*محمد ناصر المولهي
صفاقس (تونس) – حدث استثنائي عاشته مدينة صفاقس التونسية السبت 23 يوليو الجاري بافتتاح فعاليات “صفاقس عاصمة للثقافة العربية” في نسختها العشرين.
في قلب الشارع الرئيسي لمدينة صفاقس انتصبت أعلام الدول العربية أمام بناية تاريخية فخمة تتخذها البلدية مقرا لها. تكاشف هذه الأعلام ضيوف المدينة من مختلف الأقطار العربية في أولى خطواتهم على أرضها، في ألفة تؤكد أن الشعوب العربية شعب واحد توحّده الثقافة واللغة أكثر مما تفرّقه الأعراق.
افتتاح تظاهرة “صفاقس عاصمة للثقافة العربية” لم يكن تقليديا مكتفيا بعرض واحد في مكان واحد، بل كان لوحة من العروض التي توزعت في أماكن مختلفة من المدينة، بداية من العروض الفلكلورية لفرق الفن الشعبي بصفاقس أو ما نطلق عليه اسم “السطنبالي” الذي يمزج بين الفن الأفريقي والمخيال الشعبي التونسي، فكانت الفرق تذرع الشارع في مواكبة كثيفة من قبل المواطنين.
بالتزامن مع عرض السطنبالي الضارب عميقا في التراث الشعبي التونسي، قُدّم بشط القراقنة من المدينة عرض لصور في شكل مكعبات ضوئية قدمت مسحة عن صفاقس بمعمارها وتمظهراتها الثقافية الثرية. وقدم بالكرنيش جوّ عرض لسفن شراعية اتخذت كل واحدة منها علم دولة عربية شراعا لها، في جولة تابعها حضور غفير من مختلف الفئات.
تقدمت وزيرة الثقافة التونسية سنية مبارك الاستقبال الرسمي لضيوف “صفاقس عاصمة للثقافة العربية” برفقة سياسيين وأعضاء من الحكومة، إضافة إلى وزراء الثقافة لعدد من الدول العربية كالجزائر والبحرين والسودان، علاوة على عدد من الشخصيات الثقافية وممثلين عن منظمات مختلفة كالألكسو، تمهيدا للإعلان الرسمي عن افتتاح التظاهرة.
قبل إعلان الافتتاح شهدت المدينة عروضا ضوئية على الجدران وخاصة السور القديم، حيث تزينت الأسوار بلوحات ضوئية مختلفة الألوان وصور تعريفية بالمدينة وتاريخها.
مساء، انطلق بالمدينة عرضان كبيران الأول أوبريت بعنوان “المدينة الخالدة” بقيادة الفنانة هيام يونس، وقد جمع بين المسرح والموسيقى والغناء، وهو عرض يحكي قصة نضال بلد لأجل الحرية رغم ما يكابده ورغم تصاعد أرواح الشهداء إلى السماء وقسوة وجور الأنظمة وقوى الاستعمار. وتعتز صفاقس بالدور التاريخي الذي لعبته في مقاومة الاستعمار الفرنسي.
وأكد العرض على أن الشعوب تواقة دوما للتحرر وأن البلد مهما رزح تحت ثقل الفقر أو القمع فهو قادر على تحقيق الحرية والحياة بأبنائه. ولفت العرض النظر إلى قيمة البلدان بترابها وسمائها في قلوب الأجيال المتلاحقة. وقد تابع العرض في الشارع جمهور غفير تفاعل بشكل كبير مع الأغاني الحماسية بكلماتها المؤثرة التي تقدم حكاية سلسة على لسان شخصيات تجسد الخير والشر، في لوحات تمثيلية تسير بالمتفرج ليرافق قصة بلد ينتصر بأبنائه.
وتزامنا مع عرض أوبريت “المدينة الخالدة” شهد فضاء القصبة من المدينة القديمة الافتتاح الرسمي لتظاهرة “صفاقس عاصمة للثقافة العربية” بحضور وفود رسمية من مختلف الدول العربية.
كانت بداية الكلمة الافتتاحية مع ما قاله الشاعر السوري نزار قباني عن مدينة صفاقس “اعترف لكم أن صفاقس هزمتني/… وأنا ضعيف أمام كل حب ولا سيما حب صفاقس”.
وقال الدكتور عبدالله محارب مبارك المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الألكسو في كلمة ألقاها نيابة عن الأمين العام لجامعة الدول العربية أن التظاهرة إضافة كبرى خاصة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الشعوب العربية، وأنّ الثقافة العربية هي الرابط القويّ الذي يمكن من خلاله مواجهة المصاعب المختلفة التي يعيشها العرب.
وذكر محارب مبارك بتاريخ تظاهرات العواصم الثقافية التي ظهرت فكرتها في أوروبا سنة 1983 لتكون أول نسخة عربية لهذا الحدث الثقافي سنة 1996، وتبلغ اليوم مدينة صفاقس في الدورة العشرين من تظاهرة العواصم الثقافية العربية. وأثنى في كلمته على تنظيم تونس هذه التظاهرة رغم ظرفها الصعب والتحديات التي تخوضها على واجهات شتى.
وذكرت وزيرة الثقافة التونسية سنية مبارك، في كلمتها الترحيبية بضيوف صفاقس وتونس، بتاريخ صفاقس النضالي والفني على مدى قرون، إذ مثلت هذه المدينة “أرض إرادة الحياة ضد الجهل والتطرف”. وشددت الوزيرة التونسية على أن تونس بأسرها تنتصر من خلال صفاقس للحياة التي تغنّى بها الشاعر التونسي أبوالقاسم الشابي. وقالت سنية مبارك “الحياة نهوض وانتصار وإرادة وتحدّ. وإن المعنى الكبير للعاصمة الثقافية مبدؤه الفهم للثقافة العربية المشاركة وعيا بالحاجة للتعاون والتكافل”، معتبرة ذلك الطريق الأنجع أمام الشعوب العربية الطامحة للأفضل. ومشددة على أن الثقافة هي جدار الصد الأول ضد التطرف والتأسيس للتعايش والتحاور والاختلاف الخلاق بين مختلف الشعوب.
وذكرت الوزيرة مجموعة من الإجراءات التي سيتم اتخاذها بالتزامن مع الحدث ومنها السعي لتسجيل المدينة القديمة بصفاقس في قائمة التراث العالمي، إضافة إلى تهيئة كورنيش المدينة ليكون فضاء ثقافيا مفتوحا. كما أكدت سنية مبارك على التأسيس لتكون صفاقس عاصمة للشباب مشعة على محيطها الوطني والعالمي لما تزخر به من طاقات وثراء ثقافي كبير.
وشهد الافتتاح تقديم مقتطف من عرض “عطور” للموسيقي التونسي محمد علي كمون ابن محافظة صفاقس، حيث قدم فيه عطرا موسيقيا من كل محافظة من محافظات تونس، من صفاقس وقرقنة من الجنوب والشمال، في رحلة بين أقاصي التراث الموسيقي والغنائي التونسي قدمها الموسيقي التونسي مع فرقة من الشباب بشكل حداثي، وقد عرضت في الخلفية صور لأهم معالم صفاقس التاريخية إلى جانب لوحات فنية مختلفة ما جعل جمهور الافتتاح يتفاعل مع العرض بشكل كبير.
وأعاد علي كمون وفرقته تقديم العرض كاملا في الشارع أمام باب الديوان من سور صفاقس التاريخي، في حضور جماهيري كبير رغم الوقت المتأخر.
وأجمع حضور المهرجان على أن ما يلفت الانتباه في أول يوم من التظاهرة هو الإقبال الكبير للمواطنين ممن واكبوا مختلف فعاليات الافتتاح على اختلافها، ثم كان تأمين التظاهرة ناجحا حيث لم تشهد أحداثا خارجة عن السياق وهذا مما يحسب لصفاقس التي تسعى لأن تشعّ على محيطها ثقافيا.
وصرّح المسرحي شكري البحري المسؤول عن الأنشطة الثقافية بصفاقس التي توصف بأنها عاصمة الجنوب التونسي لـ”العرب” أن التظاهرة تسعى لـ”كسر المركزية بانفتاحها على 127 عمادة و16 معتمدية تابعة للمحافظة، وذلك ليس من خلال الفعاليات فحسب بل عن طريق تركيز الثقافة كرؤية ومخطط تنموي كامل، فلا تتوقف الثقافة عند حدود عرض وجمهور بشكل مناسباتي، بل هناك سعي إلى تطبيق خطة شاملة رغم ضيق الفترة الزمنية التي وقع رسمها فيها”.
وقال البحري “نحاول نسج رؤية كاملة بداية بتثمين التراث المادي والتاريخي وغير المادي الثريّ لصفاقس، وتقديم بحث مفصل حول عدة تظاهرات مثل مهرجان عقارب للفروسية، ومهرجان سيدي منصور وغيرهما، للنهوض بهذه التظاهرات إشعاعا على محيطها وتعريفا به. فنحن في صفاقس أو في تونس عامة رغم زادنا الثقافي الثري نفتقد لخارطة ثقافية تساهم في الرصد من أجل التحسين. ثم نعاني من غياب الأولويات الثقافية، لذا نقوم بإحياء العديد من التظاهرات والرموز الثقافية وجزء مهم من التراث الشفوي والبصري وتهيئة المناطق الأثرية والتاريخية دفعا إلى تنمية الجهات وجعل الثقافة إيمانا وعملا تنمويا عميقا”.
وعن حال المبدعين الذين يمثلون ركيزة العمل الثقافي المؤثر، يلفت البحري النظر إلى أن “الإبداع في صفاقس مظلوم ومهمّش وخاصة إعلاميا وإنتاجيا إزاء مركزية العاصمة، حيث تعاني صفاقس من غياب الفضاءات الملائمة للفعل الثقافي لذا يوضح التجاء المنظمين لإحياء تظاهرة صفاقس عاصمة للثقافة العربية في الشارع، حيث الشارع خيارهم البديل عن الفضاءات المهترئة، وهو فضاء مؤثر لغرس الثقافة بين صفوف الناس بمختلف شرائحهم”.
ويقول البحري إن صفاقس وهي قطب صناعي “لم تساهم مؤسساتها في دعم التظاهرة إذ لا وجود لإيمان بخلق صناعة ثقافية رغم حال الثقافة الصعب الذي تأثر بالأزمة الاقتصادية”، لكنه لا ينفي وجود أمل لإصلاح ذلك “إذ هناك جيل جديد من المبدعين يؤسسون لمشهد ثقافي مغاير من خلال التجائهم للشارع”. ويعتبر البحري أن تظاهرة “صفاقس عاصمة للثقافة العربية” ورغم بعض الهنات التي سيقع تداركها، “هي شهادة للجميع وللعالم أننا بخير وأننا بأمن ثقافي”.
وشهد مقر بلدية صفاقس صباح الأحد 24 يوليو حفل توقيع لاتفاق شراكة بين تظاهرة صفاقس عاصمة للثقافة العربية والقدس التي أقرها العرب عاصمة دائمة للثقافة العربية. ويشهد الاثنين 25 يوليو الاحتفاء بفلسطين بتنظيم “يوم فلسطين”.
ولئن نجح الافتتاح خاصة من حيث مواكبة الجمهور بمختلف شرائحه ونجاحه في توحيد كافة أطياف المجتمع وهذه هي الرسالة الأسمى للفعل الثقافي، ورغم بعض الاضطراب التنظيمي، فإن سكان صفاقس الذين واكبوا الافتتاح بكثافة انتقدوا التظاهرة لاهتمامها فقط بتهيئة مساحة صغيرة من المدينة حول أماكن الفعاليات وغض الطرف عن بقية أجزاء المدينة التي ما زالت تحتاج إلى تهيئة، كما لوحظ حضور هزيل للمثقفين سواء من تونس أو من خارجها. وهذا ما يدعو الهيئة المنظمة إلى محاولة تجاوز الهنات التي سببها ربما ضيق المساحة الزمنية، لكي لا تكون صفاقس عاصمة للثقافة العربية حبرا على ورق ولإنصاف مدينة ثرية ثقافيا وتاريخيا.
____
*العرب