وكمواطن؟
** كمواطن، وددت أن لا توجد الكولونيالية، أو بالأحرى وددت أن أحيا في عصر لم توجد فيه بعد، أو بصورة وقحة، إلى عصر من الممكن أن ننتقل فيه بسرعة من مكان إلى آخر ولكن ليس بالمقدار الكافي لكي نعالج كل التدميرات التي تسببت الكولونيالية فيها.
التأثير السياسي
* للكلام عن السياسة بصورة أكثر عمومية، لماذا أظهرت دوماً هذا الحذر تجاه الالتزام أو التأثير السياسي؟
** ليس دائماً! بما أنني في شبابي مارست السياسة. لنقل إن هناك مظهرين. بداية، لما ننشغل أكثر بالاثنولوجيا، ننظر إلى تاريخ المجتمع بنظرة بعيدة ونكتشف أن الأشياء الضرورية والدرامية في الوقت الحاضر ليست ذات قيمة كبيرة في منظور العديد من العصور. ومن ناحية أخرى، كنت سلمياً خلال الأعوام التي سبقت الحرب. عشت غرابة الحرب وانهيارها المفاجئ، وفقدت ثقتي في أحكامي السياسية. لا أقول إنني لا أمتلك ردود أفعال سياسية. أمتلكها طوال الوقت، ولكنها حشوية وسطحية، ومن ثم لا تساوي شيئاً. إذا أردنا أحكاماً سياسية، من اللازم تحقيق شرط الحكم المنير: تكريس معرفة الشيء السياسي. مثلما فعل آرون «1» معظم سنوات حياته، إنه هدف مشروع على أي حال. ولكنه عمل يشغل الوقت كله. إذا فعلت مثله، كنت خسرت ما اخترته.
* هل أردت كذلك أن تنكر دور المثقف التنبؤي؟
** أتكلم في الوقت الحاضر عن التاريخ. إحدى الحجج التي تمنعني عن التنبؤ، إنني مقتنع بصورة عميقة بإمكان حدوث الأحداث واستحالة التنبؤ بما سيحدث في المستقبل القريب. المستقبل القريب أو البعيد ينبثق في عيني من إمكانية حدوث شيء ما وأشعر بكوني عاجزاً عن الكلام عنه.
* يتبدى لي أيضاً أن فلسفتك الشخصية ماضوية بعمق. في نصوصك المجمعة في «النظرة البعيدة»، تدين الفن المعاصر، التصوير المعاصر، البيداغوجيا المعاصرة…
** اسمح لي أن أحكي لك طرفة. ذهبت مثل الجميع لمشاهدة معرض مانيه «2» في «الجران باليه». خلال زيارتي لهذا المعرض الرفيع المستوى، كنت مندهشاً إزاء ما تبدى لي أنه مزيج من العبقرية والعجز، وبالشعور أن مانيه إذا كان تابع الناحية العبقرية بعمق، فإنه كان سيتجه إلى الماضي. على العكس، إحدى مثالب التصوير الحديث أنه احتفظ بالمظهر الآخر. في الوقت نفسه، كان هناك معرض مقام، بيد أنه خال، عن التصوير النابوليتاني «3» في القرن السابع عشر، اكتشفت هنا فناناً عبقرياً حتى أنني كنت أجهل اسمه، وهو آرتميسا جنتيليشي وهو مثل بروست «4»، يمنحان بعداً غنائياً وكونياً لأبسط الموضوعات. لماذا لا تريدني أن أكون ماضوياً!
* هل من اللازم أخذ هذه الطرفة كمثل؟
** نعم، بالتأكيد. ومع ذلك سوف أضيف لئلا أكون سلبياً، إن الثمانية آلاف مشاهد الذين يترددون يومياً على معرض مانيه بدأوا بمشاهدة المعرض الآخر، سأكون سعيداً عندما يذهبون لمعرض مانيه، غير أن التعارض بين الهرج والمرج من ناحية والخلاء من ناحية أخرى يكشف جلياً أن الذوق لا يتأتى من ثراء ما يسبقه وإنما من الإلغاء والنسيان.
* في مقال نشر مؤخراً في «ملحق التايمز الأدبي»، قارب «رودني ندهام» نتاجك من نتاج السورياليين. كيف ترى هذا الرأي؟
** أقبله طوعاً. كما تعرف، كنت مرتبطاً بقوة بالسورياليين لما كنت في المنفى بنيويورك خلال الحرب، وهذا أثر في كثيراً. كنت أرى دوماً بروتون «5» وماكس ارنست «6»… ولكن بصورة عميقة من الصحيح أن السورياليين وأنا، نمتلك المصادر نفسها وأننا نرتبط بالقرن التاسع عشر. ليس من قبيل الصدفة أن بروتون شغف بجوستاف مورو «7»، وإلى هذه المرحلة الرمزية والرمزية الجديدة. كان السورياليون يقظين إلى كل ما يتبدى غير عقلاني وعملوا على استغلاله من خلال وجهة نظر جمالية. وهي نفس المواد التي أستعملها، ولكن، بدلاً من استغلالها لتحقيق نهايات جمالية، أبحث عن رد هذا اللاعقلاني إلى عقلاني.
____________
هوامش المترجم:
(1) ريمون آرون «1905-1983»، فيلسوف، سوسيولوجي، عالم سياسي وصحافي فرنسي بارز. تركزت معظم كتاباته في الدفاع عن الليبرالية.
(2) ادوار مانيه 1832–1883، رسام فرنسي شهير.
(3) التصوير النابوليتاني، إحدى مدارس التصوير الإيطالية خلال عصر النهضة الذي ازدهر في نابولي.
(4) مارسيل بروست 1871–1922، روائي وشاعر فرنسي. من أبرز رواياته: «البحث عن الزمن الضائع».
(6) ماكس ارنست 1891–1976، رسام ونحات ألماني، شارك في تظاهرات الدادائية قبل أن يلتحق بالسوريالية.
(7) جوستاف مورو 1826–1898، رسام فرنسي، رائد الرمزية، وإنما من خلال مسحة صوفية.
بدايات.. ومدارات حزينة
ولد كلود – ليفي ستراوس في بروكسل في الثامن والعشرين من نوفمبر 1908 من أبوين ينحدران من إقليم الإلزاس الفرنسي. انضم في بداية حياته إلى «القسم الفرنسي للأممية الاشتراكية»، الذي أصبح في العام 1969 الحزب الاشتراكي، ثم أدى امتحان شهادة التبريز في العام 1931. كأستاذ في جامعة ساو باولو «البرازيل»، أمضى عدداً من الأعوام، بدءاً من العام 1935، حيث أدار العديد من البعثات الاثنولوجية في «ماتو غروسو» و«الآمازون». حكى هذه التجربة في كتابه «مدارات حزينة»، الذي نشر في العام 1955، والذي أعد كأحد أعظم كتب القرن العشرين.
بعد عودته إلى باريس، مع بداية الحرب العالمية الثانية، لم يستطع التأقلم مع الحكم المتعاون مع النازية، وعلى وجه الخصوص لأصوله اليهودية، مما دعاه إلى الهجرة إلى نيويورك في العام 1941، حيث عمل في التدريس. وفي العام 1959، عين كأستاذ للانثروبولوجيا الاجتماعية بالكوليج دو فرانس حتى تقاعده في العام 1982. وفي عام 1973، كان أول اثنولوجي ينضم إلى الأكاديمية الفرنسية.
________
(*) عن:
Le nouvel observateur، Vendredi 4 mai 1984
الاتحاد الثقافي