الفيلسوف وسؤال الأنسنة والأرضنة


*عبد العزيز بومسهولي


1- سؤال الفلسفة بوصفها كيفية تعبير عن نمط وجود الكينونة، يقودنا بالفعل إلى المهمة الحقيقية التي يغدو الفيلسوف بموجبها في عالمنا اليوم مسؤولاً مسؤوليةً إيطيقيةً وفكريةً وتاريخيةً تجاه الوجود عامة، والوجود الإنساني خاصة. وبعبارة جد بسيطة فدور الفيلسوف هو أن يتفلسف، أي أن ينشغل بالفلسفة لا بوصفها تخصصًا معرفيًّا دقيقًا، يضاف إلى باقي التخصصات المعرفية الدقيقة فقط، بل بوصفها إمكانية لتفلسف تدخلي قد يؤثر بشكل إيجابي في حياة الموجود على الأرض أيضًا. وبذلك يختلف دور الفيلسوف اختلافًا جذريًّا عن دور العالم المتخصص المهتم بالعلوم الطبيعية أو الفيزيائية، أو عن دور العالم المختص في العلوم الإنسانية الأخرى التي تسعى بدورها إلى أن تكون بمثابة علوم دقيقة فتهتم بالوقائع الإنسانية اهتمامًا موضوعيًّا صرفًا، ويختلف كذلك عن الفيلسوف المنشغل بالفلسفة باعتبارها تخصصًا في تاريخ الأفكار والمذاهب الفلسفية، والذي لا يعنيه أمر العالم في شيء، بل ما يعنيه هو نقل النصوص والتعليق عليها وتأويلها على أبعد الحدود، أي أنّه مهتم بحياة النص أكثر من اهتمامه بالتفلسف مهمةً حياتيةً تهدف إلى تأسيس أفضل حياة ممكنة، مع شيء من الاحتراز من اقتران هذا الطموح بالإيديولوجيات النسقية، وبالمشاريع القومية أو المذهبية ذات الطبيعة التشميلية.
فالفيلسوف – بما هو فيلسوف – يحمل الفلسفة على وجه التفلسف، أعني أنّه يجعل منها إمكانية تكشف قدرة الإنسان المتفلسف على مساءلة العالم من جديد، وعلى حل المشكلات الفلسفية التي ما تفتأ تواجه الوجود الإنساني في عالم العجالة/ المتسارع بفعل الطفرة التقنية وهيمنتها الشاملة على الحياة الإنسانية.
إنّ الأمر يتعلق بالدلالة أو بالمعنى الذي يمكن للفلسفة أن تضفيه على عالمنا الذي تسيطر عليه النزعة الموضوعية الصارمة، والتي سبق لـ”هوسرل” أن انتقدها في كتابه “أزمة العلوم الأوروبية والفينومونولوجيا الترسندنتالية”. وذلك لأنّ هذه النزعة تفهم العلم فهمًا ضيقًا يقصي الأسئلة الحاسمة بالنسبة إلى الوجود البشري، أسئلة المعنى والغاية، الحرية والتاريخ. وبالتالي فنحن إزاء علوم وتخصصات معرفية دقيقة لها هدف رئيسي، هو الموضوعية والصرامة العلمية الدقيقة، أدى بالرغم من مشروعيتها العلمية وصلاحيتها إلى أزمة فقدان المعنى، وإلى الإعراض في لامبالاة عن الأسئلة الحاسمة بالنسبة إلى كل بشرية حقة. إنّ علومًا لا تهتم إلا بالوقائع تصنع بشرًا لا يعرفون إلا الوقائع. لقد غدت الحقيقة العلمية حسب “هوسرل” مجرد تسجيل لما هو العالم، سواء العالم الطبيعي أو الروحي في الواقع. لكن هل يمكن في الحقيقة أن يكون للعالم والوجود البشري فيه معنًى إذا كانت العلوم لا تعتبر حقيقيًّا إلا ما يقبل الملاحظة الموضوعية بهذه الكيفية؟[1]
