التروبادور تعلّموا في مدرسة العرب


حسين بن حمزة

على غرار مؤلفاته وترجماته المُحكَمة، يبني عبد الواحد لؤلؤة أطروحة متماسكة حول تأثّر التروبادور بالموشحات الأندلسية في القرن الثاني عشر. «دور العرب في تطور الشعر الأوروبي» (المؤسسة العربية) يعتبر تلك اللحظة بدايةً لمساهمة عربية في تطور الشعر الأوروبي

في منتصف القرن الثاني عشر، وفي الأقاليم الواقعة جنوب غرب فرنسا وشمال إسبانيا، ظهر نوع من الشعر الغنائي المكتوب بلغة عامية لا تشبه اللاتينية، ويتناول موضوعاتٍ تحتفي بالحب الدنيوي والشخصي الذي بدا مثل هرطقة بالنسبة إلى الكنيسة والسلطة معاً، لأنه غيّر الموقف من المرأة، وخصوصاً بين أفراد الطبقة الأرستقراطية، وتضمّن أشكالاً من الحب العابث الخارج على الزواج. لكنّ ذلك ترافق مع مناخات العشق العذري أيضاً. كان ذلك ما سمّي «الشعر البلاطي» الذي كتبه «شعراء التروبادور» باللهجة «الأوكسيتانية» أو لغة «بروفنس»، واعتُبر ممارسة وثنية في المنطقة التي ظهر فيها، وهو ما دعا البابا إنوسنت الثالث إلى اجتياح الإقليم المارق سنة 1209.
من أين جاء هذا الشعر المختلف في الموضوعات وفي نظام الكتابة؟ ولماذا ظهر في تلك المنطقة من أوروبا بالتحديد؟ ولماذا كُتب بلهجة أهلها، لا باللاتينية السائدة؟ ولماذا احتوى على القافية غير الموجودة في الشعر اللاتيني؟ من هذه اللحظة التاريخية، والأسئلة المتولّدة منها، يبني عبد الواحد لؤلؤة أطروحة كتابه «دور العرب في تطوّر الشعر الأوروبي» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، منطلقاً من فكرة أن هذا الشعر هو نسخة مبتكرة من الموشّحات والأزجال الأندلسية، وأن التداخل السكاني (وأشكال التعايش الاجتماعي والاقتصادي) الذي عرفته الأندلس، جعل مسألة التأثر والتأثير أمراً بديهياً، وأن الشعر كان جزءاً من هذا المشهد. هكذا، فتش الناقد والمترجم العراقي في الكتابات والمراجع التي كُتبت عن تلك الحقبة، وقارن بين الآراء والتحليلات الواردة فيها، وقرأ ذلك في ضوء التاريخ العربي والمؤلفات العربية الموازية، وانتهى إلى أن تأثير الموشحات هو الحاسم في نشوء شعر التروبادور في تلك الأقاليم المسيحية المتاخمة والمتداخلة مع الإمارات العربية الأندلسية. في سبيل خلاصة مثل هذه، لم يكن غريباً أن يكتب صاحب «البحث عن معنى» بحثاً أكاديمياً متكاملاً جمع فيه بين الدراسة التاريخية والشعرية، وبين النصوص والأشعار، مستأنساً بآراء ووجهات نظر نقدية وتاريخية عديدة. يبدأ ذلك من تتبع مسألة تطور الشعر العربي والتجديد الذي حصل داخل العمود الكلاسيكي وبحور العروض الأساسية، وهو ما حدث في الأسلوب وقواعد العروض من خلال اعتماد أوزان الزّحاف والخَبن والطيّ في العصر الجاهلي وصدر الإسلام، ثم ظهور أشكال أكثر تطوراً مثل المخمّس والمسمّط والمزدوج في العصر العباسي، قبل أن يصبح التجديد تحدياً لهذا العمود وخروجاً عنه في أنماط الموشّح والزجل والخَرْجَة في الشعر الأندلسي. وهي أنماط ظهرت بسبب التجديد، واستجابةً لأجواء التلحين والغناء التي سادت في تلك الحقبة سواء في المشرق العربي أو في الأندلس. يشترك الموشح والزجل في أنهما صنعا للغناء أولاً، ولكن الثاني منظوم باللغة العامية مثل الخرجة التي كانت تُنظَم بالعامية وبالعجمية (الرومانث) من باب الطرافة. شعراء التروبادور نظموا أشعارهم وأغانيهم على غرار ما عرفوه وسمعوه من الموشحات والأزجال العربية المعاصرة لهم، وهو ما يعاينه المؤلف في قصائد أول شعراء التروبادور «كيّوم التاسع» أو غيّوم وغليوم في ملفوظات أخرى، وكان دوقاً في منطقة بواتييه (1071 – 1127)، وقاد حملة صليبية أُسر فيها ثمانية عشر شهراً في عكا.
الدراسة التحليلية والعروضية واللغوية في أشعار كيّوم ومن لحق به مثل ثيركاميرون وماركبرو، إضافة إلى استعراض دقيق لمؤلفات الباحثين الغربيين، تترسخ فكرة «أن الشكل والمضمون في الشعر الأوروبي الحديث قد جاءا عن طريق الشعر العربي في الأندلس بتوسّط شعراء بروفنس»، بحسب لؤلؤة الذي يشير في مكان آخر إلى أن الباحثين الإسبان كانوا سبّاقين في نشر وتفسير نصوص الموشح والزجل والخرجة، والأهم أنها كانت «دراسات رصينة غير متحيزة ضد الجذور العربية في نشأة هذه الأنماط». هكذا، بعد متابعة الازدهار الذي عاشه شعر التروبادور، وانتقال تأثيره إلى مناطق أخرى في إيطاليا وجرمانيا وإنكلترا وغيرها، واستعراض مذاقاته لدى شعراء مثل دانتي وشكسبير، يستنتج المؤلف أن «شعر بروفنس لا سابقة عليه، وإنه بلا جذور في التراث الأوروبي»، وأنه أحدث تصادماً «بين مفهوم تديّنٍ مسيحي كما فهمته الكنيسة، ومفهوم «وثني» يجد في المرأة موضوع حب دنيوي»، وأن التطور في الشعر الغنائي باللغات الأوروبية المعاصرة «بدأ باتصال الموهبة الغربية الأوروبية في جنوب غرب فرنسا بالموهبة الشرقية في الأندلس وتراثها العربي العريق».

– الأخبار اللبنانية

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *