*د. عبدالله إبراهيم
توجّس أفلاطون من فيوض التخيلات الأدبية في الشعر والسرد، تلك التخيلات المجاوزة للاحتمالات، والمخالفة للعادات الموروثة، وارتاب كثيرا بالحكايات الغريبة، ومثالها الأعلى مرويات هوميروس في ملاحمه، فسعى إلى إطفاء تأثيرها في نفوس العامة التي تنجذب إليها بحكم الدهشة والعجب والطرافة، وتخطّى ذلك فاقترح تجريدها من محمولاتها المتهتّكة، والنعوت الصفيقة، والأفعال الخارقة، وكلّ ما يخدش القيم الأخلاقية التي جعلها عماد الجمهورية التي اقترحها، فهذه الضروب من التخيلات المنفلتة تَعدُ بخطر عظيم يهدّد مجتمع الجمهورية.
ومع أن أفلاطون استعان بالحكايات المروّية في توضيح مقاصده في كثير من محاوراته، وآمن بالأساطير القديمة التي رفعت من شأن الآلهة وأبطال الخيال، ووقع تحت تأثير هالة هوميروس في شبابه، غير أنه وضع السرد والشعر تحت رقابة مُشدّدة، فالحسن منهما مفيد للأجيال الناشئة، والضار منهما مفسد لهم، فمن القواعد التي ينبغي الأخذ بها التصريح ببعض القصص الشعري، وحظر بعضها الآخر عن أسماع حُماة الدولة، ومعظمهم من الفتيان الأغرار “إن شئنا أن يشبّوا على تقوى الآلهة وتبجيل الآباء ومحبة الناس”، ولأن القصص الشائعة في المجتمع الإغريقي كانت تروي أهوال الجحيم شعرا، وتصوِّر اليوم الآخر على أنه “حقيقة مخيفة مرعبة” ما يزرع رهبة في النفس تحول دون اندفاع المحاربين في أداء واجبهم، فمن أجل ذلك “لابد أن نفرض رقابة على رواة هذا النوع من القصص، وأن نطلب إليهم أن يصوّروا العالم الآخر بأجمل الصور، بدلا من تلك الصورة الكالحة الكئيبة التي تشيع بيننا اليوم، مادام قصصهم لا تنطوي على نصيب من الحقيقة، ولا تفيد أناسا مهمتهم ممارسة الحروب”. ذلك ما ورد في الجمهورية.
قصد أفلاطون بتحذيره ما ينسب إلى هوميروس من مرويات تغّذى بها المجتمع اليوناني، وآن قطع دابرها، فجلّ النعوت التي حذّر منها تقبع في تضاعيف “الإلياذة” و”الأوديسة”، ولعلّنا نفهم خوف أفلاطون من تسّرب تلك المرويات الخيالية إلى جمهوريته التي عدّها بديلا للأنظمة المجتمعية والسياسية والدينية السائدة في عصره، فمشروعه العقلي نشأ على معارضة مشروع هوميروس الخيالي. بنى الثاني عالما عجّ بالآلهة والأبطال والأعمال الخارقة، والموت الزُّؤام بسبب الغضب أو الغيرة أو الشهوة، والمصائر القاتمة في العالم الآخر، فيما أراد الأول بناء دولة قاعدتها الفضائل الحميدة، والأخلاق القويمة، لا وجود فيها إلا للمآثر العظيمة التي كانت تفتخر بها الأمة، فجمهوريته ينبغي أن تجبّ ما سبقها، وتُغفله، بل وتُنسيه. ومن أجل إقناع عموم الناس برواية جديدة للتاريخ فينبغي محق روايات السابقين، وإخماد جمرتها، فلا حوار بين مرويات الحاضر ومرويات الماضي، فتصبح الغلبة قاعدة يصدر عنها اللاحق للنيل من السابق.
لم يكتف أفلاطون بنزع الاعتراف عن شاعر حظي بالاهتمام مثل هوميروس إنما تخطّى ذلك إلى إحلال العالم الذي يريده محلّ العالم الذي اصطنعه، على أن ذلك ارتد عليه، في تقديري، فقد استعبده الهوس بهوميروس فكان حاضرا في محاوراته من حيث ينبغي ألا يكون، فتضخيم المخاوف منه فاق ما ينتظره الآخرون من بديل بشّر أفلاطون به، وهو هوس استحال إلى نزعة انكار أُريد بها الاثبات، فبنفي مرويات هوميروس انتهى أفلاطون إلى اقرارها، وقد بذل أفلاطون جهدًا منقطع النظير للافلات من تأثير هوميروس، لكنه لم يبرأ من تأثيره، فقد تشبّع بمروياته، بل آمن بالآلهة التي اختلقها الشاعر إلى درجة رفض فيها المساس بصورها الناصعة، كأن الخرافات لم تحمل بها، والأساطير لم تنجبها، وما وجدت ناقدا جهر بخلافه مع شاعر ثم سقط تحت تأثيره، كما وجدت ذلك في تلك العلاقة الغامضة التي ربطت أفلاطون بهوميروس، فمع أنه صرّح بخلافه معه لكن مروياته الملحمية غزت محاوراته غزوًا إلى درجة بدا لي أفلاطون رهينة بيد هوميروس، فمجافته الظاهرة لعالم هوميروس أخفت توقا مضمرًا لذلك العالم الصاخب الذي قام بتمثيله.