*د .يسري عبد الغني عبد الله
خاص ( ثقافات )
إن المعنى اللفظي لكلمة Geometry، هو قياس الأرض ، وهو ما نسميه اليوم علم المساحة Surveying ، وقد نشأ هذا العلم نتيجة الحاجة العملية للمزارعين في بلاد ما بين النهرين (العراق الآن) ومصر ، ذلك لأنهم كانوا مضطرين لقياس مساحات الأرض الزراعية المخصصة لهم وتقسيمها ، وفي مصر كان الفيضان السنوي لنهر النيل هو الذي يخصب الأرض الزراعية ، وكان هذا يحدث قبل بناء السد العالي جنوب مدينة أسوان المصرية ، حيث يضطر المزارعون إلى إعادة تخطيط الحقول الزراعية ، لأن مياه الفيضان تمحو آثارها .
وقد تدرج الأمر بتلك الطرق البدائية لقياس الأرض إلى استخدامها في المباني ، وتقف المعابد القديمة في مصر ، وفي بلاد ما بين النهرين بطرقها وقنواتها ، شاهدًا على مدى ما بلغوه في هذا الشأن ، ولو أن كل ذلك ليس في الواقع الهندسة التي نعرفها في أيامنا هذه ، والكلمة أصلاً وضعها الإغريق ، لأنهم هم الذين كانوا أول من أحال جميع قواعد القياس العملية إلى فرع منظم من فروع الرياضيات .
وقد ظلت عبارة الرياضيات الإغريقية لدى أجيال عديدة تعني إقليدس Euclid ، بالرغم من أنه كان يوجد العديد من علماء الرياضيات من الإغريق قبل عهد إقليدس بما يقرب من ثلاثة قرون ، وتعزى أولى البراهين الرياضية إلى (طاليس الميليتي) الذي عاش حوالي عام 585 قبل الميلاد ، بينما نحن نعلم أن إقليدس كان يعمل في عام 300 قبل الميلاد ، وكان يدرس في مدينة الإسكندرية المصرية التي تقع غرب دلتا نهر النيل ، وكانت قد توسعت وأطلق عليها الاسم الجديد نسبة إلى الإسكندر الأكبر المقدوني في عام 332 قبل الميلاد ، وسرعان ما أصبحت أهم مراكز النفوذ الإغريقي خارج بلاد اليونان ، وهو ما نسميه اليوم بالثقافة الهيلينستية .
والظاهر أن إقليدس لم يكن مخترعًا أو مبدعًا أو مبتكرًا بمعنى الكلمة ، بقدر ما كان مسجلاً لاكتشافات غيره مستنبطًا منها ، وعلى هذا الأساس يعتبر أعظم أساتذة الرياضيات في جميع العصور .
وكان أهم مؤلفاته كتاب (الأصول) ، وهو الكتاب الذي ظل مرجعًا لأكثر من 2000 سنة ، إذ لم يبد أحد من علماء الرياضيات من الدقة ما يفوق ما توصل إليه إقليدس إلا في القرن التاسع عشر ، وإلى ذلك الوقت ، ظل كتاب (الأصول) المثل الكامل للنظرية التي نصل إلى نتائجها عن طريق الافتراضات الموضوعية بطريقة نظامية ، وهو ما نسميه بالنظرية الاستنتاجية .
وعليه فمن مجموعة صغيرة من الافتراضات الأساسية أو الأوليات مقرونة بالتعاريف الدقيقة والتفكير المنطقي ، توصل إقليدس إلى استخلاص عدد كبير من النظريات المحكمة التنسيق .
كانت الأوليات في عرف إقليدس عالم الرياضيات واضحة لا تحتاج إلى شرح ، أما اليوم فلم نعد نشعر بنفس الثقة التي كان يشعر بها إقليدس ، ومن ذلك أنه كان مقتنعًا بأن أي مستقيمين يقطعان مستقيمًا ثالثًا ، ويكونان بذلك زوايا داخلية في جهة واحدة ، يبلغ مجموعهما أقل من زاويتين قائمتين .
وبذلك فإن هذين الخطين لابد أن يتقابلا ، ومعنى ذلك أنه لا يمر بتلك النقطة سوى مستقيم واحد فقط ، لا يقابل المستقيم الأول ، وهو ما يسمى بالمستقيم الموازي ، وقد كان هذا الاستنتاج بالنسبة لإقليدس يعتبر من الأوليات ، ولكننا اليوم لا نعتبر ذلك أوليًا بديهيًا ، فقد ظل علماء الرياضيات طيلة المائتي والخمسين عامًا الأخيرة يحاولون استخلاص بديهية التوازي هذه من الافتراضات الهندسية الأخرى لإقليدس .
ولكن محاولتهم ذهبت سُدى ، وإذا نحن غضضنا النظر عن بديهية التوازي هذه ، لكان باستطاعتنا أن ننشئ طرقًا أخرى للنظريات الهندسية تكون بنفس الترابط ، وهذه الطرق هي ما يطلق عليها اسم (اللا إقليدية ) ، وقد أصبحت على درجة كبيرة من الأهمية في العلوم الحديثة ، ويجدر بالذكر هنا أن نظرية أينشتاين العامة في النسبية ، تستخدم إحدى هذه الطرق اللا إقليدية .
وإذا رجعنا كثيرًا إلى الوراء ، ونحن نقرأ في تاريخ الرياضيات ، نجد أن فيثاغورس اكتشف في القرن السادس قبل الميلاد أن قطر المربع لا يمكن قياسه على أساس أنه نسبة عادية من ضلع المربع ، وقد عبر عن هذا القطر بأنه غير قابل للقياس ، وهي عبارة ترجمها الرومان فيما بعد بقولهم : إنها غير منطقية ، وهو نفس التعبير الذي نستخدمه اليوم في دراسة الرياضيات .
وقد كانت الأعداد غير المنطقية ضربة قاسية لجموع الباحثين والدارسين لعلوم الرياضيات في ذلك الوقت ، لأنهم كانوا على خطأ في ظنهم أن جميع الأطوال يمكن قياسها كنسب يمكن التعبير عنها بأعداد صحيحة .
أقول لكم : ومهما يكن من أمر ، فقد استنبطوا طريقة لاستخدام الأعداد الصحيحة للاقتراب أكثر فأكثر من تلك القياسات ، وعلى العموم ، فإن وسائلهم لاستخراج النسب كانت (هندسة) ، وقد أشار إقليدس في كتابه (الأصول) إلى هذه الوسائل بالتفصيل .
وإذا نظرنا في تلك الوسائل لوجدناها تبحث في الحساب ، وتقدم البراهين على بعض النظريات الأولية المتعلقة بالأعداد ، ومن أشهر تلك النظريات تلك الخاصة بما يسمى بالأعداد الصماء ، وهي الأعداد التي ليس لها عوامل تحليلية ، وقد بين إقليدس أنه مهما كان العدد الأصم كبيرًا ، فإن هناك دائمًا أعدادًا أكبر منه .
ونضيف هنا : أن إقليدس ، كتب في موضوعات أخرى بخلاف علوم الرياضيات ، وإن كانت معظم كتبه قد فقدت ، ولكن كتابيه عن (البصريات) و (الموسيقى) بقيا لنا ، وقد نهل منهما العديد من العلماء والبحاثة والدارسين الذين جاءوا من بعده في مختلف العصور.
هناك قصتان وصلتا إلينا ، تدلان على أي نوع من الرجال ومن المعلمين كان إقليدس الذي نكتب عنه هذه السطور ، تروي القصة الأولى : أن فرعون مصر طلب من إقليدس ذات يوم أن يعلمه الهندسة بطريقة سهلة مبسطة ، وقد أجاب إقليدس على ذلك بقوله : لا يوجد طريق ملكي للهندسة !! .
وتروي القصة الثانية : أن إقليدس سمع يومًا أحد تلاميذه يسأل عن الفائدة التي تعود عليه من دراسة الهندسة ، فبادر المعلم على الفور باستدعاء أحد العبيد ، وطلب منه أن يقدم للتلميذ قطعة من النقود ، وقال : مادام هو يصر على أن يربح من كل ما يتعلمه !! .
وتحتفظ لنا كتب تاريخ الرياضيات ببعض الصور القديمة أو المتخيلة ، تظهر لنا عالم الرياضيات إقليدس ، وهو يرسم أشكالاً هندسية ، مستخدمًا ما يشبه المسطرة و الفرجار (البرجل) ، يرسم بها على عدة أوراق أمامه أشكالاً هندسية مثل الدائرة ، ومتوازي الأضلاع ، والدوائر المختلفة .
______
* باحث وخبير في التراث الثقافي
Yusri_52@yahoo.com