“البحث عن دينا”.. قداسة المولوتوف لا الثورة


*أحمد شوقي علي


تبدو كتابة نص إبداعي عن حدث راهن، ما زال قلبه مفتوحًا، معضلة، أكثر منها تحدياً أمام أي كاتب. ولحدث مثل الثورة المصرية أن يجعل الأمر أكثر إرباكًا. فكيف لرواية أن تُكوّن وجهة نظر عن واقع لا يستطيع هو نفسه أن ينجلي عن ضبابيته؟
لكن للروائي المصري محمود الورداني، غاية أخرى من استعمال الثورة كأساس لروايته الأحدث “البحث عن دينا”. فالرواية التي صدرت عن “الكتب خان” في القاهرة في 125 صفحة من القطع المتوسط، لا تسعى لتكوين وجهة نظر عن الثورة، وإن حفلت بتصدير الآراء، وإنما غايتها توثيق ما حدث، وهو الهدف الذي قد يبدو سطحيًا في بادئ الرواية، حين يتساءل القارئ عن جدوى تدوين تلك الأحداث. لكنه عندما يتأثر بما سيقرأه من سرد لأحداث شبيهة وقعت في سبعينات القرن الماضي، سيتغير سؤاله عن جدوى التدوين، ليصبح التساؤل عن وقع تلك الأحداث المدونة عن ثورة يناير وما تلاها حتى 30 يونيو، على قارئ مفترض للرواية بعد 30 أو 40 سنة من الآن.
لا يعني ذلك أن “البحث عن دينا” مجرد شهادة توثيقية لما جرى في أحداث محمد محمود أو عزل مرسي، فالورداني لم يكتب رواية توثيقية محضة، وإنما صنع ما يمكن أن نسميه “سيرة فانتازية”. فبالرغم من أن بطل الرواية هو الكاتب نفسه، وأن شخصياته مكونة من صديقيه الفنان التشكيلي محمد شهدي، ومالك عدلي، وغيرهما من النشطاء المصريين، إلا أنه أيضًا سيجد أشباح نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى الطاهر وأروى صالح تسير في ميدان التحرير، كما سيجد نعوشًا طائرة وملائكة تنتزع أجنحتها، وأن “دينا” نفسها التي يحمل عنوان الرواية اسمها أقرب ما يكون إلى هاجس في ذهن الكاتب أكثر منها شخصية واقعية أو حتى مكتوبة على الورق.
لكن ما الذي تريد الرواية توثيقه عبر هذا القالب الفني الذي اختاره كاتبها؟ يبدو محمود الورداني أكثر اهتمامًا بإظهار الوجه المتمرد للثوار خلال الأحداث كلها التي أعقبت اندلاع يناير، فهو يسخر منذ البداية من كل تسمية أو وصف لسلمية الميدان وطهارة شبابه، فالثورة في روايته هي معركة بكل ما تحتمله الكلمة من معنى، والقداسة فيها لمولوتوف الثوار في وجه بنادق النظام…”صفحة خالد سعيد تنشر بيانًا هو عار على الثورة وعلى مجاذيبها، نص البيان إن أول من افتعل الاشتباكات مجموعة من الصبية. إن أزمتنا ليست مع أوغاد الداخلية، علينا الرحيل من الشارع تجنبًا للدماء، بيان إصلاحي فاشل يا زينب، أي دماء نتجنبها وقد سقط صاحبنا الصبي “جيكا”؟ نحن من فعلناها يا زينب، ونحن من سنكررها”، والنص هنا لاقتباس من مدونة الناشط أحمد بحار، أفرد له الورداني فصلًا كاملًا.
كما يبدو الورداني أيضًا أكثر صراحة من غيره من الأدباء –الكبار سنًا- الذين تصدوا إما للكتابة أو إبداء الرأي حول الثورة. فهو مشغول بعقد مقارنة مع ما جرى، وما شارك فيه جيله من كتّاب الستينات والسبعينات من احتجاجات ضد نظامي ناصر والسادات، لكن في إطاره النوستالجي، من دون رغبة في إبراز أحداث الماضي وكأنها توطئة لما جرى أو يجري في الحاضر… “شهدت ما لم أشاهده من قبل. كانوا كلهم شبابا في أوائل العشرينات، وتذكرت حبسات سابقة في سكون طرة وأبي زعبل والمرح والقناطر رجال، تذكرت أصحابي في تلك الحبسات، الذين ماتوا وأولئك الأحياء. وتذكرت أيضًا أن أغلب ما سُجنّا من أجله، أحلامنا وأوهامنا، ربما لم تتحقق إلا أن هؤلاء الأولاد الصغار المحيطين بي بدوا أكثر حماسة منا، وإن كانوا لا يقلون عنا نزقًا”.
تسير الرواية في خطها الدرامي معتمدة على صحبة الشابة العشرينية “دينا”، للورداني العجوز الستيني –كما يصف نفسه- وكأنها بوصلته للنزول إلى الاحتجاجات في ميدان التحرير، أو في ضياعها منه ومحاولته البحث عنها في الاحتجاجات نفسها. وعلى الرغم من محاولات الورداني الإيحاء بحقيقية “دينا” وكأنها جزء من الجهد التوثيقي للرواية، إلا أنها تبدو كهاجس ذهني اخترعه خياله، أو كأنها مزاجه الخاص الذي لا يحتاج معه أية مكيفات أو طقوس “احتجاجية”، مثل تلك التي كان يسلكها بصحبة صديقه التشكيلي محمد شهدي. فقبل كل مظاهرة يشارك فيها مع شهدي كانا يحرصان على تدخين الحشيش أولًا. أما دينا فكانت تصحبه “فائقاً” وفي بعض الأحيان قبل أن يحتسي قهوته حتى.
وعلى الرغم من تلك المزاوجة التي توحي بتقدير الورداني لفعل الشباب، إلا أنه لم ينجرف لأسطرة ما قاموا به خلال الثورة وما تلاها… “بعد الثورة رسم شهدي عددًا كبيرًا من بورتريهات الشهداء اعتمادًا على صورها المنشورة في الصحف والمجلات. كان من بينهم بنات وأولاد صغار السن، بعض هذه البورتريهات، كان بألوان الزيت والبعض الآخر كان بأقلام الفحم أو الحبر الشيني. رسم ملامحهم فقط ولم يحاول مطلقاً إضفاء أي مسحة من القداسة أو الهالات المحيطة بالوجوه أو الأجنحة، بل على العكس تمامًا، كان حريصًا على أن تكون ملامحهم صاحية، بعضهم كان يبتسم، والبعض الآخر كان ينظر للمتلقي باستقامة أو بلا أي تعبير، وهكذا فإن الشهيد كما رسمه شهدي لم يكن شهيدًا في الحقيقة، بل واحد من الناس”. 
ولا يقف الجهد التوثيقي للورداني عند أحداث الراهن الثوري، وإنما تمتد غايته لتوثيق كل ما يخشى عليه من النسيان، مثل أحداث الاحتجاجات الطالبية العام 1972 التي قامت ضد نظام السادات لحثه على محاربة العدو الصهيوني، وكذلك عنايته بتوثيق كامل لمزاج المصريين خلال فترة الستينات والسبعينات، والتغيير الذي أجبر عليه ذلك المزاج، خلال فصل كامل تجول خلاله بين غُرز الحشيش في القاهرة السبعينية كافة، مبرزًا محاولات الحكومة القضاء عليها لإفساح الطريق أمام تجارة الهيروين والبانغو، ومثمنًا في الوقت نفسه من خيال الحشيش دونًا عن غيره من أنواع الكيف كلها… “وبينما كان الحشيش يضاعف من قدرتك على الاحتمال، فإن البانغو كان رذلاً، سواء في رائحته الزفرة أو دماغه الثقيلة ويدفعك للكسل والبلادة والسكوت وعدم الحركة، ولكن لم يكن هناك سواه لسنوات، هي سنوات البانغو وحسني مبارك وفتحي سرور وصفوت الشريف”.
ما يجعل رواية “البحث عن دينا”، رغم تسرعها الواضح في الحكم على حقبة الإخوان المسلمين باعتبارها الفترة السياسية الأكثر سواداً، رائدة في خط نوع أدبي مختلف عن الطرح الفني والجمالي للرواية التوثيقية المعتادة.
___
*المدن

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *