علي الوردي ونقد العقل البشري


*د. إبراهيم الحيدري


بالرغم من ان العقل البشري هو ملكة خاصة بالإنسان تميزه عن غيره من الكائنات الحية، فقد اختلف الفلاسفة في طبيعته. فالتجريبيون يعتبرون ان العقل يقوم على التجربة، أما العقلانيون فيذهبون الى استقلال العقل عنها. وكان رواد عصر التنوير أشاروا الى قصور العقل عن اكتشاف الجهل المركب مما جعله مهيمنا، وخاصة ايمانوئيل كانت الذي أثار الشك حول مقدرة العقل وتعرضه للخطأ ودعا الى استنفار الفاعلية النقدية لإخراج الانسان من قصوره للتخلص من الأوهام التي قد يقع فيها. 
مرجعية الوردي
ان فكرة نقد العقل البشري التي تم توظيفها من قبل الوردي كانت قد تأثرت بالأفكار التي انتقدت الافتراض بطبيعة العقل الثابتة، معتبرا ان العقل البشري متعصب ومتحيز بطبيعته بسبب تأثره بالبيئة والقيم والمعتقدات والمصالح. 
استمد الوردي مرجعيته لنقد العقل البشري من ثلاثة مصادر رئيسية هي:-
أولا- ابن خلدون في نقده للمنطق الأرسطي 
اتخذ الوردي من نظرية ابن خلدون في علم العمران البشري والاجتماع الإنساني مرجعية أساسية لأفكاره الاجتماعية. فابن خلدون كان أول من انتقد المنطق الصوري الذي جاء به أرسطو لأنه منطق استنباطي يبدأ من الكل وينتهي بالجزء ويقوم على وجود قواعد فطرية ثابتة في التفكير ترتبط بطريقة التفكير التقليدية القديمة في النظر والبرهان وتعتمد على الحقيقة المطلقة، أي ان الحقيقة ثابتة وقائمة بذاتها وإنها منفصلة عن الظروف الموضوعية والعلاقات الاجتماعية . 
وكان هدف ابن خلدون تبيان قصور المنطق الأرسطي عن فهم الحياة الاجتماعية الواقعية، لأن الحقيقة ليست ثابتة وإنما متغيرة بتغير البيئة وأحوال العمران البشري. 
لقد تحرر ابن خلدون من منطق أرسطو وثار عليه ووضع مكانه منطقا اجتماعيا يقوم على ان الانسان ابن بيئته وعوائده ويستمد قيمه واخلاقه من البيئة لأنه يخضع للظروف الاجتماعية والاقتصادية المتغيرة بتغير الأحوال الاجتماعية.
يشير علي الوردي الى ان المنطق الذي جرى عليه تفكير ابن خلدون كان قد أثر على نظريته الاجتماعية وساعده على صياغة مقدمته في العمران البشري والاجتماع الإنساني بطريقة واقعية خرج فيها على الطريقة الوعظية التي سيطرت على الفكر لقرون عديدة. 
ثانيا- سيغمويند فرويد في تأكيده على الدوافع
كان فرويد أول من شدد على أهمية الدوافع البشرية وخاصة الغريزة الجنسية في تشكيل الحضارة والشخصية وعارض في ذلك رأي القدماء في طبيعة الانسان العاقلة، مؤكدا على أن السلوك البشري ليس موجها بالعقل ، وإنما بالدوافع، التي هي غرائز لاعقلانية تؤثر على حياتنا وسلوكنا. وإذا أراد الانسان فهم السلوك فعليه فهم الدوافع التي تختفي وراءه.
وحسب على الوردي، فان فرويد استطاع الكشف عن قناع الانسان المصطنع وجعله عارياً. وان المفكرين قبله كانوا يعتقدون بأن الانسان ذو عقل واحد يسيطر على أعماله ويوجه سلوكه، فإذا انحرف أرجعوا السبب الى عقله وناشدوه ان يعقل ويتعظ، وان لم يفعل اعتبروه مستحقا للعقاب. أما فرويد فقد اكتشف ان في الانسان عقلا ثانيا غير العقل الواعي وأطلق عليه العقل الباطن أو اللاشعور وأعتبره مهما لفهم الطبيعة البشرية. ومن هنا أصبح الانسان عند فرويد ليس خيراً محضا وليس شريرا محضا وإنما هو خير وشرير في آن واحد. 
اعتبر فرويد اللاشعور من أهم العوامل في تكوين شخصية الانسان والكشف عن خفايا النفس البشرية وأنه الأساس الوحيد الذي يقوم عليه السلوك البشري، لأن الانسان لا يسلك في حياته اليومية بناءً على ما يمليه عقله وإرادته، وإنما بناءً على دوافع خفية كامنة في النفس البشرية تدفعه نحو ما يقوم به من سلوك دون أن يشعر بذلك.
ثالثا- كارل منهايم واجتماعية المعرفة 
وضع منهايم، عالم الاجتماع الألماني، نظرية في اجتماعية المعرفة التي تبحث في التأثير المتبادل بين الفكر والواقع الاجتماعي، معتبرا ان الحقيقة نسبية وأنها موجودة خارج العقل البشري وشبهها بالهرم ذو الأوجه المتعددة وأن كل منا لا يرى من الهرم سوى الوجه المقابل له دون الوجوه الأخرى.
تأثر الوردي بنظرية منهايم في نسبية المعرفة الاجتماعية وحاول إعادة انتاجها وتطبيقها على المجتمع العراقي والعقل العراقي، منطلقا من أن المجتمع العراقي هو مجتمع زراعي تقليدي مغلق يجعل العراقي لا يرى من الحقيقة إلا وجها واحدا هو الوجه المقابل له.
الطبيعة البشرية
ومن أجل فهم المجتمع العراقي وشخصية الفرد العراقي وجه الوردي اهتمامه الى دراسة الطبيعة البشرية وسبر أغوارها، منطلقا من السؤال المحوري : 
هل ان الانسان مخيّر أم مسيّر؟! 
وقد أجاب الوردي بان الانسان مسيّر في أغلب أفعاله وأنه مدفوع ومجبور بدوافع لاشعورية، ودور العقل هو تبرير ما يقوم به الانسان من أفعال.
في كل مؤلفاته انتقد الوردي المنهج العقلي وبين عيوبه باعتباره منهجا لا يتلاءم مع المنهج العلمي الحديث حيث أخطأ أصحاب المنهج العقلي عندما تصوروا ان الطبيعة البشرية كأنها نتاج العقل، وأن العقل كأنه موهبة عليا وظيفتها الوصول الى الحقيقة، وظنوا ان في وسعهم اصلاح البشر عن طريق الموعظة والخطابة واسداء النصح. انهم يعيشون بتفكيرهم في أبراج عاجية وينظرون الى المجتمع نظرة مثالية. 
ويعني بذلك ان المنطق الارسطي يرى بأن المشاكل الاجتماعية هي مشاكل عقلية بالدرجة الأولى ولا دخل للظروف والبيئة والقيم الاجتماعية بها ” فاذا صلحت العقول صلحت أخلاق الناس واستقامت أمورهم”.!
ومن سلبيات المنهج العقلاني أيضا انه صنيعة الثقافة الاجتماعية السائدة التي ينشأ عليها الانسان وتنمو من خلالها مقدراته العقلية. فهو يقول “فإذا وجدنا أفرادا يمارسون عادات وتقاليد باطلة فلا يكفي لإصلاحهم ان ندعوهم الى التفكير السليم، لأنهم يعتقدون بان ما اعتادوا عليه هو الصحيح وما يعتقده الآخرون هو خطأ، وغالبا ما لا يستسيغ البعض أن يروا واحداً يخالفهم في الرأي لأنهم يظنون بأنهم على صواب وغيرهم على خطأ”. 
والشخصية عند الوردي محور الطبيعة البشرية ، وهي نتيجة تفاعل بين الغرائز الطبيعية والقواعد الاجتماعية والأخلاقية. ولكن البيئة والتربية والقيم الاجتماعية تصب الشخصية في قالب معين، وبذلك فهي: “صنيعة من صنائع المجتمع”.
أما ازدواجية شخصية الفرد العراقي فيرجعها الوردي الى وقوع الأفراد تحت تأثير نمطين مختلفين من القيم الاجتماعية هما قيم البداوة وقيم الحضارة، لذلك أصبح الفرد بدوياً في عقله الباطن، مسلماً في عقله الظاهر، وهذا مصدر الازدواج في شخصية الفرد العراقي.
الأنانية والأنوية
يرى الوردي ان الانسان ليس أنانيا وإنما هو أنوي.. فالأنانية هي حب الذات وهي إحساس فردي، بينما الأنوية إحساس اجتماعي، أي الشعور بالذات التي تجعل الانسان دائم السعي لاشباع غرائزه على حساب الآخرين وتبرير ذلك بحجج عقلية ونقلّية.
والانسان ليس حيوانا عاقلا كما اعتبره الفلاسفة القدماء، وإنما هو أنوي يحب الأنا ولا يحب الحق والحقيقة. والعقل قاصر عن الإمساك بالحقيقة المطلقة لنقص في بنيته ومحدودية قدراته ولذلك لا يمكن الثقة فيه. وقد ابتكر العقل مكيدة أبشع من مكيدة العقل والحقيقة، لأن هدفه ليس اكتشاف الحقيقة والتمييز بين الخير والشّر، وإنما هو اكتشاف كل ما ينفع في الحياة ويضّر الخصم.
وأن الانسان ليس مدنياً بالطبع، كما يقول أرسطو، وإنما هو وحشي بالطبع ومدني بالتطبع “، مستشهدا برأي الفيلسوف الذرائعي وليم جيمس الذي يرى بأن العقل ليس سوى عضو خلقه الله في الانسان لمساعدته في تنازع البقاء، على نحو ما خلق الخرطوم في الفيل والمخلب في الأسد والسيقان في الغزال والسم في العقرب. والانسان يستخدم عقله لاكتشاف الوسيلة التي تساعده على النجاح في الحياة والتغلب على الخصم. وكما يرى جون ديوي،” فهو كخرطوم الفيل يستعين به لكفاح الخصم ونوال الأنثى والحصول على الطعام”.
والعقل محاط دوما بإطار فكري سميك من القيم والمعتقدات والمصالح التي توجه تفكيره بصورة لاشعورية من اجل اشباع مصالحه. وهذا الإطار الفكري مستمد من المجتمع الذي يفرض على الانسان قواعد وقيم اجتماعية لا يمكن مخالفتها، ولذلك يعتقد بأنه يقف دائما مع الحق والحقيقة.
يقول الوردي: ” فالانسان يحب الحقيقة عندما تكون نافعة له ولكنه يرفضها إذا كانت غير نافعة له”. 
“والناس” يحبون أنفسهم ويعجبون بها قبل كل شيء، أما حب الحق والحقيقة فهو غطاء يسترون به ذلك الحب الأنوي الدفين”.
وهذا ناتج عن تعصب العقل، لأنه غير محايد ولذلك يعجز عن إدراك حقائق الكون الكبرى، وهو محدود بحدود الأشياء المألوفة لديه.
لقد أحدث نقد الوردي للعقل العراقي صرخة ضد التفكير العقلاني المثالي وتعصب العقل البشري وتحيزه، وكذلك ضد تعصب الذات لمصالحها الخاصة، وشن حملة شعواء ضد المنطق الأرسطي القديم وضد العقلاء ووعاظ السلاطين الذين يعيشون في أبراج عاجية، بهدف احداث قطيعة مع أساليب التفكير القديمة والعادات والتقاليد البالية، وفي محاولة لتغيير الذهنية المثالية التقليدية التي سيطرت على تفكير العراقيين وكبلت عقولهم زمنا طويلا.
والسؤال الذي يطرح نفسه : هل قدم الوردي أجوبة شافية لتشخيص عوامل الخلل والتناقض بين ما يفكر به المرء وبين ما يقوم به في الواقع الاجتماعي؟
لعل العودة الى مؤلفات علي الوردي وقراءته من جديد(وخاصة كتابيه وعاظ السلاطين وخوارق اللاشعور)، التي تقدم لنا مؤشرات على مصداقية افكاره وآرائه الاجتماعية لما يحمله عراق اليوم من صراعات وتعصب واحتراب، وتشخيصه لعوامل الخلل الذي أصاب المجتمع والشخصية وتحليله للعقل العراقي المنغلق على نفسه.
لقد كان الوردي شاهدا أمينا على احداث قرن بكامله. فهو نبهنا ووجه انظارنا بنظرته النقدية الثاقبة الى كثير من امراضنا الاجتماعية، وخاصة التناقض بين ما يفكر به المرء وبين ما يسلكه في حياته اليومية .
لقد كونت أفكار الوردي صرخة ضد التفكير العقلاني المتعصب الذي سيطر على عقول الناس وجعلهم ينظرون الى الواقع نظرة مثالية وعظية غير واقعية، محاولا تطوير عقلية تنويرية نقدية تقوم على المنطق العلمي الحديث.
وفي الختام أود ان أشير الى أنه بالرغم من جميع تحليلات علي الوردي العقلانية لمشاكل التراث والدين والمجتمع والشخصية ، فانه لم يخّلص نفسه من أثر العقل البشري الذي وصفه “بالمهزلة”. فهو لم يميز بين العقل الحداثي المنتج وبين العقل الأداتي المتحيز. ولما كان العقل صنيعة من صنائع المجتمع، كما يقول، فسوف يتغير بتغير أحوال المجتمع وظروفه، لان المجتمع هو ايضا متغير وليس ثابتاً.
والحال ان التحولات الجوهرية التي أفرزتها الحداثة وعصر التنوير، كالحرية والتقدم الاجتماعي والعقلانية، هي احدى نتائج الايمان بالانسان وبالعقل البشري الذي هو صانع التاريخ وموضوعه. 
وكما يقول يورغن هابرماس، “لا بديل للعقل سوى العقل نفسه الذي أنتج حداثة أكثر إنسانية وتحررا”.
* هذا المقال موجز للمحاضرة التي قدمت في “مئوية علي الوردي” التي اقيمت في الجامعة الامريكية ببيروت احتفاء بمرور مئة عام على ولادة الدكتور علي الوردي في 14-15 مارس 2014 وقدمت بحوث عديدة لمناقشة أفكاره واطروحاته الاجتماعية. وقد نشر البحث باللغة العربية في المجلة العالمية للدراسات العراقية المعاصرة :
International Journal of Contemporary Iraqi Studies,Volume 8 Number 1, intellect Journal,USA 2014
كما نشر البحث باللغة الإنكليزية في مجلة دراسات عربية معاصرة في لندن: 
Contemporary Arab Affairs, 2014 
___
*المدى

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *