«خلق الإنسان اللغة ليخفي بها مشاعره». أوسكار وايلد
كائنات اجتماعية بالفطرة لا تقوم لها قائمة بدون تكاتف بعضها بعضًا، والتكامل بين جميع أفرادها، إنه نحن بنو البشر، تتعدد الشعوب وتتمايز الثقافات على كوكبنا، ومنذ نشأتنا على الأرض التي يبلغ عمرها ملايين السنين كان لزامًا لبقائنا أن نخلق وسيلة للتواصل بيننا.
من هنا وجدت اللغة، نسق من الإشارات والرموز تشكل جُملًا نتجاذب أطرافها للتفاهم وإدارة معاملاتنا اليومية، وبدونها يتعذر نشاط الإنسان المعرفي.
تقديرات وتساؤلات
يقدر عدد اللغات الموجودة بالعالم ما بين 5000 و7000 لغة، ولكي يكون التقدير دقيقـًا يجب أن يعتمد على التمييز بين اللغة واللهجة، فاللغة الطبيعية مستقلة بذاتها إما منطوقة أو لغة إشارة.
كما توجد تساؤلات حول فلسفة اللغة نوقشت من قبل «جورجياس وبلاتو» في اليونان القديمة، مثل ما إذا كان للكلمات أن تعبر عن خبرة ما، فيقول بعض المفكرين مثل «روسو» إن اللغة نشأت من العواطف، بينما يرى آخرون مثل «كانت» أنها نشأت من التفكير العقلاني والمنطقي، ومن فلاسفة القرن الـ20 مثل «ويتينستاين» من يؤمن بأن الفلسفة هي حقًا دراسة اللغة.
ويتباهى بعضهم بقدرته على التحدث بأكثر من لغة بشرية، ورأينا في أفلام الخيال العلمي حيوانات ناطقة، وبشر يتحدثون لغة الحيوان ويحاورون الحيوانات كما في فيلم the jungle book وغيره.
لكن ماذا عن النباتات هل لها لغة هي الأخرى؟ كيف تتواصل فيما بينها؟!
هل تتحدث النباتات؟
شخصيًّا لدي هواية غريبة، تستميلني مشاتل النباتات ومحلات الزهور بشدة، أجدني أنقاد لتفقد كل مشتل أمُّر به لا إراديًّا، أدمن زيارته بعد ذلك لأطلع على كل نازل جديد يستضيفه، ومن المؤكد أن هناك كثيرين يشاركونني حب اقتناء نباتات الزينة وغيرها، فهل هناك أجمل منها يزين شرفة منزل أو حديقة خلفية تبعث البهجة وتعيد السكينة لأنفسنا.
منذ أيام استوقفني فيديو شاهدته على اليوتيوب بعنوان «هل تستطيع النباتات أن تتحدث بعضها لبعض؟» فقلت لنفسي هل هذه مزحة ما، الأمر يبدو غير قابل للتصديق، فللوهلة الأولى عادت بي ذاكرتي لمسلسل الكرتون «فيفي والزهرات الصغيرات» الذي كنت أتابعه في صغري عن حياة الأزهار، أحيا بي ملكة الخيال التي ميزت طفولتي وأفتقدها الآن، وقلت لنفسي كم سيكون الأمر مشوقًا.
هذه الكائنات المنتجة التي تعمل في صمت تام، هل يمكنك تصديق أنها تتواصل بعضها ببعض، تستمع وتتحدث وتستجيب! كيف وهي لا تملك عيونًا ولا ألسنة ولا ما يمكننا وصفه بجهاز عصبي؟!
حسنًا، الإجابة هي نعم، أما عن الكيفية فهي كالآتي:
تستطيع النباتات أن تتعرف إلى أقاربها
هل سبق أن وضعت أصيص بجوار آخر، ثم حركته بعيدًا قليلًا حتى لا يحجب الشمس عنه؛ فيحصل كلاهما على توزيع متماثل لأشعتها؟ إن كانت إجابتك نعم، فلا داعي لأن يقلقك هذا بعد الآن، لاحظ العلماء أنه يمكن للنباتات أن تتعرف إلى النباتات الأخرى المجاورة لها، وهذا يساعدها أن تدخل معها في تنافس على الموارد، كأن تنمو بشكل أكبر إذا ما كانت هذه الأخرى النامية بجوارها تظلل عليها، لكن هذا في حالة ما إذا كانا نباتين من فصيلتين مختلفتين عن بعضهما، أما إذا كانا أقارب تجمعهما العائلة النباتية نفسها، وجد العلماء أنه عند زراعتهما في أصيص واحد؛ فإن أحدهما تضمر جذوره ويكبح نموه عبر إشارات كيميائية يفرزها النبات المجاور.
التجسس والاستعداد لمواجهة المخاطر
أيضًا يمكن للنباتات أن تتلصص على الإشارات الكيميائية التي تفرزها أشقاؤها، بل تستجيب لرسائل إغاثة من بعضها الآخر، فتقوم بإعلان حالة طوارئ كخطوة استباقية ترفع بها مستوى استعداداتها لمواجهة الحشرات الجائعة التي قد تكون في الطريق إليها، طبقـًا لما توصلت إليه 48 دراسة تم جمعها في عام 2013.
حيث وجد أن بعض النباتات تفرز موادًا بروتينية دفاعية تسمىTrypsin proteinase inhibitors تعمل على حرمان الحشرات المهاجمة من قدرتها على هضم البروتين، وبالتالي توقف نموها.
طلب النجدة
توصل باحثون ألمان إلى أن النباتات تطلق غازًا معينًا عندما تتعرض لخطر ما، خلال رصدهم لصوت فقاقيع هواء تنبعث من نبات صحي عبر ميكروفونات تسجيل فائقة الحساسية، كما لاحظوا أنه تصل حدتها لما يمكن وصفه بصرخة ذعر عندما يكون النبات تحت تهديد حقيقي كلدغات الحشرات الضارة، وتبيَّن أيضًا أن حدة الإشارة المسجلة بواسطة الميكروفونات تزداد بازدياد حدة الخطر المعرض له النبات.
أضف إلى ذلك، رائحة الحصاد الجديد المنعشة تلك هي في الواقع مواد كيميائية تفرزها النباتات وتنشرها في الهواء الطلق على هيئة رسائل جوية، تستقبلها نباتات أخرى عبر مستقبلات حسية كيميائية تُعلمُها بوجود أي خطر في الأجواء المحيطة، كالحشرات آكلة الأوراق وغيرها من الطفيليات الضارة؛ فتبدأ هذه النباتات المستقبلة بتعديل الكيمياء الداخلية الخاصة بها تَبعًا للخطر المحيط.
السيطرة على الإقليم الخاص
تفرز جذور نبات القنطريون موادًا كيميائية تساعده على امتصاص المواد الغذائية التي يحتاجها من التربة، وتعمل بجانب ذلك على تثبيط نمو الأعشاب المقابلة التي تنمو معه، وبهذا يسيطر النبات على حيز كبير خاص به متخلصًا من منافسيه الآخرين، فارضًا سيطرته على منطقته الخاصة ومستحوذًا عليها لذاته.
التواصل مع الثدييات
لبعض النباتات القدرة على اجتذاب ما هو أكثر من الحشرات، مثالًا على هذا نبات الإبريق الآكل اللحوم تطور ليتمكن من اختراق نظام التواصل بين الخفافيش، مستغلًا قدرتها على تحديد الأماكن عبر ارتداد صدى الصوت لمنفعته الخاصة.
فطبقـًا لدراسة حديثة بمجلة Current Biology وُجد أن السطح المقعر لنبات الإبريق يبدو كأنه مُعَدّ خصيصًا ليعكس الموجات التي تبعثها الخفافيش لتحديد الأماكن، وعندما يصلها الصدى يساعدها ذلك في إيجاد النبات، فتتجه إليه الخفافيش وتبيت بداخله، موفرة له بذلك عن طريق ما تُخلّفُه سمادًا عضويًّا ممتازًا يوفر موادًا غذائية مهمة بالتربة المحيطة.
كانت هذه بعض ما توصلت له الدراسات حول طرق التواصل بين النباتات، الذي مازال مجالًا ضيقـًا، لكن مع استمرار تقدم طرق البحث فلا شك أننا سنكتشف المزيد مما يذهلنا، ومما سيشكل ثورة حقيقية في عالم النباتات والهندسة الوراثية وربما وراء ذلك بكثير.
والأهم والطريف أيضًا أن يثبت لمن اعتاد النظر للعلماء الذين بدأوا بدراسة هذه الموضوع منذ عقود حديثة على أنهم مجانيين يفنون أعمارهم في أفكار تبدو كعادة أي فكرة ناشئة غير مألوفة على أنها غير منطقية ومضيعة للوقت عكس هذا تمامًا؛ فأعظم الاكتشافات البشرية بدأت بالسخرية، وانتهت بالتبجيل والإجلال.