منتصف الأسبوع الماضي، رحل عن الدنيا، العالم المصري القدير: أحمد زويل، بعد أن حقق إنجازات كبرى في مجاله، ومات بمرض من الممكن جدا أن تساهم تلك التقنية التي اكتشفها، وهي قياس سرعة انقسام الخلايا، في علاجه مستقبلا، ومعروف أن مرضا مثل السرطان هو في الآخر، انقسام فوضوي وغير واع للخلايا، بحيث تقضي في الآخر على الحيوية والحياة.
الرجل عمل بجهد كما هو معروف، ووصل إلى نتيجة، وكان اسما مختلفا، وجميلا في كشوف الحاصلين على جائزة نوبل العلمية، وسط أسماء أجنبية، تتكرر دائما، لأول مرة وربما لآخر مرة أيضا، فليس من السهولة أن يحصل العرب ـ حتى لو كانوا من الذين يعيشون في بلاد الغرب وينخرطون في حياته، ويساهمون في حضارته ـ على جائزة نوبل، في مجالين خاصة: العلوم والآداب، لذلك كان ابتهاجنا بلا حد حين حصل زويل على نوبل العلمية، وقبلها حين حصل نجيب محفوظ على نوبل الآداب، وظلت بعده الجائزة بعيدة عن أيدي العرب، لكنها ليست بعيدة تماما عن طموحاتهم، هناك من ينتظرها في كل عام، من يجلس عند بابها باستمرار، ومن كان متأكدا إلى النهاية، أنها لن تخطئه وسيحصل عليها ذات يوم.
ومثلما كان الأدب، حالة إبداعية صرفة، وفيها خيال، وموهبة تترجم الخيال إلى كتابة شعرية أو نثرية، ومثلما كان الفن أيضا يترجم إلى تخطيط بالريشة واللون، لنحصل على لوحة، فإن العلم أيضا، رغم دراسته الأكاديمية الشاقة، إلا أن من ينتجون الخوارق فيه، ومن يسعون لاكتشاف جزيئيات مادية، غير معروفة وتساهم في خدمة الإنسانية في النهاية، ليسوا دارسين عاديين، بمعنى أنهم لا يكتفون بتحصيل العلم العادي الذي يمنح لهم، ويشغلون وظائف باردة وجامدة، يعملون فيها حتى التقاعد. إنهم يتخيلون ويتخيلون باستمرار، ولن يكتشف أحد مكونات الماء من ذرات الأوكسجين والهيدروجين إلا لو تخيل أن تلك الذرات موجودة في الماء بالفعل، وعمل بجهد على فصلها.
لو تأملنا كل الاختراعات المدهشة في حياتنا، الاختراعات التي سهلت حياة البشر، وجعلتها أكثر سلاسة، بدءا من عقار البنسلين الذي اكتشفه فلمنج، والكهرباء، إلى الأدوية الحيوية التي تساهم في علاج كثير من الأورام، وفي الحفاظ على الأعضاء المزروعة في الجسم، من خاصية رفض الجسم لها، ومرورا بآلاف الأشياء الأخرى التي لا غني عنها، لوجدنا وراءها مواهب خارقة، وتفكيرا عميقا، وخيالا خصبا غاص فيها مليا وتخيلها بكل ما لها وعليها، وشرع بعد ذلك في تمرير الخيال إلى أنابيب اختباره، أو كابلات الاختبار المستخدمة، ليحولها إلى شيء ملموس نافع. كل ذلك يحدث بالموهبة والتخيل والإبداع، وطبعا بعد جرعات العلم المكثفة التي قد يكون نالها أحد أول الأمر، وانطلق بعدها يبحث ويتخيل، ويتخيل ويبحث حتى يصل بخياله وأبحاثه إلى الحقائق.
ولطالما أدهشتني حقائق كثيرة، توصل إليها الباحثون القدماء بلا علم حديث طبعا، وإنما بمواهبهم وتجارب أجروها ونجحت.. مثلا: تلك المجرات الغامضة، وطرق استكشافها وتأملها واستنباط حقائق علمية منها.. مثلا الجاذبية التي سهلت لقوانين حيوية كثيرا بعد اكتشافها، وأيضا علم مثل التحنيط الموجود عند قدماء المصريين، وربما عند غيرهم من الشعوب القديمة، الذي يحتفظ بالموتى كاملين، بلا تحلل. إنه فعل قوي ضد بكتيريا التعفن، نجح موهوبون في الوصول إليه، وتطور بعد ذلك إلى وسائل التحنيط الحديثة.
الكمبيوتر، ذلك الساحر الذي أصبح الآن أداة العصر، التي نستخدمها في كل شيء بما في ذلك إجراء الجراحات الدقيقة، ولا يمكن الاستغناء عنها أبدا، لا يمكن أن يكون اكتشافه قد تم مصادفة أو بلا موهبة وخيال واع كما هو مفترض، لا بد من تخيل شرائح دقيقة يمكن أن تحقن بالذكاء وتتولى توزيعه، وتسهل استخدامه، لا بد من تجارب كثيرة، يكون فيها الكومبيوتر أولا بحجم غرفة كبيرة، ثم بحجم خزانة للثياب، وبحجم طاولة مكتب وفي النهاية، بأحجام متفاوتة يختارها من يريد استخدامه.
العلم الإبداعي، وليس العلم الجامد، المسترخي في ممارسات عادية، لن تقدم جديدا، أكثر من أداء الوظيفة، هو ما يفيد أكثر. كل الأطباء مثلا يدخلون كلية الطب، ويتخرجون منها بالمعلومات نفسها، ليستلموا وظائف في بلدانهم، بعد ذلك يحصلون بالدراسة على تخصصات مختلفة، كالجراحة والأمراض الباطنية والنساء والتوليد وغيرها. بعض هؤلاء الأطباء، لا يذهب إلى الوظيفة المسترخية، ولكنه يجلس ليتخيل أشياء لم يدرسها، أشياء سيبتكرها وحده وتساعد في رقي الدنيا بعد ذلك. سنجد من ابتكر قسطرة للتبول المستحيل، وقسطرة للقلب، تكتشف عيوب شرايينه وتساهم في فتحها وإعادة سريان الدم فيها بأريحية شديدة، ومن ابتكر المنظار الذي يبتلع فيه المريض كاميرا، أو يتم إدخال الكاميرا عن طريق المستقيم، ليحصل الطبيب على مناظر مباشرة وحية، لما يجري من أسى داخل مريضه وتتم معالجته على الفور.
أشياء بلا حصر سيتعرف إلى سككها الموهوبون فقط من دارسي العلوم، والمثابرون منهم خصيصا، لتكون إما خلاصا نهائيا من مشكلات معقدة، وإما نواة لخلاص مقبل بمزيد من الابتكار.
أحمد زويل من الذين وضعوا نواة الخلاص المبكر من قضايا صحية ما تزال عالقة، وكان يمكن أن ينهي تلك القضايا لصالح الإنسان لولا المرض والموت.
لنترحم على ذلك العالم الموهوب، ولنحتف إذن بالموهوبين في العلم وفي الأدب وفي أي مجال آخر، يحتاجه الإنسان، في حياته، ما دام ثمة إنسان وثمة حياة.
_____
*القدس العربي