وفق هذا التصور يغدو الفيلسوف، خادمًا للإنسانية، فلا يمكننا كما يقول “هوسرل” أن نتخلى عن الإيمان بإمكانية الفلسفة بوصفها مهمة، أي بإمكانية معرفة شاملة. نحن بوصفنا فلاسفة جديين نعتبر هذه المهمة رسالتنا كما تنطوي المسؤولية الشخصية المحضة إزاء وجودنا الخاص الحق كفلاسفة يحملون رسالة شخصية داخلية في الآن ذاته على المسؤولية إزاء الوجود الحقيقي للإنسانية الذي لا يعتبر وجودًا إلا بالنظر إلى غاية (Telos)، ولا يتحقق، إذا ما تحقق، إلا بفضل الفلسفة-بفضلنا نحن بشرط أن نكون فلاسفة بجد.[2]
تغدو الفلسفة من خلال هذا المنظور مسؤولية إزاء الوجود الحقيقي للإنسانية. أي إزاء الكيفية التي يحقق فيها الإنسان وجوده على الأرض، ومن ثمّ فالمسؤولية تقتضي الكفاح لتخليص الإنسانية من عداء الروح ومن البربرية المتوحشة، ومن حريق الإبادة، ومن رماد العماء الكبير، قصد انبثاق حياة داخلية جديدة وفعالية روحية جديدة عربونًا لمستقبل كبير وبعيد للإنسان، ذلك أنّ الروح وحدها لا تموت[3].
إذن للفلسفة دور أساسي يتمثل في منْح قيمة للحياة التي يعيشها الإنسان، لذلك فهي لا تقدم نفسها بوصفها تخصصًا معرفيًّا مغلقًا، ولا علمًا صارمًا ودقيقًا، ولا حتى فكرًا يتطاول على اختصاصات العلوم، وإنّما تقدم نفسها أساسًا لمعنى كل معرفة أو علم أو فن، حتى وإن هي الآن لم تعد حاضنة للعلوم مع العلم أنّه من الواجب التذكير بأنّها أم العلوم. ومن ثمّ من حق الفلسفة أن تتساءل عن الغاية من كل علم، أي من حقها أن تربط بين العلم والدلالة المنشودة التي توجه العلم لتحقيق الذاتية الإنسانية.
وبالتالي ليست الفلسفة “لامبالية” فهي لن تكون محايدة، ولذلك فإنها بما هي صوت العقل اليقظ تظل منفتحة على كل التخصصات الدقيقة. فلا تهدف إلى ممارسة وصاية على منهجيتها الصارمة، وإنّما تحذر من عواقب انزلاقها في نزعة تقنية مفرطة في حياديتها، وفي توجهها اللاإنساني، وفي إنتاجها لعقل بشري مهووس بما يقدمه للبشرية من تراكم تكنولوجي لا يستهدف في الإنسان إلا تحقيق رغبة الامتلاء والتملك واكتساح العالم، وإخضاع الإرادات إلى هيمنته، وتسخيرها كوسائل من أجل تجارب تستهدف خدمة نسق عِلْموي يغيب العقل العلمي ذاته ويسلبه إرادته في التفكير، وفي استعادة المعنى.
إنّ مهمة الفلسفة حاليًّا، تتمثل في إيقاظها للعقل الإنساني الذي قد ينساق في غمرة التحولات المتسارعة/الاستعجالية نحو سبات عميق، يفقده قدرته على الاستبصار وعلى الفعل، على المساءلة وعلى المسؤولية، على النقد وعلى الابتكار. فأن نعيش فلاسفةً معناه أن نُساهم على نحو خاص في منح معنى وقيمة لوجودنا مهما كانت المخاطر التي تواجهنا. وأن نتفلسف معناه أن نعيش وفق عقلنا اليقظ، أي وفق أفق إنساني يمنحنا سعادة العيش. بعبارة جد بسيطة أن نتفلسف معناه أن نتأنسن؛ التأنسن هو الفعل الذي يغذي حركة الكينونة تجاه كل آخر بدلالة اللامتناهي المرغوب فيه، الذي يمنح الأنسنة معنى المسؤولية.
2- إذن لا تعني الأنسنة استعادة النزعة الإنسانية الأوروبية، فلا يتعلق الأمر بتمجيد الإنسان على الأرض، تمجيدًا يفضي إلى نوع من الإيدولوجيا المتمركزة على الإنسان باعتباره سيدًا على الوجود، يحق له باسم هذه السيادة أن ينصب نفسه ديكتاتور الوجود مِن غير منازع، فيقضي بذلك على التنوع البيئي والحيواني، وحتى الإنساني ذاته، وهو ما نلمس آثاره اليوم على صعيد الأرض التي غدت تعاني بفعل ذلك كله من انحباس حراري، وتقلص المجال الأخضر، وانقراض كثير من الأنواع الحيوانية، وانتشار ثقافة التنميط وغلبة الأنموذج الاستهلاكي، وتصاعد النزعات المتطرفة الخ. بل إنّ الأمر يتعلق بالعودة إلى فهم الإنسان بما هو إنسان في عالم لا يعيش فيه وحده، عالم تشاركه فيه كائنات أخرى تعد سابقة على وجوده، وهي ضرورية للتساكن الأرضي والتوازن الطبيعي، ولاستمرار هذا الإنسان بالذات على هذه الأرض التي تحتضنه.
تعني أنسنة الفلسفة في تصورنا، استجابة الفلسفة لنداء الإنسان بما هو إنسان، وفي هذه الاستجابة ينكشف التفلسف إمكانيةً لأفق يرضي رغبة الإنسان في حياة جديرة بالتقدير، وفي أن يعيش على نحو يحقق كينونته بالنظر لانتمائه إلى بشرية مشتركة.
تفترض أنسَنة الفلسفة تدشين أسلوب تفكير جديد لا يستهدف الإنسان بوصفه مركز الوجود (الكلي) ومحور العالم (الإنساني)، بقدر ما يستهدف الكيفية التي يوجد عليها الإنسان. ثمة فرق جوهري بين النظر إلى الإنسان باعتباره مركزًا للوجود، وباعتباره “مقياسًا لكل شي” في العالم، وبين النظر إليه باعتباره كيفيةً من كيفيات الوجود. النظرة الأولى تقودنا إلى نزعة إنسانية مفرطة في إنسانيتها، في ادعاءاتها، وفي غاياتها، أيْ أنّها لا تخدم سوى نرجسية إنسانية محكومة بهاجس الهيمنة على الوجود واستنزاف طاقته وتسخير كل موارده، وتحويل التقنية والعلم إلى أداة سيطرة على الوجود الإنساني ذاته، أي تحويل العقل الإنساني إلى وسيلة لممارسة السلطة وفق هذه الرؤية تغدو النزعة الإنسانية في ظاهرها نزعة عقلانية لكنها في العمق نزعة استحواذية تسلطية غايتها إخضاع الإنسان لسيطرتها.
ليست المسألة متعلقة فقط بإنتاج كائنات إنسانية منمطة لا تكترث بإمكانية إبداع نمط عيشها الخاص، بقدر ما تنقاد بحركة “غفلية” لنمذجة العقل التقني، ولكن المسألة متعلقة أيضًا بغياب الروح الإنساني واغترابه داخل عَالم موجه، عالم قد يسقط في شرك التناحر والصراعات الدموية التي تغذّي السلوك الوحشي لدى البشر. وبذلك تنقلب النزعة الإنسانية على ذاتها لتغدو نزعة وحشية لا إنسية.
أما النظرة الثانية أي النظرة التي تعتبر الإنسان كيفية من كيفيات الوجود، أو بالأحرى مجرد تعْبير: الإنسان تعبير L’homme est expression، فهي لا تقودنا إلى نزعة متمركزة على ذاتها، مفرطة في إنسانيتها؛ والإفراط في الإنسانية نوع من التوحش المضاد للطبيعة وللغيرية في آن معا، بل تقودنا إلى إنسية مغايرة، تعيد فهم الإنسان بما هو كينونة حرة مسؤولة، مشروطة بالغيرية التي تقيد أفعالها الحرة. وهذا التقييد هو منبع كل مسؤولية وأصل كل معنى إنساني، أي هو منبع الأنْسَنَة ذاتها.
فما هي الأنْسَنَة إذن؟
“الأنسنة” هي انكشاف لنمط كينونة الإنسان بوصفه تعبيرًا، أي باعتباره كيفية من كيفيات وجود “بيإنساني” inter-humain يضفي المعنى والقيمة على العالم الذي يشارك فيه الإنسان بوصفه عقلاً يقظًا، أو علة تأسيسية لموْجودية الكينونة. وتعني الموجودية وجودًا خاصًّا للذات في ارتباطه بوجود الآخر الذي يشارك معه العالم المعيش. فالموجودية تقييد لكل أنا بشري من الانزلاق نحو شعور بأنوية متضخمة منعدمة الإحساس بالغير. أنا موجود تعني أنّني أوجد ككائن محدود/متناهٍ بجوار أنويات أخرى تتقاسم الوجود نفسه. وبالتالي فأنا أوجد لأنّ ثمة آخر يمنح وجودي قيمة الموجودية. وهذه الأنا ليست إلا تعبيرًا عن محدوديتي في الزمان والمكان، وما دامت كذلك فهي وعي بمسؤوليتي الفردية تجاه الغير بإطلاق. أنا لا أوجد لأنّي أفكر، بل أوجد لأنّ التفكير الذي أحوزه ليس إلا نتيجة لعلاقتي بالغير السابق على وجودي. إذن أنا أوجد لأنّ هناك غير متقدم عليَّ، ومن غيْرِ هذا الغير تستحيل واقعة التفكير والوجود في آن معًا.
تفضي “الأنسنة” من هذه الوجهة إلى نزع السيادة المفرطة عن الكائن الإنساني، وإرجاعه إلى حجمه الطبيعي داخل الوجود أي إلى كونه كائنًا عابرًا في مجرى صيرورة الوجود. والأنسنة تعبير عن هذه الكينونة العابرة، وهي صيغة لتحول الإنسان نحو الغيرية، نحو المسؤولية بالرغم من ذاته. ذلك لأنّ مبدأ المسؤولية هو منبع كل أنسنة، والأنسنة هي انكشاف لمعنى الإنسان فينا انطلاقًا من الآخر. وبذلك تستحيل الأنسنة، ويتعذر انكشافها، باختزال أو إخضاع الذاتيات الآخرية في أي مشروع تشميلي أو هوياتي ممجد لذاته وإرادته.
انطلاقًا من التأملات السالفة، نستطيع أن نقول بأنّ الفلسفة عمومًا – اللهم إلا في لحظات اغترابها في الأنطولوجيا الكلية، أو في التيولوجيا- هي مشروع إنسي، مشروع مهمته أنسنة العالم، وبذلك فهي تغدو كيفيةً للعيش. وأنّ التفلسف هو أسلوب فلسفي للتمرن على الحياة المؤنسنة، وهذا لا يعني فقط الانغماس في التفكير والتأمل وإنتاج التصورات وإبداع المفاهيم، بل يعني أيضًا وبالموازاة مع كل ذلك، إقدار الكائن الإنساني عمومًا في لحظة إشراق الفلسفة، والمتفلسف خصوصًا على الوجود الحر، والوجود الحر هو بداية أنسنة العالم المحيط، أنسنة تقود التجربة الحرة للإنسان إلى بناء عالم يتقاسم المسؤولية أولاً، وينْعَم بحياة السِلم الناتج عن الوفاق والانسجام وليس الناتج عن القوة الغاشمة والإكراه واللاعتراف، ونبذ الآخر.
إذن فغاية التفلسف هي تأسيس حياة فلسفية تؤنسن العالم، أي أنّ هذا التفلسف يندرج في بناء عام معيش يحقق فيه الإنسان ذاته الخاصة في انسجام مع الطبيعة. وهو الانسجام الذي يحافظ على ارتباط الإنسان، بما هو كائن أرضي، بالأرض. وبذلك تكون الفلسفة هي حِكْمة الأرض، أي أنّها فلسفة أرضية مرتبطة بإبداع فن العيش الأرضي، وتلك هي مهمتها الأصلية، منذ العصر الإغريقي، وهذا ما يراه أيضًا “سبونفيل”. لقد غدت الفلسفة الإغريقية، بدءًا من سقراط، مهتمة بموضوع أساسي هو الإنسان، كما اهتمت بحياته، وأصله، ومصيره، وبسعادته. ومع سقراط غدا معظم الفلاسفة الإغريقيين فلاسفة سعادة، فاعتبروا السعادة هي الخير الأعظم. ومن ثمّ فتعلم الفلسفة يعين الكائن الإنساني على أن يكون أكثر سعادة، أي أنّ التفكير الجيد يساعد الإنسان على حياة أفضل. فضلاً عن أنّ الحياة الفلسفية تقود حسب أرسطو إلى الاقتراب من الحكمة، والحكمة هي التي تضيء بنور العقل الحياة السليمة والآمنة، فالرجل (الحكيم) الرفيع القدر هو الذي يتبع في حياته (طريق) العقل، هو الذي لا يقع ضحية للصدفة، بل يعرف أكثر من غيره من الناس كيف يحرر نفسه من كل ما يخضع لها. فإذا استطعت أن تهب نفسك دائمًا لهذه الحياة عن اقتناع كامل أمكنك أن تحيا حياة آمنة مطمئنة حسب ما ذهب إليه “أرسطو” في دعوته للفلسفة .
3- إذن فالتفلسف هو شرط حياة جديرة بالإنسان على الأرض. ومن خلال هذا المنظور القديم /الجديد نستطيع أن نقول بأنّ التفلسف هو أنسنة، أو هو كيفية من كيفيات العيش، في الأرض، على نحو إنساني، أي أنّ الأنسنة ما هي إلا تعبير عن الإنسان الأرضي، الذي يقوده تفلسفه إلى تبصر علاقته بالأرض، إلى اكتشاف الحميمية المانحة للقيمة والمعنى، والمولدة لاستشعار المسؤولية الحِمائِية للأرض. إذن تغدو الأرض وفق هذه الأنسنة إشكالاً فلسفيًّا، بمعنى أنّها بحث في إشكالية الأرْضَنَة. وتعني الأرضنة في مدلولها الأصلي الانتماء إلى العالم الأرضي، وفي مدلولها الفرعي تعني النظام العلائقي الذي يربط الكائنات الإنسانية بما هي كائنات أرضية بعضها ببعض، في إطار المواطنة الأرضية التي غايتها تقدير كل كائن إنساني أرضي بما يستجيب للأفق الحقوقي، أي بما يضمن لِكل فرد أرضي حقه في العيش بكرامة وحرية، أو الحق في جسديته الكاملة، ذلك لأنّ الجسدية هي تعبير عن الانتماء الأصيل إلى الأرض، وهي التحقق العيني والملموس للإرادة الجسد، فإرادة الجسد هي إذن انكشاف للأرْضنة أو لكيفية وجود الجسد باعتباره من ناحية أخرى “كائنًا -في -و-من أجل- الأرض”.
تفرض التحولات الكبرى التي يشهدها العالم – منذ انهيار جدار برلين وإلى ما يسمى بالربيع العربي، ومنذ انهيار الحدود الثقافية العتيقة نتيجة الثورات الإعلامية المتلاحقة التي انتهت أخيرًا إلى شكل من التواصل الاجتماعي عبر الأنترنيت- شكلاً جديدًا للأنسنة. في هذا الشكل الجديد يظهر الإنسان بوصفه كائنًا -في-و- من أجل- الأرض، أي يتحول من كيفية وجود شجرية/عمودية يكون أفقها محدودًا في المكان والزمان ومرتبطًا بالهوية القطرية أو حتى العشائرية، إلى كيفية وجود جَدْمورية/أفقية ممتدة وشديدة الكثافة على المستوى العلائقي، ومن ثم فالكائن -في-و-من أجل- الأرض هو كائن جُدموري “بالتعبير الدولوزي”، هو كائن يجدر هويته بالأرض في كليتها، كما لو أنّه في أي مكان، فهو إذ ينتمي إلى تربته الأصلية المحدودة، فإنّ ارتباطاته غدت لا نهائية.
نحن إذن أمام مفهوم “الأرضنة” أو شكل الاستيطان الجديد في العالم، الذي أنتج سيولة هائلة من المعنى، وتدفقًا غير مسبوق للقيم الجديدة التي تروي كل أرض تعاني من الظمأ الإنساني، والحرمان الوجداني.
مع مفهوم الأرضنة انتشر وعي يقظ جديد هدفه توْكيد إرادة الحياة، توكيد الحق في الأرض، بمعنى أنّ الكينونات الفردية والجماعية، لم تعد راضية بالحرمان الوجودي-الأرضي، فغدت مطالبة بحقها في إعمال إرادتها اليقظة من أجل تقاسم العالم المَعيش وتدبير المصير المشترك، أي من أجل الانتماء إلى الأفق الإنساني الحر. ولذلك نستطيع أن نفهم ما يجري حاليًّا في البلدان العربية من حراك اجتماعي غير مسبوق.
تعبر الأرضنة عن نسق مكثف من العلاقات الإنسانية التي تتجلى في اللقاء الافتراضي للذوات بنظيراتها في العالم الأرضي، أي من خلال تجربة الاقتراب من الغير عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وتتجلى في إعمال الإرادة الذاتية الفردية والجماعية التي تطالب بالحق في الاستمتاع بوجود أرضي حر، على نحو ما تحقق أو يتحقق في العوالم “الديمقراطية” الأخرى. فالأرضنة هي كيفية من كيفيات استيقاظ الإرادة اليقظة عبر التلاقح البشري. أساس كل كينونة إنسانية يكمن في يقظة الوعي بالإرادة، غير أنّ منبع كل يقظة يكمن بدوره في اللقاء بالغير، في التفاعل البيإنساني ومن ثمّ فالكينونة هي نتاج التلاقح، هي استنبات جدموري للوعي بالذات. ويمكننا أن نقول بأنّ كيفية الظهور هذه هي كيفية نباتية. فالكائن الإنساني بما هو كائن أرضي يستعير لكي يتجاوز هويته الحيوانية، السلوك النباتي. الكيفية النباتية تخلص الإنسان من عنف الهوية وانغلاقها على ذاتها، ومن غفلية الوجود، من منغلق الحيوانية، من الرغبة العمياء في الدم، فهذه الرغبة هي المسؤولية عما يلحق الإنسانية النباتية من جرائم فظيعة تتمثل في الحروب العدائية وفي إبادة الآخر، وفي أساليب العقاب البدنية، أي في التعذيب بشتى أنواعه، في التدخل العنيف لقمع التظاهر السلمي النباتي -الإنساني، وفي كل سلوك حيواني شرس حتى ولو كان معنويًّا.
يظل الإنسان حيوانًا صرفًا، مادام منغلقًا، خاضعًا لما يسميه “سبينوزا” لانفعالات النفس، والخضوع لانفعالات النفس هو عين العبودية، والإنسان لا يصير إنسانًا حقًّا إلا بفعل برانيته، أي بفعل تفتحه بكيفية نباتية على الآخر، فلابد للإنسان لكي يتخلص من عنف الضرورة العمياء من استعارة الكيفية المغايرة للحيوانية، أي أن يصير آخر نباتيًّا، أو كيانًا حيوانيًّا/نباتيًّا. كيانًا مزدوجًا يحافظ في الآن ذاته على غرائزه وشهواته التي يحقق من خلالها رغبته في البقاء، ويستنبت داخل ذاته رغبته في الآخر. ذلك لأنّ التلاقح على الكيفية النباتية يجبره على أن يكون مُسالمًا، أي إنسانًا متحررًا من سلطة الشهوة والغريزة المفرطة، وراغبًا في الحياة الإنسانية بما هي تجربة عيش في أفق الآخر المغاير، تجربة تواشج أرضية أي أنّها تجربة أرْضَنة جدمورية، وأنّ هذه التجربة هي التي تجعل كل تفاهم بيإنساني ممكنًا. وبذلك يتضح بكيفية استعارية أنّ الأنسنة ما هي إلا كيفية لانتشال الإنسان عن الحيوانية أي أنّها تخلصه من سلوكه الشرس تجاه أقرانه من البشر.
إذن فالأرضنة الجدمورية هي حياة المدينة، التي تحقق فيها الكينونات بكيفية نباتية وجودها المتواشج؛ كل كينونة هي في اتصال دائم عبر الوعي اليقظ مع الآخرين الذين يشاركونها تجربة العيش وفق قوانين الجوار ومبادئ المواطنة. أما الأرضنة الحيوانية فهي على النقيض من الأرضنة الجدمورية حياة الغاب، والإنسان في مساره التاريخي لا يستطيع أن يتحرر بشكل كلي من الحيوانية المتأصلة فيه، والتي تعتبر ضرورية لوجوده ولكنه يستطيع أن يستثمر “الحيوانية” لتغذية إمكاناته وقدراته الذاتية على الإنتاج والإبداع. فضلاً عن أنّه يستطيع توظيفها في مجال تدبير الصراع السياسي والاجتماعي والثقافي، فبقدر ما يتم احتواء الحيوانية إيجابيًّا بقدر ما نصون علاقاتنا الاجتماعية من التناحر والإقصاء والكراهية واللاتسامح لصالح التفاهم والتشارك والتسامح، ولصالح الاختلاف الذي يجعلنا متمايزين متمسكين بنمط وجودنا الخاص، من غير أن يشكل هذا الاختلاف أي تهديد للتعايش.
إذن لن تبدأ حياة فلسفية جديرة بحياتنا إلا انطلاقًا من أرضنة جدمورية تكون قد استنبتت فضاءً “بيإنسانيًّا” مغايرًا، فضاء يحقق فيه الإنسان إرادته اليقظة، أي رغبته في حياة إنسانية حقيقية. وتظل أنسنة الفلسفة في عالمنا اليوم خاصة في العالم العربي، إمكانية لابتكار الحاضر واستدعاء أرضنة جديدة تحتضن الوجود الإنساني المشترك. أرضنة صلبة تتأسس عليها مقاومة كل ابتذال ورداءة، أرضنة تستعيد تجربة الفرح بما هي اقتدار هائل على تحمل الوجود من جهة وعلى إبداع الديمومة من جهة أخرى. فهل نستطيع فعل شيء للعالم بالتفلسف؟ نعم بالتأكيد نستطيع، فالفيلسوف لا يدعي تغيير العالم، ولكنه يقدر على تغيير شيء بسيط في العالم، وهذا هو الفرق بينه وبين المناضل الإيديولوجي. نعم الفيلسوف هي نعم للحياة أيضًا، نعم التي تحصن الذات من الابتئاس والتشكي الدائم من أخطاء العالم والبشر، وترشدها نحو سعادة الكينونة[4].
[1] هوسرل: أزمة العلوم الأوربية، والفينومونولوجيا الترسندنتالية. ترجمة إسماعيل المصدق. المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2008، ص 44

[2] المرجع نفسه، ص 60

[3] المرجع نفسه، ص 559

[4] نستنير هنا بقول لفناس في الكلية واللاتناهي، بحث في البرانية: حب الحياة لا يحب الحياة، بل يحب سعادة الكينونة. ص 154 طبعة مارتينوف نيجحوف 1971
____
*مؤمنون بلا حدود

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *