Argentina's writer Jorge Luis Borges talks in his Buenos Aires apartment on Nov. 20, 1981. (AP Photo/Eduardo Di Baia)

مثالب بورخيس .. بصيرة عبقرية ينقصُها العمى النضالي ويعوزُها الحسّ الإنساني

*جواد غلوم

 

لم يجانب الصواب جان بول سارتر حين قال يوما، إن المثقف والكاتب الحقيقي قد خُلِق معارضا لا يعرف مهادنة الدكتاتورية ولا يأنس مغازلة الحكام الذين أساؤوا لشعوبهم والعسكريتاريا التي تمقت الحرية والمدنية ، فما قاله خورخي لويس بورخيس ” 1899—1986 ” بإن مخبرا سريا خاصا كان يتبعه أيام حكم” بايرون ” وبأن مجلة “كابيلدو” قد شمّرت عن سواعد كتّابها للنيل منه في أحد أعدادها وقد خصصته حصريا لهجائه وشتمه عيانا ثم طرده من إدارة مكتبة بوينس آيرس إثر موقفٍ سياسيٍّ هشٍّ لينقل بعدها إلى حضائر لتربية الدواجن وتسمين الأرانب في سوق العاصمة الارجنتينية ؛ كل ذلك لم يشفع له مواقفه البذيئة تجاه شعوب اميركا اللاتينية التي ما فتئت سنوات القرن الماضي تواصل كفاحها ضد الكولونيالية وذيولها من عتاة الدكتاتوريين.

ما زلت أتذكر حوارا جرى بين الكاتب الكبير” غاليانو ”  مبدع ومؤلف كتاب ” شرايين اميركا اللاتينية المفتوحة ” وبين “سكوت شيرمان” الصحفي الشهير في مجلة ” أتلانتك أون لاين ” في اكتوبر من العام /2000 ” قال غاليانو ما نصّه: ” إن بورخيس لم يشغل أية مكانة في أعماقي أبدا ولا أشعر بتلك الجاذبية في أعماله ليس لأنها تفتقد إلى الإبداع والابتكار، بل على العكس فانا اقدّر كثيرا أسلوبه وكونه رجلا حاذقا وهو مثقف كبير بلا شك، لكني أراه محض رأسٍ ولا شيء غير هذا الرأس فهو لا يمتلك قلبا دافقا ولا حسّا إنسانيا رؤوفا ولا معدة جائعة تشعر بفاقة الآخرين، نعم يحوز رأسا لامعا في غاية الذكاء ليس إلاّ، أراه من أصحاب النخب الغارقة في انعزالها عن الشريحة المسحوقة، نكوصيا وعنصريا يعتاش على حنينه الدائم للدكتاتورية والعسكريتاريا المعادية لشعوبها والمتسلطة على مقدرات الملأ العريض وكم أمقت تعلّقه الدائم بالجنرال ” فيديلا ” حاكم الارجنتين الأسبق، والجنرال ” بينوشيت ” قائد الانقلاب القذر على سلفادور اليندي وتنصيب نفسه رئيسا موتورا حاقدا على الشعب التشيلي، فما جدوى أن يكون بورخيس مجرد عقلٍ مثقف قابع في مكتبة”.

وشبيها بهذا القذع ما قاله الأديب الارجنتيني ” رامون دول ” محرر مجلة آداب الارجنتينية حينما نعته بأنه موتٌ فوق الموت وقذارة ما بعدها قذارة، أما صديقه الآخر ” اندرسون إمبرت ” فقد شتمه وعابه بشدة في عدد مجلة الطليعة التي كان يصدرها؛ إذ خصص عددا خاصا لما سمّاه “العاقّ ” الذي يدير وجهه عن آلام بني جلدته ولا يعبأ بأوجاع مواطنيه وخصوصا المتعبين الرازحين تحت أقدام الفقر والعنت والإذلال والتعسّف، والمخنوقين بأغلال الدكتاتورية.
فما الجدوى من شاعر وكاتب مرموق واسع الأفق مهما جنح خياله عاليا وابتكر أعمق المعاني وتغلغل في أزقّة الروح وبواديها وصحاريها وحدائقها الغنّاء وهام في مخارج ومداخل الطبيعة البشرية الشاسعة، إذا لم يلامس أخاه ويربت على كتف المحزونين ويمسّد رأس الاطفال تدلّلا وتحبّبا.
12524132_982822918439967_5965871102136429864_n

أين منه نضالات كبار كتّاب وشعراء أميركا اللاتينية وكفاحهم البطولي الذين توسدوا صخور البراري وافترشوا عشب الغابات وكان فِراشا يرونه وثيرا ما دام كفاحهم صار من الطقوس المقدسة، أين منه مواقف الشاعر الأممي الكبير بابلو نيرودا، وقصص ماركيز الهائلة السموّ وسخريته من جنرالات العهر والدسائس والقهر؟؟!

 

لا خلاف في القيمة الإبداعية الخالصة الذي تميّز بها بورخيس في جلّ أعماله لكن ثمة فرق كبير وكبير جدا بين من يناصر جلاّدا كريها مثل ” الجنرال فرانكو ” وبين من يقف في صفوف معارضيه ويقاتل ويندد بالدكتاتورية وربما يموت شهيدا وهو يواجه الفرانكوية الفاشية، أليس من الشرف والنبل أن يتم دعم الحق في الحرية والخلاص حتى لو تزعمها — ثوار مراهقون صغار– كما كان يبرر بورخيس نفسه عندما يسمّي هؤلاء ذريعةً منه للتخلص من مسؤولية الوقوف معهم في مواجهة التصلب الدكتاتوري مع أن ثورة الشعب التشيلي لم تكن تهريجا ثوريا مطلقا وإنما فوز ساحق حققه اليسار للإطاحة بالأنظمة العسكريتارية الحاكمة عنوة وقتذاك، وكذا الحال في موقفه المناوئ للعرب حين وقف على الدوام إلى جانب إسرائيل ووقوفه إلى جانب الصهيونية والعنصرية، ونسي أنه بنى خيرة أعماله من الثقافة العربية ونهل من التراث والعقل العربي ماضيه وحاضره كل ماهو جليل وسامٍ ليكتب نصوصه الشعرية وهي محلاة ومطعمة بما هو زاهٍ وجميل في فكرنا العربي والإسلامي فقد تأثر بألف ليلة وليلة أيما تأثير وكذا كان ولعه الذي لا ينضب بالصوفية العربية الإسلامية واهتمامه بالانغماس الروحي إلى حدّ الذوبان في سعير الصوفية وتمثله الدائم بشعر الحلاّج ورؤى النفّري وقصائد ابن الفارض ومحي الدين بن عربي وغيرهم.
لكنه من جانب آخر انتصر لعنصريي إسرائيل وحلّق عاليا بفرحه وكأنه طار من البهجة التي اعترته فور أن سمع بهزيمة العرب في معركة الخامس من حزيران عام /1967 في حرب الأيام الستة حتى انه نعتَ اسرائيل بـ” الامة الفتيّة “، وبعدها بسنتين وتحديدا في العام / 1969 كتب قصيدة أهداها علانية إلى إسرائيل، لنذكر مقاطع منها:

أخشى على إسرائيل من حنيني

حنيني المتربص بعذوبة ماكرة

الذي تراكم مثل كنزٍ حزين منذ قرون التفرق والشتات

في مدن الجحيم وفي الأحياء اليهودية

في تخوم السهوب وفي الأحلام العريضة

حنين هؤلاء الذين يتشوقون إليك ياقدس

أنتِ التي بجانب مياه بابل

أيّ شيء كنت سوى هذا الحنين يا إسرائيل

لا أقول غير الرغبة في النجاة من انقلابات الزمن

غير الكتاب القديم المذهل

وصلواتك وعزلتك مع الإله

وليس الأمر بهذا الشكل الذي نراه

فأعرق الأمم هي أكثرها فتوةً

والتي لم تسحرها أسماء جنان الخلد

ولا شهوة الذهب وملل اكتنازهِ

كنتِ وطنا، وطنا أخيرا مصرّا أن يبزغ

هكذا قالت إسرائيل دون أن تنبس بكلمة

سوف تنسين من تكونين

سوف تنسين الوجه الآخر الذي تركتِهِ

يوم كنتِ في البلاد حين منحتْك الأماسي والأصبوحات

مقبلاً زاهرا بالبقاء والخلود

وفي العام /1971 كرّمت إسرائيل بورخيس بمنحه جائزة القدس وهي أعلى جائزة أدبية تمنحها الدولة العبرية لهذا الأديب المولع بالتراث اليهودي قدر ولعه بالتراث العربي الإسلامي وشتان بين الاثنين في ميزانه المنكسر غير العادل؛ حينما يعشق إسرائيل حدّ الهيام ولا يعبأ بالإنسان العربي الفلسطيني المسلوبة أرضه ظلما وعدوانا وتزييفا للتاريخ وطمسا للحق حتى ولّدت فيه هذا التوجه غير السويّ لقلب مفكّر كبير عقلا لكنه مزيف قلبا مثل جنرال الأدب ” بورخيس ” الذي لم يجد من يكلمه تحبباً من أقرانهِ في أرضٍ مشتعلة بالثورات؛ نظرا لقصر نظره أمام كفاح شعوب اميركا اللاتينية، وضيق صدره من نضالات الشعوب الأخرى في هذا العالم الذي يتلاطم بالثورات.
قال بورخيس أثناء تكريمه بهذه الجائزة، إنه يشعر بسعادة طاغية في أعماقه لانه موجود في القدس، إذ لا توجد مدينة بالعالم تستهويه ويتوق إليها دوما مثل القدس ليس باعتبارها عاصمة فلسطين وبالأخص الشرقية منها، بل باعتبارها العاصمة الأبديّة لإسرائيل الحلم الذي ظهر بعد انتظار طويل من المرارات والعذابات التي لاحقت شعب الله المختار – على حدّ تعبيره- ووصفها بانها “الكأس المترعة” التي تنسكب وتتراكم فيها الأحلام والصلوات والدموع والأدعية والتضرعات الايمانية والتهجدات بشكل لم ير مثيلها من قبل، فهو يشعر بجوع وعطش نحوها طالما هو حيّ يرزق، وقبلها كان يصف إسرائيل بانها ” أرض الحليب والعسل “، لكن أخطر ما قال حسب تقديرنا في انحياز صارخ واضح المعالم بإن ” التاريخ سيبدو غريبا بلا إسرائيل فهي ليست فقط فكرة مهمة للحضارة، إنما فكرة لا غنى عنها في صقل تلك الحضارة، إذ لايمكن تصوّر الثقافة من دون إسرائيل “.

أيّ ملقٍ غريب هذا حين يصل إلى حدّ الوله الكاذب وتصنّع الحبّ لمجرد أنه حظي بجائزة رفيعة، وهو المفكر الأديب العالي الهمّة ليحطّ من قدَرهِ طمعا وهو العفيف عن الجاه والمال والمنصب فلا يحتاج المتوقد الذهن مثل السيد بورخيس أن يكثر من تذلل نفسه حظوة بالجائزة وهو الأكبر منها والأعلى شأنا في ميادين الأدب وسوحها العريضة !!!.
فماذا تساوي الجائزة على أهميتها وثرائها ما في عقل هذه الشخصية الأدبية التي نهلت من ثقافة كل الشعوب معينها الأدبي والفكري والفلسفي ووظّفته في الكتابة السامية التي حذق فيها بورخيس ووصل إلى مراتب عليا لم يطالها الكثيرون من كتاب أميركا اللاتينية، باستثناء أعداد نابهة جدا ممن لمع نجمهم في سماء الأدب وهو من طليعتهم مثل زملائه؛ بابلو نيرودا وماركيز وفارغاس يوسا واوكتافيو باث وخوزيه ساماراغو والقائمة تطول وتطول.

ومن المعروف أن بورخيس كتب الشعر أول الأمر وبرع فيه، ثم امتهن القصّ، ولم يكتفِ بذلك، وأبدع في كتابة المقال الأدبي والنقدي وكانت له نظراته المتميزة ورؤاه الفطنة الحاذقة فيما يتعلق بالنصوص الأدبية التي يتوغل فيها بحيث اتسعت آفاق عقله إلى مديات بعيدة جدا بسبب ثقافته العريضة وسفره الدائم في ثقافات معظم شعوب الأرضـ إن لم نقل كلها بماضيها وحاضرها وخصوصا الكونفوشيوسية والبوذية والفارسية الأولى ما قبل الإسلام وانعطافه إلى الفكر الإسلامي بصوفيته، ولا ننكر أبدا توغله في الإرث اليهودي وقراءاته المتقدمة في الكتاب القديم ودأبه الحثيث في قصص التلمود وتبحرّه في الديانة الإبراهيمية الاولى، ولا يخفي إعجابه بما تم تدوينه وسرده في ثنايا العهد القديم، ولعل هذا التوجه هو السبب الرئيس في اشتداد العطف عنده تجاه اسرائيل وتعلّقه بها لكونها -وفق منظورهِ- الحُلّة الجديدة الزاهية للأبراهيمية الأولى بحيث أنساه ما يعاني الطرف الفلسطيني الآخر من عنت وإذلال وسلب وطن بأكمله، وتشريد شعب بتنوعه الإثني والعقائدي، لكن هذا الانجرار والحب والهوس بالثقافة اليهودية – على حسناتها للاستزادة الثقافية – لا يبرر له إطلاقا الميل والمحاباة للجانب الإسرائيلي وهو البادئ بالاعتداء والسالب للحق والذي كان من نتائجه الوخيمة حرمان شعب موغل في العراقة من أرض مهد المسيح ومنبت القداسة المتمثل بالقدس الشريف أولى القبلتين وثالث الحرمين وتشريده في الشتات وفي المخيمات هنا وهناك دون أن يلمّه وطن؛ فأرضه مضاعة مسلوبة وليس له الاّ النضال والكفاح والانتفاضة وسيلة لاسترداد أرضه ولفت أنظار العالم إليه لعل بصيصا من أمل يشرق في هذا العالم المغفّل والمعبّأ باللامبالاة والأعمى كعماء  بورخيس نفسه.

يا للعجب فكل هذه البصيرة المفتّحة لديه في مخيلته وفي صدره الرحيب وفي قلبه وعقله البعيد المدى، لكنها عميت أن ترى الحقّ الفلسطيني الواضح المعالم، وأدارت وجهها عمّا يعانيه ذلك الشعب العريق الذي كان وسيبقى مهدا لعيسى وهو المسيحيّ المنبت والمحتد.

لنقرأ قصيدة بورخيس الثانية في مدح اسرائيل فهي الاخرى تنبئ عما في نفس هذا الإنسان الذي رهن موقفه حبا ليس في مكانهِ لإسرائيل ولا مبالاة لشعب فلسطين، وهو في قصيدته يفترق كثيرا عن أقرانه أدباء اميركا اللاتينية الذين سبق أن تضامنوا مع الشعب الفلسطيني وما زال هذا التضامن ساريا وعائما في معظم بلدان اميركا ودول الكاريبي، تقول القصيدة المعنونة ” إلى إسرائيل ” وقد كتبها تمجيدا لانتصارها على العرب في نكسة حزيران :

يا إسرائيل

من سيعلمني أنك كنت تجرين بأنهار دمي

متاهةً ضائعة منذ قرون

وفي أية أماكن جالت وطافت دماؤنا

أعلم أنكِ بائنة في الكتاب المقدس المطوق للزمن

ليس مهما طالما أنكِ مرآة تتراءى

في تاريخ آدم المائل للحمرة

وفي ذاكرة وعذاب المصلوب

في الوجوه المنحنية على نفسها

وفي وجه الربّ القاسي اللامع كالكريستال

حيث يظهر الفزع في الثنايا

بوركتِ إسرائيل وأنتِ تحمين جدران الربّ

وتنتصرين في المعركة

مع أن بورخيس كان مهتما إلى حدّ بعيد بمعظم ثقافات الأمم ماضيها وحاضرها فكل آثاره الأدبية تشير إلى ذلك بوضوح ظاهر من خلال اطلاعه على اللاهوت، وغور أعماق المسيحية، ودراسته الثرية للأناجيل وانعطافه الاخر على مافي الصوفية الإسلامية من عوالم مذهلة والشخصيات الفكرية الملفتة في الإسلام ؛ لكن الثقافة اليهودية وميثولوجيتها وعهدها القديم وبالأخص ” الكابالا ”  وهي الصوفية اليهودية كانت شغله الشاغل ويمكن اعتباره من أكثر أدباء اميركا اللاتينية ولعا بالتراث الموسوي اليهودي ويتضح هذا في كتابه ” الأف ” الذي كتب فيه كثيرا عن الكابالا بإعجاب وانبهار شديدين وكانت له علاقات أكثر من وطيدة بأدباء بارزين كبار من اليهود مثل ” شونيم ” و”هاينه “، وليس بمستغرب منه أن يتعلق بالفيلسوف ” باروخ اسبينوزا ” وخاصة رؤاه فيما يتعلق باتحاد الروح مع الطبيعة الكاملة، وما قاله في فلسفة الأخلاق وقد قرأنا بعضا من قصائده يمجّده فيها أيما تمجيد، غير أن الأمور بدأت تتوضح أكثر حينما انتمى صاحبنا إلى مركز الدراسات السفاردية عام /1965 وكان دخوله إلى المركز هو البوابة المفتوحة على مصراعيها للتعرف ومن ثمّ التعمق في الثقافة اليهودية والانجذاب لها حتى الهيام، إذ كان يعتبر نشوء إسرائيل في اربعينيات القرن العشرين هو الوجه المشرق والأمل الذي ترقّبه لظهور معالم الثقافة اليهودية إلى العالم من جديد بحلّتها الجديدة المتمثلة في إسرائيل بعد دهور من العنت والاضطهاد والتنكيل بدءا من السبي البابلي حتى محارق الهولوكوست.

بورخيس الثاقب البصيرة في الأدب، الواسع الأفق في غور أعماق الشعر والموغل في عالم النقد المتعدد المرايا نحسبه أعمى البصر في إدراك الحقائق الإنسانية التي تلازم المضطهدين والمسحوقين، لذا نراه يغضّ النظر عن كل أنواع الجرم الذي حيق بأهله في اتون ديكتاتوريات اميركا اللاتينية ويسكت عما فعله العسكر حين تزعموا الانقلابات وأطاحوا بالنظم التي تحبو نحو الحرية والديمقراطية وتريد أن تتخلص من أهوال العذاب الذي ركزه اليانكي الأميركي في هذه القارة الجنوبية وفي حوض الكاريبي فاستعانت باليمين المتمثل بالقادة العسكريين وعتاة الدكتاتورية الذي صار ذيلا مسموما للسع أجساد المتطلعين إلى مستقبل مشرق، وبدلا من أن يتخذ بورخيس موقفا ملتزما ويقف إلى جانب أبناء قارّته الثائرة حاله حال زملائه الكبار ” بابلو نيردوا ” مثالا لا حصرا لكنّه فضّل الاصطفاف إلى جانب من يعادي طموحات أهله وسكت وانعقد لسانه حتى أن يدين ما قام به وحوش واتباع العم سام في اميركا اللاتينية.

ولأن السمات النضالية بين الشعوب ذات هدف واحد وأماني مشتركة متفق عليها، فإن معظم أدباء اميركا الجنوبية وربما كلهم وقفوا إلى جانب قضيتنا الفلسطينية، إلاّ صاحبنا بورخيس ذو العقل الثاقب والأفق الواسع، غير أنه أصلب قلبه وأقسى مشاعره تجاه فلسطين وعميَ بصره تماما عما تفعله اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، وخرس لسانه حتى أن يقول كلمة صدق واحدة لإدانة ما يجري من مجازر وموت جماعي مارسته العصابات الصهيونية بدءا من الهاغانا حتى عمليات الإبادة الجماعية التي قام بها شارون في مخيمات صبرا وشاتيلا وغيرها، إذ كان بورخيس نفسه حاضرا ومعاصرا لها.

لا يخفى أن بورخيس قد ولع بالثقافة اليهودية وهذا ليس مثلبة منه، ولكن أن يقدّسها وتمتلئ روحه حبّا وتعلّقا إلى درجة أن يقول عنها إنه لا يستطيع ان يتخيّل العالم والحضارة الغربية بالذات بلا يهود أولا وبلا إغريق ثانيا، وقد يكون هذا التعلّق الأعمى ناتجا عن أعراق والدته التي تمشّت في أوصالها وهي ذات الأصول الاسبانية والبرتغالية وهذا ما جعله يوثق علاقاته الوطيدة بأدباء ذوي ميول يهودية، أو لنقل أنهم ذوو منحى صهيوني مثل ” كاسينوس أسينس ” الذي عدّه بورخيس معلما فكريا له وهو الذي عرّفه على معظم الأدباء الاسرائيليين الذين أقاموا وتوطّنوا في شبه جزيرة ايبيريا عموما، ومن منا لا يتذكر قصيدته المهداة إلى ” أسينس ” نفسه والتي اقتطف مقطعا منها :

” شربَ كمن يشرب نبيذا معتّقا

شرب من مزامير داود وأناشيد الكتاب المقدّس

وشعر أنه يمتلك تلك الحلاوة

لشعب يهوذا، لروح هاليفي والسفيروت

وهذا لعمري قدرُه الجميل “

هكذا هو صاحبنا خورخي بورخيس الذي قال مرة أمام حشد من أدباء يهود بأنه يشعر أن أحد أسباب سعادته بهذه الحياة، أنه بامكانه الانتماء لشعب موسى بن ميمون، تُرى هل كان السبب في هذا المنحى أنه بقي صديقا ودودا لعائلتي ” أسيفيدو ” و ” بينيذو ” الارجنتينيتين اللتين انحدرتا من اسبانيا وسكنتا بوينس آيرس، وهما من أوائل العائلات التي سكنت بلاده خوفا من بطش النازية والكراهية لأتباع موسى التي عمّت اوربا اوائل القرن العشرين.
بكماً لعقل بعيد الأفق واسع المدى لكنه يضيق عندما يجانب الصواب ويفترق عن معاناة المنهكين المعذبين في الأرض.

خرسا للسانٍ ينطق بالحكمة ورقيّ الكلام معسول المفردات لطغاة وعتاة ظالمين، غير أنه ساكت عن قول الحقائق البائنة الدامغة خافيا مرارات الجوع والاضطهاد لغالبية الشعوب تحت طيّ اللسان.

عمياً لبصيرة نافذة حاذقة، لكنها تعمى عن أن ترى ما يحيق من كوارث وطغيان ضد الإنسان الذي يريد عدلا وحرية وسواسية.

jawadghalom@yahoo.com
______
*المصدر: إيلاف

 

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *