*عبد الواحد لؤلؤة
في حديث سابق تطرّقتُ إلى مسألة خلافية بين مؤرخي الأدب في أوروبا، تتعلق بمدى تأثر الشعر الغنائي، الذي ظهر في أوروبا في حدود القرن الثاني عشر، وبعنايته الخاصة بموضوعات الحب الدنيوي، خارج حدود الكنيسة القروسطية المسيطرة على الثقافة، وبالمرأة الدنيوية، دون مريم العذراء، تأثراً بالشعر الأندلسي وتراثه العربي الأوسع، وبخاصة في نظام الموشح والزجل، من حيث نظام القوافي ومن حيث مفهوم الحب وصفاته. بدأ الجدل عام 1790 عندما نشر الايطالي جياماريا باربييري كتاباً بعنوان «أصول الشعر المقفى»، وعام 1791 عندما نشر الباسكي ايستابان آرتياكا كتابا بعنوان «أثر العرب في أصول الشعر الحديث في أوروبا». وفي نهايات القرن التاسع عشر وعلى امتداد القرن العشرين نجد الباحثين الاسبان يكثرون الكتابة عن أثر الشعر الأندلسي في نشوء الشعر الغنائي الحديث في أوروبا بدءاً من القرن الثاني عشر، بظهور أول شعر بلغة بروفنس العامية، أولى اللغات المنسلخة عن اللاتينية، قبل الإيطالية التي دعاها دانته لاتينية العوام. والحديث عن العلاقات المستمرة بين إقليم بروفنس في الجنوب الفرنسي وبين الممالك الإسلامية والمسيحية لا يفتقر إلى أدلة تاريخية لا تحتمل الشك. ولكننا بحاجة إلى تحديد نوع التأثير ومجاله في الشعر، وهذا ينحصر في الشكل: نظام القافية، وفي المضمون: مفهوم الحب.
ففي مجال ظهور القافية أول مرة في الشعر الأوروبي الوليد، نجد قصائد التروبادور الأول «غيّوم التاسع»(1071 ـ 1127) الإحدى عشرة، تقدم أول الأمثلة على ظهور القافية غير المعروفة في التراث الإغريقي واللاتيني من بعده. ففي القصائد الثلاث الأولى زمنياً نجد حرف الروي الواحد يشبه ما في شعر المعلقات وما تبعه في الأندلس من شعر عبد الرحمن الداخل فصاعداً. ففي القصيدة الأولى 27 بيتاً، وفي الثانية 21 بيتاً وفي الثالثة 42 بيتاً، وجميعها تلتزم حرف روي واحد: en في الأولى، ei في الثانية، وهكذا. تشير الدراسات التاريخية أن الأمير الشاعر غيوم قاد حملة صليبية إلى فلسطين عام 1101 فاندحر وأخذوه أسيراً، وبقي في «بلاد المسلمين» ثمانية عشر شهراً عاد بعدها إلى بواتييه لينظم قصائد ثماني أخرى تختلف في نظام قوافيها بما يشبه نظام الموشح . أول تلك القصائد، وهي الرابعة، تقع في سبعة مقاطع، في كل مقطع ستة أبيات قوافيها أ ـ أ ـ أ ـ ب ـ أ ـ ب ـ وتستمر على مدى 42 بيتاً، فتغيّر فيها قوافي البيتين 4، 6. فمن أين جاء هذا النظام الدقيق في القوافي إذا لم يكن محاكاة للموشحات وأصحابها، وأغلبهم من معاصري التروبادور الأول، وعلاقاته مع قصور الأندلس تفيض بها التواريخ؟
ألا يذكِّرنا هذا النظام في القوافي بالموشح «المتنازع عليه» بين ابن المعتز الخليفة العباسي الشاعر، وبين ابن زُهر الحفيد، الوشاح الأندلسي: «أيها الساقي اليك المشتكى»:
أيّها الساقي اليكَ المُشتَكى أ قد دعَوناكَ وان لم تَسمَعِ ب
ونَديمٍ هِمتُ في غُرَّتِهِ ج
وبشرب الراح من راحتِه ج
كلّما استيقظ من سَكرَتِه ج
جذب الزقَّ إليه واتّكا أ وسقاني أربعاً في أربعِ ب
وفي القصيدة رقم 7 نجد نظام التقفية في المقطع سداسي الأشطر يتبع أ ـ أ ـ أ ـ ب ـ أ ـ ب. ويُظهر كذلك أول أمثلة مفهوم الحب الجديد على أوروبا القروسطية، وذلك في الشعر البروفنسي باللهجة الأوكسيتانية أولى العاميات:
لا يمكن لامرئ أن يُخلص للحب أ
ما لم يَكُن خاضعاً له أ
وما لم يكن متواضعاً تجاه الغرباء والجيران أ
وما لم يكن مستجيباً ب
لجميع من هم في الجوار أ
ومُطيعاً ب
الخضوع في الحب والاخلاص للمحبوب و«حُسن الأخلاق» شروط جديدة بالمقارنة مع شعر أوفيد اللاتيني في كتابه «علاج الحب» الذي يدعو الرجل إلى القسوة على المرأة التي يحب، ليقودها إلى الطاعة. لكن الحب في المفهوم العربي التراثي نجد الإشارة إليه في كتاب «الزُّهَرَة» لابن داوود الذي نُشر ببغداد عام 890 حيث يورد إشارة إلى ضرورة الطاعة عند المحب: «لو كان حُبكَ مخلصاً لأطعتَهُ/إن المُحِبَّ لمن أحبّ مُطيعُ». وكان هذا الكتاب معروفاً لدى ابن حزم الأندلسي، كما يذكر، في كتابه النفيس «طوق الحمامة في الأُلفة والألاف» الذي كتبه بشاطبة الأندلس عام 1022.
ولا شك ان الكتابين كانا معروفين لدى شعراء الأندلس حكماً على الإشارة اليهما في الموشحات والأزجال من بعدها، وخصوصاً عند ابن قزمان (ت 1160) الذي كان معاصراً لعدد من الشعراء التروبادور. وإذا كان البحث عن تشابه نظام القوافي الجديد في قصائد التروبادور، بدءاً من غيّوم إلى آخر من نعرف منهم غليهم دي مونتاناغول» الذي توفي بعد عام 1250، مسألة لا تقبل الجدل، فإن متابعة أمثلة مفهوم الحب الجديد على أوروبا، كما تُظهره أمثلة من شعر التروبادور على امتداد أكثر من قرنين، يشكِّل أهمية أكبر في بيان الأثر الأندلسي العربي في الشعر الأوروبي الغنائي الجديد، الذي انتقل إلى صقليا بعد غزوة البابا إنوسنت الثالث عام 1209، ثم إلى إيطاليا وبقية أوروبا بعد ذلك حتى ظهور شكسبير، ومن بعده الشعر الرومانسي في القرن الثامن عشر في المانيا والتاسع عشر في بريطانيا.
وجذور هذا المفهوم الجديد للحب نجدها في كتاب «الزُّهَرَة» لابن داوود وفي كتاب «طوق الحمامة» لابن حزم. فما ورد في هذين الكتابين من أفكار عن الحب كانت شائعة في الجو الثقافي الأندلسي الذي عرفه شعراء التروبادور بحكم معاصرة أغلبهم للوشاحين والزجالين، وبمساعدة ازدواجية اللغة عند الأندلسيين. وليس معنى هذا أن التروبادور كان نسخة كاربونية من الوشّاح أو الزجّال، بل إن الأثر ثقافيّ ومُحاكاة مع الاحتفاظ بالموهبة الفردية للتروبادور.
أورد ابن داوود في كتابه خمسين باباً من أبواب الحب مثّل بمئة بيت من الشعر لكل باب، أغلبها من شعر التراث العربي السابق على القرن التاسع، تاريخ كتابه «الزهرة». كما يورد ابن حزم ثلاثين بابا في أنواع الحب يمثل لها بأشعار من التراث، وبعضها من نظمه. الحب يرفع قدر العاشق والمعشوقة. يقول برنار دي فينتا دورن في القصيدة 31: «إنه لميت حقاً من لا يحسّ من الحب/حلاوة في قلبه». الحب ليس خطيئة في نظر ابن حزم: متى جاء تحريم ُالهوى عن محمد/وهل مَنعُهُ في مُحكَمِ الذِّكرِ ثابتُ؟ يقول دي مونتاناغول «الحب ليس خطيئة/بل قوة تحيُل الاشرار أخياراً». يقول ابن حزم في باب «علامات الحب» إن منها «بَهتٌ يقع وروعة تبدو على المحب عند رؤية من يحب» ويقول دي فنتادورن في القصيدة رقم 26: «يعتريني الهلع في حضور سيدتي الحسناء/فألقي بنفسي إليها طلباً للرحمة». يرى ابن حزم أن «طاعة المحبوب والتذلل له ليس دناءة في النفس»: ليس التذلل في الهوى يُستنكرُ/فالحب فيه يَخضَعُ المستكبرُ». ويقول دي فنتادورن في القصيدة رقم 33: «سيدتي، أنا طوع يمينك وسأبقى كذلك/جاهزاً من أجل خدمتك/أنا تابِعُكِ المخلص الأمين/وما أزال كذلك منذ زمان». وفي باب «من أحبّ في النوم» يذكر ابن حزم خبراً عن صاحب له رأى في النوم جارية فوقع في حُبِّا وهو لا يعلم من هي. وفي القصيدة رقم 2 يقول غيوم إنه وقع في حب حسناء وهو نائم على ظهر فرس يسعى به ﺇلى تلَّة عالية، فلما أفاق لم يكن يدري من هي.
لقد ظهر الموشح الأندلسي على يد مُقدَّم بن مُعافى الضرير القَبري القرطبي، من شعراء بلاط الأمير المرواني في حدود عام 880 أي قبل ولادة أول الشعراء التروبادور بأكثر من قرنين من الزمان، أزدهر فيها نظماً وغناءً، ملأ الأجواء الثقافية في الأندلس التي اغتنى بها الشعراء التروبادور وطوَّروا فيها، كما هو منتظر من جميع أصحاب المواهب الفردية، وقد استمر هذا التطور على أيدي شعراء صقليا ومن جاء بعدهم من شعراء إيطاليا، وأبرزهم دانته وبعده بتراركا وبوكاجيو من أصحاب «الأسلوب الحلو الجديد» الذي أبدع «السونيتو» وهي الأغنية القصيرة، وموضوعها الدائم هو الحب. مثل صاحب ابن حزم الذي عشق جارية في النوم ولم يعرف من هي، نجد جوفري روديل التروبادور يعشق «كونتيسة طرابلس» في البلد البعيد عنه، وهو لم يرَها قَط ، كذلك الامبراطور الرومي الملك فريدريك الثاني ملك صقليا (1194 ـ 1250) نجده يقلد الشعراء التروبادور في حب البعيدة عنه، التي لم يرها قط، هي هذه المرة «زهرة سوريا» إذ يقول: «أيتها الاغنية البهيجة/إذهبي إلى زهرة سوريا/إلى تلك التي أطبقت السجن على قلبي/اخبريها، قولي للمحبوبة الأسمى/أن تمنح بعض كرمها/في تذكُّر خادمها/ذاك الذي يقاسي في حبها/طالما لا يقوى أن يكون تماماً طوع بنانها».
_________
*القدس العربي